نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}

          ░21▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ ╡) وفي نسخة: <تعالى> ({لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}) كذا في رواية كريمة. وفي رواية الأكثرين: <إلى قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}>، وفي بعض النُّسخ: <باب الإيلاء، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} الآية>.
          والإيلاء في اللَّغة: الحَلْفُ، يقال: آَلى يُؤْلِي إِلْيَة وإيلاء؛ أي: حَلَفَ. فقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:226] أي: يُقْسِمُون، وهي قراءة ابن عبَّاس ☻ ، و{مِنْ} في {مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] يتعلَّق بالجار والمجرور؛ أي: للمولين، كما تقول: لك مني نصرة، ولك مني معونة، ويجوز أن يُقال: عَدَّى {يُؤْلُونَ} بِمِنْ؛ لما في هذا القَسَم من معنى البُعْد، فكأنَّه قيل: يبعدون من نسائِهم مُولين.
          {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] مبتدأ خبره {لِلَّذِينَ}، وإضافة التَّربص إلى لاحقه من إضافة المصدر إلى مفعوله على الاتِّساع في الظَّرف حتى صار مفعولاً به؛ أي: للذين يحلفون على ترك الجماع من نسائهم تربُّص؛ أي: انتظار أربعة أشهرٍ من حين الحَلْفِ، ثمَّ يُطالب بالفيئة أو الطَّلاق، ولهذا قال: {فَإِنْ فَاؤُوا} [البقرة:226] أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كنايةٌ عن الجِمَاع، قاله ابن عبَّاس ☻ ، ومسروق والشَّعبي وسعيد بن جُبير، وغير واحدٍ، منهم ابن جرير؛ أي: في الأشهر بدليل قراءة عبد الله: ((فإن فاءوا فيهن)).
          {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] أي: لما سَلَفَ من التَّقصير في حقهنَّ بسبب اليمين حيثُ شرع الكفَّارة، وفي قولٍ للشَّافعي، وهو القولُ القديم له: إنَّ المولى إذا فاء بعد الأشهر أنَّه لا كفَّارة عليه {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} / بترك الفيء {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لإيلائهِ {عَلِيمٌ} [البقرة:227] بِنِيَّته، وهو وعيدٌ على إِصْرَارهِم وتَرْكِهِم الفيئة.
          واعلم أنَّ الكلامَ هنا في مواضع:
          الأول: أنَّ الإيلاء المذكور في قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:227] ما هو؟ وهو الحلفُ على ترك قربان امرأتهِ؛ أي: وطئها أربعة أشهر أو أكثرَ منها، كقولهِ لامرأته: والله لا أقربك أربعة أشهر، أو لا أقربك، وهو قول الثَّوري وأبي حنيفة وأصحابه، ويُروى عن عطاء.
          وقال ابنُ المنذر: أكثرُ أهل العلم، قالوا: لا يكون الإيلاءُ أقل من أربعة أشهرٍ، فمن كان إيلاؤه أقلَّ من أربعة أشهرٍ فليس بإيلاءٍ. وقالتْ طائفة: إذا حلفَ لا يقربُ امرأته يوماً، أو أقل، أو أكثر، ثمَّ لم يطأ بأربعة أشهر بانت منه بالإيلاء.
          رُوي هذا عن ابن مسعود ☺، والنَّخَعي وابن أبي ليلى والحكم، وبه قال إسحاق.
          وقال مالك والشَّافعي وأحمد وأبو ثور: الإيلاء: أن يَحْلِفَ أنَّ لا يطأَ امرأتَه أكثر من أربعة أشهر، فإن حَلَفَ على أربعة أشهرٍ فما دونها لم يكن مولياً، وهذا عندهم يمينٌ مخفي لو وطأ في هذا اليمين حَنَثَ، ولزمته الكفَّارة، وإن لم يطأ حتى انقضَتْ المدَّة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان. وقال ابن المُنذر: وروي عن ابن عبَّاس ☻ : لا يكون مولياً حتى يحلفَ أن لا يطأهَا أبداً.
          الموضع الثَّاني: في حكم الإيلاء، وهو أنَّه إن وطئها في الأربعة الأشهر كَفَّرَ؛ لأنَّه حَنَثَ في يمينه، وإن لم يطأها حتى مضتْ أربعةُ أشهر بانتِ المرأةُ منه بتطليقةٍ واحدةٍ. وهو قول ابنِ مسعود وابنِ عمر وابن عبَّاس وزيد بن ثابت وعثمان وعلي ♥ . وبه قال ابنُ سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب، والحسن بن صالح، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، وسائر أصحابه.
          وعند سعيد بن المسيَّب ومكحول وربيعة والزُّهري ومروان بن الحكم: يقعُ تطليقة رجعيَّة. وذكر البُخاري عن ابن عمر ☻ : أنَّ المُوْلِي يُوْقَفُ حتى يُطَلِّقَ. وقال مالك: كذلك الأمر عندنا، وبه قال اللَّيث والشَّافعي / وأحمد وإسحاق وأبو ثور، فإن طلَّق فهي واحدةٌ رجعيَّة. إلَّا أنَّ مالكاً قال: لا تصح رجعته حتى يطأَ في العدَّة، ولا يعلم أحدٌ قاله غيره.
          الموضع الثالث: في أنَّ الإيلاء لا يصحُّ إلَّا باسم الله تعالى، أو بشيء يتحقَّق به اليمين، كما لو حَلَفَ بحَجٍّ، بأن قال: إن قربتك فلله عليَّ حجَّة، أو بصوم، بأن قال: إن قربتك فلله عليَّ صوم شهر، أو صدقة، بأن قال: إن قربتك فلله عليَّ أن أتصدق بمائة درهم مثلاً، أو بعتق بأن قال: إن قربتك فلله عليَّ عتق رقبة، أو فعبدي حرٌّ فهو مُوْلٍ بهذه الأشياء عند أبي حنيفة وأبي يوسف، بخلاف الحَلْفِ بالصَّلاة أو الغزو، وعند محمد يكون مُوْلِياً فيهما أيضاً؛ لأنَّه قربة، وهو قول أبي يوسف أولاً، وفي عتق العبد المعين خلافٌ لأبي يوسف.
          وقال ابن حزم: ومن حَلَفَ في ذلك بطلاق، أو عتق، أو صوم، أو صدقة، أو مشي أو غير ذلك؛ فليس بمُوْلٍ، وعليه الأَدَبُ.
          وفي «الرَّوضة» للشَّافعية: هل يختص الإيلاء باليمين بالله تعالى وصفاته؟ فيه قولان؛ القديم: نعم، والجديد الأظهر: لا، بل إذا قال: إن وَطِئْتُكِ فعليَّ صوم، أو صلاة، أو حج، أو فعبدي حرٌّ، أو فأنت طلاق، أو فضرَّتك طالق، أو نحو ذلك كان مُوْلياً.
          وفي «الجواهر» للمالكيَّة: المحلوفُ به هو الله تعالى أو صفة من صفاته النَّفسيَّة أو المعنويَّة أو ما فيه التزام من عتق أو طلاق أو لزوم صدقة أو صوم أو نحوه عُلِّق بالوطء؛ كُلُّ ذلك إيلاءٌ.
          وفي «الحاوي» في فقه أحمد: الإيلاء: بحَلْفِه بالله أو باسْمه أو بصفته، فإن حَلَفَ بعِتْقٍ، أو طَلاق أو نَذْرٍ أو ظِهار أو تحريم مباح أو يمين أخرى فروايتان، وعنه: أنَّه لا ينعقدُ بغير يمين مكفِّرة.
          الموضع الرابع: أنَّ إيلاءَ الذِّمِّي ينعقد عند أبي حنيفة خلافاً لهما ولمالك، وبقول أبي حنيفة قال الشَّافعي وأحمد. وفي «الرَّوضة»: سواء في صحَّة الإيلاء: العبد والأمة والكافر وأضدادهم، ولا ينحلُّ الإيلاء بإسلام الكافر، وإذا ترافع إلينا ذمِّيان، وقد آلى أوجبنا الحكم. وقال أحمدُ فيما حكى عنه الخلال في «عِلَلِه»: يُروي عن الزُّهري أنَّه كان يقول: إيلاء العَبْدِ شهران.
          وقال ابنُ حزم: / وصحَّ عن عطاء، أنَّه قال: لا إيلاءَ للعبد دون سيِّده، وهو شهران، وبه قال الأوزاعيُّ واللَّيث ومالك وإسحاق. وقالت طائفة: الحكم في ذلك للنِّساء، فإن كانت حرَّة فلزوجها الحر أو العبد عنها شهران، وهو قول إبراهيم وقتادة والحسن والحكم والشَّعبي والضَّحَّاك والثَّوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقالت طائفةٌ: إيلاءُ الحرِّ والعبد من الزَّوجة الحرَّة والأمة سواء، وهو أربعةُ أشهر، وهو قولُ الشَّافعي وأحمد وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابهم.
          الموضع الخامس: أنَّها تعتدُّ بثلاث حِيَضٍ، قاله مسروقٌ وشُريح وعطاء. قال ابنُ عبد البر: كلُّ الفقهاء فيما عَلِمْتُ يقولون: إنَّها تعتدُّ بعد الطَّلاق عدة المطلَّقة، إلَّا جابر بن زيد فإنَّه يقول: لا تعتدُّ؛ يعني: إذا كانت حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر، وقال بقوله طائفةٌ، وكان الشَّافعي يقول به في القديم، ثمَّ رجعَ عنه، وقد روي عن ابن عبَّاس ☻ نحوه.
          الموضع السَّادس: في حكم الفيء للعاجز. قال أصحابنا: وإن عجز المُوْلِي عن وَطْئِها بسبب مرضه، أو مرضها، أو بسبب الرَّتق: وهو انسدادُ فم الرَّحم بلحمة، أو عظمة، أو نحوهما، أو بسبب الصِّغر، أو لبعد المسافة بينهما، فَفَيْئَتُه أن يقول: فئت إليها بشرط أن يكون عاجزاً من وقت الإيلاء إلى أن يمضيَ أربعة أشهر حتى لو آلى منها، وهو قادرٌ، ثمَّ عجزَ عن الوطء بعد ذلك لمرض، أو بُعْدِ مسافةٍ، أو حبسٍ، أو أسرٍ، أو جب، أو نحو ذلك، أو كان عاجزاً حين آلى، وزال في المدَّة العجزُ لم يصحَّ فيه باللِّسان.
          وقال الشَّافعي: لا يصحُّ الفيء باللَّسان أصلاً، وإليه ذهب الطَّحاوي وأحمد، وتحريرُ مذهبِ الشَّافعي ما ذكره في «الرَّوضة» إذا وجد مانع من الجماع بعد مضيِّ المدَّة المحسوبة نظر أهو فيها أم في الزَّوج، فإن كان فيها بأن كانت مريضةً لا يمكن وطؤها، أو محبوسةً لا يمكن الوصول إليها، أو حائضاً، أو نفساء، أو مُحْرِمة، أو صائمة، / أو معتكفة لم يثبتْ لها الفيئة بالمطالبة لا فعلاً، ولا قولاً، وإن كان المانع فيه؛ فهو طَبْعِيٌّ وشَرْعي، فالطَّبعي: أن يكون مريضاً لا يقدر على الوطء، أو يَخَافُ منه زيادةَ العلَّة، أو بطءَ البُرْءِ، فيطالب بالفيئة باللِّسان، أو بالطَّلاق، إنْ لم يَفِىء، والفيئةُ باللِّسان أن يقول: إذا قدرتُ فئت، واعتبر الشَّيخ أبو حامد أن يقول مع ذلك: ندمت على ما فعلت، وإن كان محبوساً ظلماً فكالمريض، وإن حُبِسَ في دَين يقدر على وفائه أُمِرَ بالأداء، أو الفيئة، أو الطَّلاق.
          وأمَّا الشَّرعيُّ فكالصَّوم والإحرام والظِّهار قبل التَّكفير ففيه وجهان:
          أحدهما: وهو الأصح: يطالبُ بالطَّلاق، والآخر: يُقْنَعُ منه بفيئةِ اللِّسان، ومذهب أحمد: إن كان العذر بالرَّجل طويلاً، أو عجز عن الوطء شرعاً، أو حساً، فاء نطقاً، وإن كان مظاهراً لم يطأْ حتى يُكَفِّر، ومذهب مالك: لا مطالبة للمريضة التي لا تحمل الجماع، ولا للرَّتقاء، ولا للحائضِ حالة الحيض، وإن كان للرَّجل مانع طبيعي كالمرض، فلها المطالبة بالفيئةِ بالوعد واللِّسان وتكفيرِ اليمين، وإن كان شرعيًّا كالظِّهار والصَّوم والإحرام، فليس لها المطالبة، وعليه أن يطلِّق إلَّا أن يعصي بالوطء، وقيل: لا يصح بالوطء المحرم، وقال ابن القاسم: إذا آلى وهي صغيرةٌ لا يُجَامَعُ مِثْلُها لم يكن مُوْلِياً حتى تَبْلُغَ الوطءُ، ثمَّ يوقف بعد مضي أربعة أشهر منذ بلغتِ الوطء، قال: ولا يوقف الخصي إنَّما يوقف من قدر على الجماع.
          وقال الشَّافعي: إذا لم يبق للخصيُّ ما ينال به من المرأة ما يناله الصَّحيح بمغيب الحشفة، فهو كالمجبوبِ فاء بلسانه، ولا شيءَ عليه. وقال في موضع آخر: لا إيلاء على مجبوبٍ، واختاره المزني. وقال أبو حنيفة: لو كان أحدهما محرِماً بالحجِّ وبينه وبين وقت الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلَّا بالجماع، وكذا المحبوس، وقال زفر: فيئه بالقول، وقال الشَّافعي: إذا آلى وهي بكر، وقال: لا أقدرُ على افتضاضِهَا / أُجِّلَ أَجَلَ العِنِّين.
          ({فَإِنْ فَاؤُوا}: رَجَعُوا) أشار به إلى أنَّ معنى {فَاؤُوا} في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] رجعوا عن اليمين، كذا فسَّره أبو عبيدة في هذه الآية، يقال: فاء يفيء فيئاً وفُيُوءاً، وأخرج الطَّبري عن إبراهيم النَّخعي قال: الفيء: الرُّجوع باللِّسان، ومثله عن أبي قلابة. وعن سعيد بن المسيَّب والحسن وعكرمة: الفيء: الرُّجوع بالقلب واللِّسان لمن به مانع عن الجماع، وفي غيره: بالجماع.