نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الإشارة فِي الطَّلاق والأمور

          ░24▒ (باب: حُكْمُ الإِشَارَةِ فِي الطَّلاَقِ وَالأُمُورِ) أي: بالأمور الحُكميَّة وغيرها. قال ابن التِّين: أراد الإشارة التي يُفهم منها الطَّلاق من الصَّحيح والأخرس، وقال المهلَّب: الإشارة إذا فهمت يحكم بها، وأوكد ما أتُيَ بها من الإشارةِ ما حَكَم به النَّبي صلعم في أمر السَّوداء حين قال لها: ((أين الله؟)) فأشارت إلى السَّماء، فقال: ((أعتقها فإنَّها مؤمنةٌ))، فأجاز الإسلامَ بالإشارة الذي هو أَصْلُ الدِّيانة وحَكَمَ بإيمانها، كما يُحْكَمُ بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارةُ عاملةً في سائر الدِّيانات، وهو قولُ عامَّة الفقهاء، وقال مالك: الأخرسُ إذا أشار بالطَّلاق يلزمه، وقال الشَّافعي: في الرَّجل يمرضُ فيختل لسانه، فهو كالأخرس في الطَّلاق والرَّجعة.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تعرفُ في طلاقهِ ونكاحهِ وبيعه فهو جائزٌ عليه، وإن كان يشكُّ فيه فهو باطلٌ. قال: وليس ذلك بقياس، وإنَّما هو استحسانٌ، والقياس في هذا كلِّه باطل؛ / لأنَّه لا يتكلَّم، ولا تُعْقَلُ إشارتُه، وقال ابنُ المنذر: وفي ذلك إقرار من أبي حنيفة أنَّه حَكَمَ بالباطل؛ لأنَّ القياسَ عنده حقٌّ، فإذا حَكَمَ بضدِّه، وهو الاستحسان، فقد حكم بضدِّ الحقِّ، وفي إظهاره القول بالاستحسان، وهو ضدُّ القياس، دَفْعٌ منه للقياس الذي عنده هو حقٌّ. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ هذا كلامُ من لا يفهمُ دقائق الأحكام مع المكابرةِ والجرْأة على مثل الإمام الأعظم الذي انتشى في خير القرون، وقول أبي حنيفة: القياس في هذا باطلٌ هل يستلزم بطلان الأقيسة كلِّها، وليس الاستحسان ضد القياس، بل هو نوعٌ منه؛ لأنَّ القياسَ على نوعين: جلي وخفي، فالاستحسان قياس خفي، ومن لا يدري هذا كيف يتحدَّث بكلام فيه افتراء وجراءة بغير حقٍّ.
          وكذلك ابن بطَّال الذي أطلق لسانه في أبي حنيفة بوجه باطل، حيث قال: حاول البُخاري بهذا الباب الرَّدَ على أبي حنيفة؛ لأنَّه صلعم حكمَ بالإشارة في هذه الأحاديث، وأشار به إلى أحاديث الباب، ثمَّ نقل كلام ابن المنذر، ثمَّ قال: وإنَّما حَمَل أَبا حَنيفة على قوله هذا أنَّه لم يعلم السُّنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفةٍ. انتهى.
          قال العينيُّ: وهذا الذي قاله من قِلَّة أدب، فمن قال: إنَّ أبا حنيفة لم يعلم هذه السُّنن، ومن نَقَلَ عنه أنَّه لم يجوز العمل بالإشارة، وهذه كتب أصحابه ناطقةٌ بجواز ذلك كما نبَّهنا على بعضٍ من ذلك، فقد قال: رَجْمَاً بالغَيب. وقال أصحابُنا: إشارة الأخرس وكتابته كالبيان باللِّسان فيلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوزُ نكاحُه وطلاقُه وعتاقُه وبيعُه وشراؤُه وغيرُ ذلك من الأحكام، بخلاف معتقل اللِّسان، يعني: الذي حُبِسَ لسانُه، فإن إشارتَه غيرُ معتبرة؛ لأنَّ الإشارة لا تُنبئ عن المرادِ إلَّا إذا طالتْ وصارتْ معهودًة كالأخرس. وقدر التَّمُرتاشي الامتداد بالسَّنَةِ.
          وعن أبي حنيفة: أنَّ العقلة إذا دامت إلى وقت الموت يجعلُ إقراره بالإشارة، ويجوز الإشهاد عليه، / قالوا: وعليه الفتوى، وفي «المحيط»: ولو أشار بيده إلى امرأة، وقال: يا زينبُ أنت طالق، فإذا عمرة طلقت عمرة؛ لأنَّه أشار وسمَّى، فالعبرة للإشارة لا للتَّسمية.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : لاَ يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) وهذا التَّعليق أخرجه في كتاب الجنائز مسنداً بأتم منه في باب البكاء عند المريض [خ¦1304]. ومطابقته للتَّرجمة: من حيثُ إنَّ الإشارة التي يُفْهَمُ منها الأمرُ من المأمور كالنُّطق باللِّسان.
          (وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) ☺ (أَشَارَ النَّبِيُّ صلعم إِلَيَّ أَيْ) وفي رواية الكُشْمِيْهَني: <أن> (خُذِ النِّصْفَ) أي: واترك ما عداه. تقدَّم هذا التَّعليق في باب الملازمة مسنداً عن كعب بن مالك ☺ [خ¦457]: أنَّه كان له على عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلمي دينٌ، فلقيه، فلزمه، فتكلَّما حتَّى ارتفعتْ أصواتهما، فمرَّ بهما النَّبي صلعم فقال: ((يا كعب)) وأشار بيده، كأنَّه يقول: النِّصف فأخذَ نصف ما عليه، وترك نصفاً.
          ومطابقته للترجمة كسابقهِ.
          (وَقَالَتْ أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر الصِّدِّيق ☻ (صَلَّى النَّبِيُّ صلعم فِي الْكُسُوفِ) فأطال القيام (فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ) وهي قائمةٌ تصلِّي مع الناس (مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهْيَ تُصَلِّي فَأَوْمَأَتْ) أي: فأشارت (بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ) لها: (آيَةٌ؟ فَأَوْمَأَتْ) وفي رواية الكُشْمِيْهَني: <فأشارت> (بِرَأْسِهَا: أَنْ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <أي> (نَعَمْ) آية.
          تقدَّم هذا التَّعليق أيضاً مسنداً في الكسوف في باب صلاة النِّساء مع الرِّجال في الكسوف عن أسماء بنت أبي بكر ☻ ، أنَّها قالت: «أتيتُ عائشة زوجَ النَّبيِّ صلعم حين خسفت الشَّمس، فإذا النَّاس قيام يصلُّون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للنَّاس؟ فأشارتْ بيدها إلى السَّماء، وقالت: سبحان الله، فقلت: آية؟ فأشارت: أي نعم».
          ومضى الكلام فيه هناك.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) ☺: (أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلعم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ) ☺ (أَنْ تَقَدَّمَ) / وفي نسخة: <أن يتقدَّم>.
          وتقدَّم هذا التَّعليق أيضاً في كتاب الصَّلاة مسنداً في باب أهل العلم والفضل أحقُّ بالإمامة عن أنس ☺ [خ¦681]: «لم يخرج النَّبي صلعم ثلاثاً فأقيمت الصَّلاة» الحديث، وفيه: «فأومأ النَّبي صلعم بيده إلى أبي بكر ☺ أن تقدَّم...» إلى آخره.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلعم ) لما سُئل في حجَّته عن الذبح قبل الرَّمي (بِيَدِهِ: لاَ حَرَجَ) تقدَّم هذا التَّعليق أيضاً مسنداً في كتاب الحجِّ [خ¦1722]، قاله صاحب «التَّلويح». وقال العينيُّ: هذا اللَّفظ مضى في كتاب العلم، في باب الفتيا بإشارة اليد والرَّأس [خ¦84]، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ النَّبي صلعم سُئل في حجَّته، فقال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: فأومأ بيده قال: ((ولا حرج)) (وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم ) لأصحابه (فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ) لما رأوا حمر وحش في مسيرهم لحجَّة الوداع وحمل عليها أبو قتادة فَعقَرها (أَحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا) وفي اليونينية: <آحد> بمد فوق الهمزة للاستفهام (قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَكُلُوا) ما بقي من لحمها، تقدَّم هذا التَّعليق أيضاً في الحجِّ في باب لا يشير المحرم إلى الصَّيد [خ¦1824] عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: أنَّ النَّبي صلعم خرج حاجاً، الحديث، وفيه: فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة إلى أن قال: فحملنا ما بقيَ من لحمها، قال: ((منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها)) قالوا: لا، قال: ((فكلوا ما بَقِيَ من لَحْمِهَا)).