نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حكم المفقود في أهله وماله

          ░22▒ (باب حُكْمِ الْمَفْقُودِ) حال كونه (فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ) وحكم المال لا يتعلَّق بأبواب الطَّلاق، ولكنَّه ذكره هنا استطراداً، وحُكْمُ الأهل يتعلَّق به، ولكنَّه ما أفصح به اكتفاء بما يذكره في بابه جرياً على عادته في ذلك (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ) أي: سعيد بن المسيَّب (إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ) في سبيل الله (تَرَبَّصُ) بفتح الفوقية وضم الصاد المهملة، أصله: تتربَّص، فحذفت إحدى التَّاءين، يعني: تنتظر (امْرَأَتُهُ سَنَةً) كذا في جميع النُّسخ والشُّروح وغيرها من «المستخرجات» إلَّا ابن التَّين، فإنَّه قد وقع عنده: ستَّة أشهر، فلفظ ستَّة تصحيف، ولفظ أشهر زيادة.
          وهذا التَّعليقُ وَصَلَه عبدُ الرَّزاق بأتم منه، عن الثَّوري، عن داود بن أبي هند عنه قال: إذا فقد في الصَّف تربَّصت امرأتُه سنة، وإذا فُقِدَ في غير الصَّف فأربع سنين.
          وروى أشهب عن مالك: أنَّه يُضْرَبُ لامرأته أجلُ سَنَةٍ بعد أن يُنْظَرَ في أمرها، ولا يُضْرَبُ لها من يوم فُقِدَ، وسواء فُقِدَ في الصَّف بين المسلمين، أو في قتال المشركين. وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك: إذا فُقِدَ في المعترك، أو في فتن المسلمين بينهم أنَّه يُنْتَظَرُ يسيراً بمقدار ما ينصِرفُ المنهزمُ، / ثمَّ تَعْتَدُّ امرأتُه ويُقْسَمُ مالُه.
          وروى ابن القاسم، عن مالكٍ في المفقود في فتن المسلمين: أنَّه يُضْرَبُ لامرأته سنة، ثمَّ تتزوَّج. وقال الكوفيُّون والثَّوري في الذي يفقد بين الصَّفين كقولهم في المفقود، ولا يُفَرَّقُ بينهما. والكوفيُّون يقولون: لا يُقْسَمُ مالُه حتى يأتي عليه من الزَّمان ما لا يعيش مثله. وقال الشَّافعي: لا يقسم ماله حتى تُعْلَمَ وفاتُه.
          (وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ) ☺ (جَارِيَةً، وَالْتَمَسَ) بالواو، وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <فالتمس> بالفاء (صَاحِبَهَا سَنَةً) إذ غاب عنه؛ أي: طلب بائعها ليسلِّم إليه الثَّمن (فَلَمْ يَجِدْهُ) وفي رواية الكُشْمِيْهَني: <فلم يوجد> (وَفُقِدَ) بضم الفاء وكسر القاف على البناء للمفعول (فَأَخَذَ) أي: ابن مسعود ☺ (يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ) للمساكين والفقراء من ثمن الجارية (وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلاَنٍ) أي: تقبله من صاحبها (فَإِنْ أَبَى) من الإباء وهو الامتناع، كذا في رواية الكُشْمِيْهَني، وفي رواية الأكثرين: <فإن أتى> بالمثناة الفوقيَّة من الإتيان؛ أي: فإن جاء (فَلِي وَعَلَيَّ) أي: فلي الثَّواب، وعلي الغرامة؛ أراد: أنَّ صاحبَها إذا جاء بعد الصَّدقة بثمنها وأبى، فلي ثواب الصَّدقة، وعليَّ أداء ثمنها إذا طلب. وقال الكرمانيُّ: فإن أبى فالثَّواب والعقاب ملتبسان بي، أو فالثَّواب لي وعلي دَيْنُه من ثمنها.
          وقال الحافظُ العسقلاني: أشار بقوله: فلي وعليَّ، إلى أنَّ لي الثَّواب وعلي الغرامة. وغفل بعض الشِّراح فقال: معنى قوله: فلي وعلي: لي الثَّواب، وعلي العقاب؛ أي: أنَّهما ملتبِّسان له بفعله، والذي قلته أولى؛ لأنَّه ثبت مفسراً في رواية ابن عُيينة كما ترى. وأمَّا قوله في رواية الباب: ((فلي)) معناه: فلي ثواب الصَّدقة، وإنَّما حذفه؛ للعلم به. انتهى.
          وأراد ببعض الشِّراح الكِرمانيَّ فإنَّه نَقَلَ كلامه، ثمَّ نَسَبَه إلى الغفلة، ثمَّ قال: والذي قلته أولى؛ لأنَّه وقع مُفَسَّراً في رواية ابن عُيينة. وتعقَّبه العيني وقال: وفيه: أنَّ الغفلة منه لا من الكِرمانيِّ؛ لأنَّ الذي فسَّره به لا يخالف تفسير ابن عُيينة في الحقيقة، بل أدقُّ منه، يظهر ذلك بالنَّظر والتَّأمُّل.
          (وَقَالَ) أي: ابن مسعود ☺ / (هَكَذَا افْعَلُوا) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <فافعلوا> بالفاء (بِاللُّقَطَةِ) أي: بعد تعريفها. وقال الحافظُ العسقلاني: يشير إلى أنَّه انتزع فعله في ذلك من حكم اللُّقطة للأمر بتعريفها سنة، والتَّصرفَ فيها بعد ذلك، فإن جاء صاحبها غرمها له. فرأى ابن مسعود ☺ أن يجعلَ التَّصرفَ صدقةً، فإن أجازَ صاحبها إذا جاء حصل له أجرها، وإن لم يجزها كان الأجر للمُتصدِّق، وعليه الغرم لصاحبها.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه كان حكم اللُّقطة معلوماً عندهم، ولم تكن قضية ابن مسعود ☺ معلومةً عندهم، فلذلك قال لهم: افعلوا مثل اللُّقطة، يعني: افعلوا في مثل قضيَّتي إذا وقعتْ مثلَ ما كنتم تفعلونه في اللُّقطة بالتَّعريف سنة، والتَّصرف فيها بعد ذلك على الوجه المعروف في الفروع. انتهى، فليُتَأمل.
          وقد سقطَ هذا التَّعليقَ من رواية أبي ذرٍّ عن السَّرخسي، وقد وصله سفيان بن عُيينة في «جامعه» من رواية سعيد بن عبد الرَّحمن عنه. وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور عنه بسند له جيد: «أنَّ ابن مسعود ☺ اشترى جارية بسبعمائة درهم، فإمَّا غاب صاحبها، وإمَّا تركها، فنشده حَوْلاً، فلم يَجِدْه، فخرج بها إلى مساكين عند سدَّة بابه، فجعل يقبضُ ويُعطي ويقول: اللَّهم عن صاحبها فإن أبى فمنِّي وعليَّ الغُرْم».
          وأخرجه ابنُ أبي شيبة بسند صحيحٍ، عن شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل بلفظ: «اشترى عبدُ الله جارية بسبعمائة درهم، فغابَ صاحبُها فأنشده حَوْلاً، أو قال: سنة، ثمَّ خرج إلى المسجد فجعل يتصدَّق، ويقول: اللَّهمَّ فله، وإن أبى فعلي، ثمَّ قال: هكذا افعلوا باللُّقطة والضَّالة».
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (نَحْوَهُ) وهذا التَّعليق عن ابن عبَّاس ☻ ، لم يثبت إلَّا في رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتملي والكُشْمِيْهني. ووَصَلَه سعيدُ بن منصور من طريق عبد العزيز بن رفيع، عن أبيه: «أنَّه ابتاع ثوباً من رَجُلٍ بمكَّة فضَلَّ منه في الزِّحام، قال: فأتيت ابن عبَّاس ☻ ، / فقال: إذا كان العام المقبل فانْشُدْه في المكان الذي اشتريتَ منه، فإن قدرتَ عليه وإلَّا تصدَّق بها، فإن جاء فخيِّره بين الصَّدقة، وإعطاء الدَّراهم».
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب (فِي الأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لاَ تُزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلاَ يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ) وصل تعليقه ابنُ أبي شيبة من طريق الأوزاعي، قال: سألت الزُّهري عن الأسير في أرض العدو متى تُزوَّج امرأته فقال: لا تزوَّج امرأته ما علمت أنَّه حي. ومن وجه آخر عن الزُّهري قال: يُوقف مالُ الأسير وامرأتُه حتَّى يُسْلِما، أو يَمُوتا.
          وقوله: فسنَّتُه سُنَّةُ المفقود؛ أي: حُكْمُه حُكْمُ المفقود، ومذهب الزُّهري في امرأة المفقود أنَّها تربَّص أربع سنين. وقال ابنُ المنذر: أجمع كلُّ من يُحْفَظُ عنه من أهل العلم على أنَّ زوجة الأسير لا تنكح حتى يُعْلَم يقين، وفاته ما دام على الإسلام، هذا قول النَّخعي والزُّهري ومكحول ويحيى الأنصاري، وهو قول مالك والشَّافعي وأبي حنيفة وأبي ثور وأبي عُبيد، وبه نقول.
          وقال ابن بطَّال: اختلف العلماء في حكم المفقود إذا لم يُعْلَم مكانُه، وعميَ خبره، فقالت طائفة: إذا خرجَ من بيته، وعميَ خبرُه، فإنَّ امرأته لا تنكحُ أبداً، ولا يفرَّق بينه وبينها حتَّى يوقنَ بوفاته، أو ينقضي تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روي هذا القول عن علي ☺، وهو قول الثَّوري وأبي حنيفة ومحمد والشَّافعي، وإليه ذهب البُخاريُّ، وقالت طائفة: تتربَّص امرأته أربع سنين، ثمَّ تعتد عدَّةَ الوفاة، وروي أيضاً عن علي بن أبي طالب وابن عبَّاس وابن عُمر ♥ وعطاء بن [أبي] رباح، وإليه ذهب مالك، وأهل المدينة، وأحمد وإسحاق. وقالت الشَّافعية: إن قامت بيِّنة بموته، أو حكم قاض به بمضي مدَّة من ولادته لا تعيش فوقها ظناً قُسِمَتْ تركتُه حينئذٍ، ثمَّ تعتد زوجته.