نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا قال: فارقتك، أو سرحتك

          ░6▒ (باب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ، أوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلاَقُ، فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ) إذا قال الرَّجل لامرأته: فارقتك، أو سرَّحتك، أو أنت خلية، أو أنت بريَّة، فالحُكْمُ في هذه الألفاظ أن يعتبر بنيَّته، وهو معنى قوله: فهو على نيَّته؛ لأنَّ هذه كناياتٌ عن الطَّلاق، فإن نوى الطَّلاقَ وَقَعَ، وإلَّا فلا يقعُ شيءٌ، وذلك لأنَّها غير موضوعة للطَّلاق، بل لما هو أعمُّ من حكمه.
          والأعمُّ في المادَّة الاستعماليه يحتمل كلاًّ ممَّا صدقاتِه، ولا يتعيَّن أحدُهما إلَّا بمُعَيَّن، والمُعَيَّنُ في نَفْسِ الأمر هو النِّية، وإنَّما كانت الكِنَاية للطَّلاق، ولم تكن للنِّكاح؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يصحُّ إلَّا بالإشهاد.
          والخَليَّة: فعيلة بمعنى فاعلة؛ أي: خالية من الزَّوج. وكذا البريَّة: أي: من الزَّوج، وما عُنِيَ به الطَّلاق على البناء للمفعول، مثل: استبرئي رَحِمَك؛ أي: فقد طلَّقتك، فاعتدِّي، وحَبْلُكِ على غَارِبِك؛ أي: خلَّيت سبيلَك، كما يُخَلَّى البعير في الصَّحراء، ويترك زمامُه على غاربه، وهو ما تقدَّم من الظَّهر وارتفع من العنق، ودعيني، وبرئت منك.
          وقال الشَّافعي في القديم: لا صريح إلَّا لفظ الطَّلاق، وما يتصرف منه، ونصَّ في الجديد على أنَّ الصَّريحَ لفظُ الطَّلاقِ والفراقِ والسَّراحِ؛ لورود ذلك / في القرآن بمعنى الطَّلاق. وحجَّة القديم: أنَّه وَرَدَ في القرآن لفظُ الفراق والسَّراح لغير الطَّلاق أيضاً، كما ستطلع عليه، بخلاف الطَّلاق، فإنَّه لم يرد إلَّا للطَّلاق. وقد رجَّح الطَّبريُّ والمحامليُّ وغيرهُما قولهَ القديم، وهو قولُ الحنفية، واختاره القاضي عبد الوهَّاب من المالكيَّة، وقال أبو يوسف في قوله: فارقتُكِ، أو خلَّيتُك، أو خلَّيت سبيلك، أو لا ملك لي عليك: أنَّه ثلاث.
          واختلفوا في الخليَّة والبريَّة: فعن علي ☺: أنَّه ثلاث، وبه قال الحسن البصري. وعن ابن عمر ☻ : ثلاث في المدخول بها، وبه قال مالك، ويَدِيْنُ في التي لم يَدْخُل بها بتطليقةٍ واحدةٍ أرادَ أم ثلاثاً. وقال الثَّوري وأبو حنيفة: تعتبر نيَّته في ذلك، فإن نوى ثلاثاً فثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فواحدةٌ بائنةٌ، وهي أحقُّ بنفسها، وإن نوى ثنتين فهي واحدةٌ.
          وفي «التَّلويح»: وقال الشَّافعي: هو في ذلك غير مُطَلِّق حتى يقول: أردتُ بمخرج الكلام مني طلاقاً فيكون ما نواه، فإن نوى ما دون الثَّلاث كان رجعياً، وقال إسحاق: هو إلى نيَّته يَدِيْنُ. وقال أبو ثور: هي تطليقةٌ رجعيَّة، ولا يسأل عن نيَّته في ذلك، وحكى الدَّارمِيُّ عن ابن خَيْرَان: أنَّ من لم يعرفْ إلَّا الطَّلاق فهو صريحٌ في حَقِّه فقط. ونحوه للرُّوياني فإنَّه لو قال اغربي: فارقتك، ولم يَعْرِفْ أنَّها صريحةٌ لا يكون صريحاً في حقِّه.
          واتَّفقوا على أنَّ لفظَ الطَّلاق وما يتصرَّف منه صريحٌ، لكن أخرج أبو عبيد في «غريب الحديث» من طريق عُبيد الله بن شهاب الخولاني، عن عمر ☺: «أنَّه رُفِعَ إليه رجلٌ قالت له امرأته: شبهني، فقال: كأنَّك ظبية، قالت: لا، قال: كأنَّك حمامة، قالت: لا أرضى حتى تقول: أنت خلية طالق فقالها، فقال له عمر ☺: خذ بيدها فإنَّها امرأتك».
          قال أبو عبيد: قوله: خليَّة طالق؛ أي: ناقة كانت معقولةً، ثمَّ أُطْلِقَتْ من عِقَالها وخلِّي عنها، فسمِّيت خلية؛ لأنَّها خُلِّيَتْ عن العِقَال، وطالق؛ لأنَّها أُطْلِقَتْ منه، فأراد الرَّجل أنْ تُشْبِهَ النَّاقةَ، ولم يقصدِ الطَّلاقَ بمعنى الفراق أصلاً، فأسقط عُمرُ ☺ الطَّلاقَ.
          وقال أبو عبيد: / وهذا أصل في كل من تكلَّم بشيء من ألفاظ الطَّلاق، ولم يرد الفراق، بل أراد غيره، فالقول قوله فيه فيما بينه وبين الله تعالى، وفي «المحيط» لو قال: أنت طالق، وقال: عنيت به عن الوثاق لا يصدَّق قضاءً، ويصدَّق ديانة. ولو قال: أنت طالق من وِثاق، لم يقع شيءٌ في القضاء. ولو قال: أردت أنَّها طالق من العمل لم يدين فيها بينه وبين الله تعالى، وعن أبي حنيفة ☼ : أنَّه يدين. ولو قال: أنت طالق من هذا العمل وقع في القضاء، ولا يقعُ فيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال: أنت طالق من هذا القيد لم تطلق.
          هذا بقي الكلام في أنَّ المشكل من قصَّة عمر ☺ كونه رفع إليه، وهو حاكمٌ، فإن كان أجراه مجرى الفتيا ولم يكن هناك حُكم فيوافق قول الجمهور، وإلَّا فهو من النَّوادر. وقد نقل الخطَّابي الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف، وعزاه لداود، وفي البويطي ما يقتضيه، وحكاه الرُّوياني، ولكن أوَّله الجمهور، وشرطوا قصد لفظ الطَّلاق بمعنى الطَّلاق؛ ليخرج العجمي مثلاً إذا لقن كلمة الطَّلاق، فقالها وهو لا يعرفُ معناها، أو العربي بالعكس، وشرطوا مع النَّطق بلفظِ الطَّلاق تعمُّد ذلك احترازاً عمَّا يسبقُ به اللِّسان والاختيار؛ ليخرج المكره، لكن إن أُكره فقالها مع القصد إلى الطَّلاق وقع في الأصح.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) وفي رواية: <╡> ({وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}) لمَّا ذكر في التَّرجمة لفظ المفارقة والتَّسريح ذكر بعض الآيات التي فيها ذكر الله ╡ هذين اللَّفظين: منها قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49]. وأوَّله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: من قبل أن تجامعوهنَّ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: أعطوهنَّ ما يستمتعنَ به.
          وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]، وقيل: هو أمر ندب، والمُتعة مُستحبَّة، ونصف المهر واجب.
          {وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: أرسلوهنَّ وخلُّوا سبيلهنَّ، / وقيل: أخرجوهنَّ من منازلكم، إذ ليس لكم عليهن عدَّة، وكأنَّ البُخاري أورد هذا إشارة إلى أنَّ لفظ التَّسريح هنا بمعنى الإرسال لا بمعنى الطَّلاق. وفي «تفسير النَّسفي» وقيل: طلقوهنَّ للسنة، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه ذكر قبله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} يعني: قبل الدُّخول، ولم يبق محل للطَّلاق بعد التَّطليق.
          وقوله: {سَرَاحاً} نصب على المصدرية بمعنى التَّسريح، وقوله: {جَمِيلاً} يعني: بالمعروف.
          (وَقَالَ) ╡ ({وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}) أي: ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28].
          قال الحافظُ العسقلاني: والتَّسريح في هذه الآية محتمل للتَّطليق والإرسال، فإذا كان صالحاً للأمرين انتفى أن يكون صريحاً في الطَّلاق، وذلك راجعٌ إلى الاختلاف فيما خير به النَّبي صلعم نساءَه هل كان في الطَّلاق والإقامة، فإذا اختارت نفسها طَلُّقَتْ، وإن اختارت الإقامة لم تَطْلُّق، أو كان في التَّخيير بين الدُّنيا والآخرة، فمن اختارتْ الدنيا طلَّقها، ثمَّ متَّعها، ثمَّ سرَّحها، ومن اختارت الآخرة أقرَّها في عصمته. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه قال المفسِّرون: معنى قوله: {أُسَرِّحْكُنَّ} أطلِّقْكُنَّ، وهذا ظاهر؛ لأنَّه لم يسبق هنا طلاق فمن أين يأتي الاحتمال، وليس المراد إلَّا التَّطليق. انتهى. وأنت خبير بأنَّ ما ذكره لا ينفي الاحتمال المذكور.
          (وَقَالَ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}) أي: ومنها قوله ╡: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]. والمراد بالتَّسريح هنا: الطَّلقة الثَّالثة على القول الرَّاجح، والمعنى: الطَّلاق مرَّة بعد مرَّة، يعني: ثنتان، وكان الرَّجل إذا طلَّق امرأته، فهو أحقُّ برجعتها وإن طلَّقها ثلاثاً فنسخ الله ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية. وعن ابن عبَّاس ☻ قال: إذا طلَّق الرَّجل امرأته تطليقتين فليتَّق الله في الثَّالثة، فله أن يمسكَها بالمعروف فيُحسن صُحبتها، أو يسرِّحها بإحسان فلا يظلمُها من حقِّها شيئاً. /
          (وَقَالَ) تعالى: ({أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}) أي: ومنها قوله ╡: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] يريدُ أنَّ هذه الآيةَ وردت بلفظ الفراق في موضع ورودها في البقرة بلفظ: السراح، والحكم فيهما واحد؛ لأنَّه ورد في الموضعين بعد وقوع الطَّلاق؛ فليس المراد به الطَّلاق، بل الإرسال. وقد اختلف السَّلف قديماً وحديثاً في هذه المسألة، فجاء عن عليٍّ ☺ بأسانيد يعضدُ بعضُها بعضاً، وأخرجها ابنُ أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، قال: البريَّة والخليَّة والبائنُ والحرام والبتَّة ثلاث ثلاث، وبه قال مالك وابنُ أبي ليلى والأوزاعي، لكن قال في الخليَّة: إنَّها واحدة رجعيَّة، ونقله عن الزُّهري وعن زيد بن ثابت ☺: «في البريَّة والبتَّة والحرام ثلاث ثلاث»، وعن ابن عمر ☻ : «في الخليَّة والبريَّة ثلاث»، وبه قال قتادة، ومثله عن الزُّهري في البريَّة فقط.
          واحتجَّ بعض المالكيَّة بأنَّ قولَ الرَّجل لامرأته: أنت بائنٌ وبتَّةٌ وبَتْلَةٌ وخليَّةٌ وبريَّةٌ يتضمَّن إيقاع الطَّلاق؛ لأنَّ معناه: أنت طالق مني طلاقاً تبينين مني، أو تبت؛ أي: تقطعُ عصمتُك مني، والبَتْلة: بمعناه، أو تخلينَ به من زوجيَّتي، أو تبرينَ. قال: وهذا لا يكون في المدخول بها إلَّا ثلاثاً، إذا لم يكن هناك خلع. وتُعُقِّبَ: بأنَّ الحمل على ذلك ليس صريحاً، والعصمةُ ثابتةٌ لا تُرْفَعُ بالاحتمال، وبأن من يقول: إنَّ من قال لزوجته أنت طالقٌ طلقة بائنة إذا لم يكن هناك خلع أنَّها تقعُ رجعيَّةً مع التَّصريح كيف لا يقول يلغو مع التَّقدير، وبأنَّ كلَّ لفظة من المذكورات إذا قصدَ بها الطَّلاق ووقع؛ وانقضتْ العدَّة أنَّه يتمُّ المعنى المذكور، فلم ينحصر الأمر فيما ذكر، وإنَّما النَّظر عند الإطلاق؛ فالذي يترجَّح أنَّ الألفاظ المذكورة وما في معناها كنايات لا يقع الطَّلاق بها إلَّا مع القصدِ إليه، وضابط ذلك أنَّ كلَّ كلام أفهم الفرقة، ولو مع دقته يقع به الطَّلاق مع القصد، / فإذا لم يفهم الفرقة من اللَّفظ فلا يقع الطَّلاق، ولو قصد إليه، كما لو قال: كلي واشربي، أو نحو ذلك، وهذا تحرير مذهب الشَّافعي في ذلك.
          وقال قبله الشَّعبي وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم، وبهذا قال الأوزاعي وأصحاب الرَّأي، واحتجَّ لهم الطَّحاوي بحديث أبي هريرة ☺ الآتي قريباً: ((تجاوز الله لأمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفسها ما لم يعملُ به، أو تكلَّم)) فإنَّه يدلُّ على أنَّ النِّية وحدها لا تؤثر إذا تجرَّدت عن الكلام، أو الفعل، وقال مالك: إذا خاطبها بأي لفظ كان، وقصد الطَّلاق طلقت حتَّى لو قال: يا فلانة، يريد به الطَّلاق فهو طلاق بائن، وبه قال الحسن بن صالح بن حي.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) ♦: (قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ) وهذا التَّعليق طرف من حديث التَّخيير الذي مرَّ في تفسير سورة الأحزاب [خ¦4785].
          وأرادت عائشة ♦ بالفراق هنا: الطَّلاق جزماً، ولا نزاع في الحَمل عليه إذا قصد إليه، وإنَّما النِّزاع في الطَّلاق إذا تقدَّم.