نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون

          ░11▒ (بابُ الطَّلاَقِ فِي الإِغْلاَقِ) بكسر الهمزة وسكون المعجمة وآخره قاف، وهو الإكراهُ، وسمِّي به؛ لأنَّ المُكْرَه يَنْغَلِقُ عليه أمره، ويتضيَّق عليه تصرفه، ويقال: كأنَّه يُغْلَق عليه الباب، ويُضَيَّقُ عليه حتى يطلق، وفي «الجامع» غلق: إذا غضب غضباً شديداً. ولمَّا ذكر الفارسيُّ في كتابه «مجمع الغرائب» قول من قال: الإغلاق: الغضب، قال: هذا غلط؛ لأنَّ أكثر طلاق النَّاس في الغضب إنَّما هو الإكراه. وأخرج أبو داود حديث عائشة ♦: ((لا طلاقَ ولا عتاقَ في إغلاق)). قال أبو داود: الغلاق: أظنَّه الغضب، وترجم على الحديث: الطَّلاق على غيظ، ووقع عنده: بغير ألف في أوَّله.
          وحكى البيهقي: أنَّه رُوِيَ على الوجهين، ووَقَعَ عند ابن ماجه في هذا الحديث: الإغلاق بالألف، وترجم عليه: طلاق المُكْرَه، فإن كانت الرِّواية بغير ألف هي الرَّاجحة؛ فهو غير الإغلاق. قال المطرزي: قولهم: إيَّاك والغلق؛ أي: الضَّجر والغضب.
          وقال ابنُ المرابط: الإغلاق: حرج النَّفس، وليس كل من وقع له ذلك فارق عَقْلَه حتى صار مجنوناً؛ فيدَّعي أنَّه كان في غير عقلهِ، ولو جاز هذا؛ لكان لكلِّ واحدٍ من خَلْقِ الله ╡ ممَّن يجوز عليه الحَرَجُ أن يقول في كلِّ ما جناه: كنت غضباناً، فتَسْقُطُ عنه الحدود، وتصيرُ الحدود خاصة لا عامة لغير الحرج. فأراد بذلك الرَّد على من ذَهَبَ إلى أنَّ الطَّلاق في الغضب لا يقعُ، وهو / مرويٌّ عن الحنابلة.
          (وَالْكُرْهِ) هو في النُّسخ بضم الكاف وسكون الراء، وفي عطفه على الإغلاق نَظَرٌ، إلَّا أن يفسَّر الإغلاق بالغضبِ، كما فسَّره أبو داود، وترجم عليه بقوله: الطَّلاق على غيظ. وفي نسخة: <والمكره> بالميم قبل الكاف؛ لأنَّه عطف عليه السَّكران، فيكون التَّقدير: باب حكم الطَّلاق في الإغلاق، وحكم المكره والسَّكران والمجنون إلى آخره، وقد اختلف السَّلف في طلاقِ المكره.
          قال ابن بطَّال: فإذا ضُيِّقَ على المُكْرَه وشُدِّدَ عليه لم يَقَعْ حُكْمُ طلاقه، فكأنَّه لم يُطَلِّق. وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: أنَّ الشَّعبيَّ كان يرى طلاق المكره جائزاً، وكذا قال إبراهيم النَّخعي وأبو قِلابة وابن المسيَّب وشريح. وقال ابنُ حزم: وصحَّ أيضاً عن الزُّهري وقتادة وسعيد بن جُبير، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
          وروى الفرجُ بن فَضَالة عن عامر بن شراحيل: أنَّ امرأة أكرهت زوجها على طلاقها فطلَّقها فرفع ذلك إلى عمر ☺ فأمضى طلاقها، وعن ابن عمر ☻ نحوه، وكذا عن عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن عبَّاس والضَّحَّاك، وقال ابنُ حزم: وصحَّ أيضاً عن طاوس وجابر بن زيد. قال: وهو قولُ مالك والأوزاعي والحسن بن حيٍّ والشَّافعي وأبي سليمان وأصحابهم، وعن إبراهيم: تفصيلٌ آخر، وهو: إن ورَّى المُكْرَه لم يَقَعْ، وإلَّا وَقَع، وقال الشَّعبي: إن أكرهه اللُّصوص وَقَعَ، وإن أكرهه السُّلطان فلا. أخرجه ابن أبي شيبة، ووجه بأنَّ اللُّصوصَ من شأنهم أن يقتلوا من خالفهم غالباً، بخلاف السُّلطان، وذهب بعضُهم إلى عدم الوقوع، ومنهم عطاء في رواية، واحتجَّ بآية النَّحل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحل:106]. قال عطاء: الشِّرك أعظم من الطَّلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيحٍ.
          وقرَّره الشَّافعي: بأنَّ الله تعالى لمَّا وضع الكُفر عمَّن لفظ به حال الإكراه، وأسقطَ عنه أحكام الكُفر فكذلك يسقطُ عن المكره ما دون الكُفر؛ لأنَّ الأعظمَ إذا سَقَطَ سَقَطَ ما هو دونه بطريق الأولى. وإلى هذه النُّكتة أشار البُخاريُّ بعطف الشِّرك على الطَّلاق / في التَّرجمة.
          (وَالسَّكْرَانِ) وقد اختلفوا فيه هل يقع طلاقه أو لا؟ فمِمَّن قال: إنَّه لا يَقَعُ: عُثمان بن عفَّان ☺، وجابر بن زيد وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة. وزاد ابن المنذر: ابن عبَّاس ☻ ، وربيعة واللَّيث وإسحاق والمزني، واختاره الطَّحاوي، وذهب مجاهد إلى أنَّ طلاقَه يَقَعُ، وكذا قاله محمد والحسن وسعيد بن المسيَّب وإبراهيم بن يزيد النَّخعي وميمون بن مهران وحميد بن عبد الرَّحمن، وسليمان بن يسار والزُّهري والشَّعبي وسالم بن عبد الله والأوزاعي والثَّوري، وهو قول مالك وأبي حنيفة، واختلف فيه قول الشَّافعي فأجازه مرَّة، ومَنَعَه أخرى، وألزمه مالك الطَّلاق والقود من الجراح من القتل، ولم يلزمه النِّكاحَ والبيعَ، وقال الكوفيون: أقوال السَّكران وعقودُه كلُّها ثابتةٌ كفعل الصَّاحي إلَّا الرِّدة، فإذا ارتد لا تِبَيْنُ امرأتُه استحساناً، وقال أبو يوسف: يكون مرتداً في حال سكره، وهو قول الشَّافعي إلَّا أنا لا نقتله في حال سكره، ولا نستتيبه.
          (وَالْمَجْنُونِ) الإجماع واقع على أنَّ طلاقَ المجنون والمعتوه غيرُ واقِعٍ. وقال مالك: وكذلك المجنون الذي يفيق أحياناً يُطَلِّق في حال جنونه، والمُبَرْسَمُ قد رُفِعَ عنه القَلَمُ؛ لغلبة العِلْمِ بأنَّه فاسدُ المقاصد (وَأَمْرِهِمَا) أي: أمر السَّكران والمجنون؛ يعني: في بيان أمْرِهما من أقوالهما وأفعالهما هل حُكْمُهما واحد، أو مختلف (وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ) أي: وفي بيان الغلط والنِّسيان الواقعين (فِي الطَّلاَقِ) يعني: أنَّه لو وقع من المكلف ما يقتضي الطَّلاق غلطاً، أو نسياناً هل يحكم عليه به أو لا؟ (وَالشِّرْكِ) أي: وفي الشِّرك لو وَقَع عن المكلَّف ما يقتضي الشِّرك غلطاً أو نسياناً، هل يحكم عليه به أو لا، فأمَّا حكمُ الطَّلاق الصَّادر عنهما، فمختلف فيه، / فقال الحسن: إنَّ النَّاسيَ كالعامد إلَّا إن اشترط، فقال: إلَّا أن أنسى، أخرجه ابن أبي شيبة، وقال الجمهور: إنَّه واقع، وهو قولُ عطاء والشَّافعي في قول، وإسحاق ومالك والثَّوري وابن أبي ليلى والأوزاعي والكوفيين.
          وأمَّا المخطئ فذهب الجمهور: إلى أنَّه لا يقع، وعند الحنفية: إذا أراد الرَّجل أن يقول لامرأته شيئاً، فسبق لسانه فقال: أنت طالقٌ يلزمه الطَّلاق.
          وأشار البُخاري ☼ بقوله: والغلط والنِّسيان إلى الحديث الوارد عن ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً: ((إنَّ الله تجاوزَ عن أمَّتي الخطأَ والنِّسيان، وما استكرهوا عليه)) فإنَّه سوى بين الثَّلاثةِ في التَّجاوز، فمن حَمَلَ التَّجاوز على رَفْعِ الإثم خاصَّة دون الوقوع في الإكراه؛ لزم أن يقول مثل ذلك في النِّسيان، والحديث أخرجه ابن ماجه، وصحَّحهُ ابن حبَّان.
          وأمَّا الشِّرك فإذا كان لا يُحْكَمُ به على الغالط والنَّاسي، فليكن الطَّلاق كذلك، كذا قيل، وقال صاحب «التَّوضيح» وقع في كثير من النُّسخ: في الطَّلاق والشِّرك، بكسر الشين المعجمة وسكون الراء، وهو خطأ، والصَّواب: والشَّكِّ مكان: الشِّرك.
          وتبعَه الزَّركشي لكن قال: وهو أليقُ، وكأنَّ مناسبة لفظ الشِّرك خفيتْ عليهما.
          قال الحافظُ العسقلاني: ولم أره في شيء من النُّسخ التي وقفت عليها بلفظ الشَّك، فإن ثبتتْ فيكون معطوفاً على النِّسيان لا على الطَّلاق، وقد سبقهما بذلك ابن بطَّال، حيث قال: وقع في كثير من النُّسخ: <والنِّسيان في الطَّلاق والشِّرك>، وهو خطأ، والصَّواب: والشَّك مكان: الشِّرك.
          ففهم صاحب «التَّوضيح» من قوله: في كثير من النُّسخ، أنَّ في بعضها: بلفظ الشَّك، فجزم به، فافهم. واختُلِفَ أيضاً في طلاق المشرك؛ فجاء عن الحسن وقتادة وربيعة: أنَّه لا يقعُ، ونُسِبَ إلى مالكٍ وداود، وذهبَ الجمهور إلى أنَّه يقع كما يصحُّ نكاحه وعتقه وغير ذلك من أحكامه.
          (وَغَيْرِهِ) أي: وغير المذكور من الأشياء المذكورة نحو الخطأ، وسَبْقِ اللِّسان والهزل، وقد ذكر حُكم الخطأ، وسَبْقَ اللِّسان آنفاً. وأمَّا حُكم الهازل في طلاقه ونكاحه ورجعتهِ، فإنَّه يؤاخذ به، ولا يلتفتُ إلى قوله: كنت هازلاً ولا يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وذلك لما روى التِّرمذي من حديث أبي هريرة ☺ / قال: قال رسول الله صلعم : ((ثلاثٌ جدُّهنَّ جد، وهزلهنَّ جد: النِّكاح، والطَّلاق، والرَّجعة)). وقال التِّرمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النَّبي صلعم ، والبُخاريُّ ☼ ذُكَرَ هذه الأشياءَ.
          ولم يذكر الجواب فيها اكتفاء بقوله: (لِقَوْلِهِ صلعم : الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) بالإفراد (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) أشار بهذا الحديثِ الصَّحيحِ الذي سبق ذكره في أوَّل الكتاب [خ¦1] على اختلاف الألفاظ فيه إلى أنَّ الاعتبار في الأشياء المذكورة بالنِّية؛ لأنَّ الحكم في الأصل إنِّما يتوجَّه على العاقل المختار العامد الذَّاكر، فالمكره غير مختار، والسَّكران غير عاقل في سكره، وكذلك المجنون في حال جنونه، والغالط والنَّاسي غير ذاكر (وَتَلاَ الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل لمَّا سُئل عن طلاق النَّاسي والمخطئ مُستدلاً على عدم وقوعه قوله تعالى: ({لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]) روي ذلك موصولاً في «فوائد» هناد بن السَّري الصَّغير من رواية سليم مولى الشَّعبي عنه بمعناه.
          (وَمَا لاَ يَجُوزُ مَنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ) عطف على قوله: الطَّلاق في الإغلاق، والتَّقدير: وباب ما لا يجوز في إقرار الموسوس على صيغة اسم الفاعل من وَسْوس، والوَسْوسة: حديثُ النَّفس، ولا مُؤاخذة بما يقع في النَّفس (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبِكَ جُنُونٌ) أشار بهذا إلى الاستدلال به على عدم وقوع طلاق المجنون، وهو قطعةٌ من حديثٍ أخرجه في المحاربين [خ¦6815] عن أبي هريرة ☺ قال: أتى رجلٌ رسولَ الله صلعم ، وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله إنِّي زنيتُ فأعرض عنه حتَّى ردَّد عليه أربع مرَّات، فلمَّا شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النَّبي صلعم ، فقال: ((أبك جنون؟)) فقال: لا، الحديث. وإنَّما قال له: ((أبك جنون))؛ لأنَّه لو كان ثبت عنه / أنَّه مجنون كان أسقط الحدَّ عنه.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) ☺: (بَقَرَ) بفتح الموحدة والقاف المخففة؛ أي: شق (حَمْزَةُ) أي: ابن عبد المطَّلب ☺ (خَوَاصِرَ) جمع خاصرة (شَارِفَيَّ) تثنية شارف أضيف إلى ياء المتكلم، والفاء مفتوحة والياء مشددة، والشَّارِف، بالشين المعجمة وكسر الراء: هي المُسِنَّة من النُّوق (فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلعم ) أي: شرع (يَلُومُ حَمْزَةَ) على فعله هذا (فَإِذَا) كلمة مفاجأة.
          وقوله: (حَمْزَةُ) مبتدأ، وقوله: (قَدْ ثَمِلَ) خبره، وهو بفتح المثلثة وكسر الميم؛ أي: قد أخذه الشَّراب، والرَّجل ثَمِلٌ، بكسر الميم أيضاً، ولكنَّه في الحديث فعل ماض، وفي قولنا: الرَّجل ثمِل صفة مشبهة، ويروى: <فإذا حمزة ثَمِلٌ> على صيغة الصِّفة المشبَّهة.
          وقوله: (مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ) خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون حالاً فحينئذٍ ينتصب حمزة (ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ) وفي رواية غير أبي ذرٍّ وابن عساكر: <هل> بدون الواو (أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لأَبِي فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ) أي: سكر (فَخَرَجَ) أي: النَّبي صلعم من عند حمزة (وَخَرَجْنَا مَعَهُ) أي: ولم يُؤاخذه، وأشار به المصنِّف إلى الاستدلال بأنَّ السَّكران لا يُؤاخذ بما صدر عنه في حال سكره من طلاقٍ وغيرِه. واعترض المهلَّب: بأنَّ الخَمْرَ حينئذٍ كانت مباحةً، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطقَ به في تلك الحال. قال: وبسبب هذه القصَّة كان تحريمُ الخمر. انتهى.
          وردَّ عليه الحافظُ العسقلاني: بأنَّ الاحتجاج من هذه القصَّة إنَّما هو بعدم مؤاخذة السَّكران بما يصدر منه، ولا يفترقُ الحال بين أن يكون الشُّرب فيه مباحاً، أو لا؟ وأيضاً: إن قوله: وبسبب هذه القصَّة كان تحريمُ الخمر غير صحيحٍ؛ لأنَّ قصَّة الشَّارفين كانت قبل أحدٍ اتِّفاقاً؛ لأنَّ حمزة ☺ استشهد بأُحد، وكان ذلك بين بدر وأحد عند تزويج عليٍّ بفاطمة ☻ . وقد ثبتَ في «الصَّحيح» أنَّ جماعةً اصطحبوا الخمرَ يوم أحد، واستشهدوا في ذلك اليوم، فكان تحريمُ الخمر بعد أُحد / لهذا الحديث الصَّحيح.
          وقد مضت هذه القصَّة في غزوة بدر، في بابٍ مجرَّد عَقِيبَ باب شهود الملائكة بدراً مطولاً [خ¦4003].
          (وَقَالَ عُثْمَانُ) ☺: (لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ) يعني: لا يقعُ طلاقهما، وصله ابن أبي شيبة عن وكيع بسندٍ صحيحٍ: حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزُّهري، عن أبان بن عثمان عنه: «كان لا يجيز طلاق السَّكران والمجنون». وكان عمر بن عبد العزيز يجيز ذلك حتى حدَّثه أبان بهذا.
          وفي «تاريخ أبي زرعة الدِّمشقي» عن آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب، عن الزُّهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلَّقت امرأتي وأنا سكران، وكان رَأْيُ عمرُ بنِ عبد العزيز مع رَأْيِنَا أن نَجْلِدَه ونفرِّق بينه وبين امرأته حتى حدَّثه أبانُ بنُ عثمان عن أبيه أنَّه قال: ليس على المجنون ولا السَّكران طلاق، فقال عمر: تأمرونني، وهذا يحدِّثني عن عثمان، فجلدَه ورد إليه امرأته.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ) وصله ابنُ أبي شيبة بسند صحيحٍ، عن عبد الله بن طلحة الخُزاعي، عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «ليس لسكران، ولا لمضطهدٍ طلاق».
          المضْطَهد، بضاد معجمة ساكنه ثمَّ طاء مهملة مفتوحة ثمَّ هاء ثمَّ مهملة،: هو المغلوب المقهور. وقوله: ليس بجائز؛ أي: ليس بواقع، إذ لا عقل للسَّكران المغلوب على عقله، ولا اختيار للمستكره، وذكر البُخاري أثر عثمان، ثمَّ ابن عبَّاس استظهاراً لما دلَّ عليه حديث علي في قصة حمزة.
          (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) ☺ هو بضم العين وسكون القاف، هو: ابنُ عامر بن عبس الجُهني، من جُهينة بن زيد بن سَوْدِ بن أسلم بن عَمرو بن الحَافِ بن قُضَاعة. وقال أبو عمر: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان والياً عليها، وابتنى بها داراً، وتوفي في آخر خلافة معاوية ☺.
          قال العينيُّ: ولي مصر من قبل معاوية سنة أربع وأربعين، ثمَّ عزله بمسلمة بن مخلد، وكانت له دار بدمشق بناحية قنطرةِ سنانٍ من باب تُوْمَا. /
          وذكر خليفة بن خيَّاط: قُتِلَ أبو عامر عقبةُ بن عامر الجهني يومَ النهروان شهيداً، وذلك في سنة ثمان وثلاثين، قال أبو عمر: هذا غلط منه، وقال الواقدي: شهد صفين مع معاوية، وتحوَّل إلى مصر، وتوفي آخر خلافة معاوية، ودفن بالمُقَطَّم.
          وقال الكِرمانيُّ: عقبة بن عامر الجُهَنِي الصَّحابي الشَّريف المقرئ الفرضيُّ الفصيحُ، وهو كان البِرَيدَ إلى عُمَر بن الخطاب ☺ بفتح دمشق، ووصل المدينة في سبعة أيام، ورجع منها إلى الشَّام في يومين ونصف بدعائه عند قبر النَّبي صلعم بذلك.
          (لاَ يَجُوزُ طَلاَقُ الْمُوَسْوِسِ) وقد عرفت أنَّ الوَسْوَسَةَ: حديث النَّفس، ولا مُؤاخذة فيما يقعُ في النَّفس (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (إِذَا بَدَا بِالطَّلاَقِ) يعني: إذا أراد أن يُطَلِّقَ وبدأ (فَلَهُ شَرْطُهُ) أي: فله أن يشترطَ، ويعلَّق طلاقها على شرط؛ يعني: لا يلزم أن يكون الشَّرط مقدَّماً على الطَّلاق، بل يصحُّ أن يُقال: طالق إن دخلت الدَّار، كما في العَكْس، ونُقِلَ عن البعض: أنَّه لا ينتفع بشرطه.
          وقد تقدَّم ذِكْرُه في باب الشُّروط في الطَّلاق عن عطاء وابن المسيَّب والحسن، وذكر من وصله عنهم، ومن خالف في ذلك [خ¦2727].
          (وَقَالَ نَافِعٌ) مولى ابن عمر ☻ له (طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ) نصب على المصدر من بتَّه يِبُتُّه، بضم الموحدة وكسرها، والبتُّ: القطع، ويقال: لا أفعله بتَّة، ولا أفعله البتَّة لكلِّ أمرٍ لا رَجْعَة فيه، ويُقال: طلَّقها ثلاثاً بتَّة؛ أي: قاطعة. وقال الكِرمانيُّ: قالت النُّحاة: قطع همزة البتَّة بمعزل عن القياس. وقال الحافظُ العسقلاني: وفي دعوى أنَّها تقال بالقطع نَظَرٌ، فإنَّ ألف البتَّة ألف وصل قطعاً، والذي قاله أهل اللُّغة البتَّة القطع، هو تفسيرها بمرادفها لا أنَّ المراد أنَّها تقال بالقطع.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ النُّحاة لم يقولوا البتَّة القطع، فحسب، وإنَّما قالوا: قطع همزة البتَّة، بتصريح نسبةِ القَطْعِ إلى الهمزة، والمعنى أنَّه قال له: ما حكم رَجُلِ / طلَّق امرأتَه البتَّة؛ يعني: بائناً.
          (إِنْ خَرَجَتْ) أي: من الدَّار (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ : (إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ) بضم الموحدة وتشديد الفوقية الأولى؛ أي: انقطعتْ عن الزَّوج بحيث لا رجعة فيها، ويروى: <فقد بانت> (وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) أي: لا يقع شيء.
          ومناسبة ذِكْرِ هذا هنا وإن كانت المسائل المتعلِّقة بالبتة تقدَّمت موافقة ابن عمر للجمهور في أن لا فرق في الشَّرط بين أن يتقدَّم، أو يتأخَّر، وبهذا يظهر مناسبة أثر عطاء أيضاً، وكذا ما بعد هذا. وقد أخرج سعيد بنُ منصور من وجه صحيحٍ عن ابن عمر ☻ أنَّه قال: في الخليَّة والبتَّة ثلاث ثلاث.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب (فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلاَثاً: يُسْألُ عمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ؟ فَإِنْ سَمَّى أَجَلاً أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ، جُعِلَ) على البناء للمفعول (ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ) يعني: يدين فيما بينه وبين الله تعالى. أخرجه عبد الرَّزاق عن مَعمر عن الزُّهري مختصراً، ولفظه في الرَّجلين يحلفان بالطَّلاق والعتاق في أمر يختلفان فيه، ولم يُقِمْ واحدٌ منهما بينةً على قوله، قال: يدينان، ويحملان من ذلك ما تحملا.
          وعن مَعْمَر عمَّن سَمِعَ الحسن مثله، وصورة المسألة ظاهرة في أنَّه تعليق يتنجَّز عند وجود الشَّرط، غير أنَّ الزُّهري زاد فيها قوله: يسأل عمَّا قال... إلى آخره.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعي (إِنْ قَالَ) أي: قال رجلٌ لامرأته (لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، نِيَّتُهُ) أي: يعتبر نيته، فإن قصد طلاقاً، وإلَّا فلا. وأخرجه ابنُ أبي شيبة عن حفص هو ابنُ غِياث، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن رجل قال لامرأته: لا حاجة لي فيك، قال: نيَّته. وعن وكيع عن شعبة: سألت الحكم وحماداً قالا: إن نوى طلاقاً فواحدة، وهو أحقُّ بها.
          (وَطَلاَقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ) أي: قال إبراهيم: طلاقُ كُلِّ قَوْمٍ من عربيٍّ وعَجَمِيٍّ جائز بلسانهم. روى ابن أبي شيبة، / عن ابن إدريس وجرير، فالأوَّل عن مطرِّف، والثَّاني عن مغيرة كلاهما، عن إبراهيم قال: طلاق العجمي بلسانهِ جائز. ومن طريق سعيد بن جُبير قال: إذا طلَّق الرَّجل بالفارسيَّة يلزمه، وقال صاحب «المحيط» الطَّلاق بالفارسيَّة المتعارفة أربعة: أحدها: لو قال لها: هشتم ترا، أو بهشتم ترا أَززنى. روى ابن رستم في «نوادره» عن أبي حنيفة: لا يكون طلاقاً إلَّا بالنِّيَّة؛ لأنَّ معناه يؤول إلى معنى التَّخلية، ولفظ التَّخلية لا يقع إلَّا بالنِّية. واللَّفظ الثَّاني: لو قال: بله كردم. واللَّفظ الثَّالث: لو قال باي كشاده كردم، يقع رجعياً بلا نية. واللَّفظ الرَّابع: لو قال: دست باز داشتم، قيل: يكون رجعياً، وقيل: بائناً. ولو قال: جهار راه برتو كشاده أست، لا يقع وإن نوى. ولو قال بالتُّركي: بوشادم سني بر طلاق، يقع واحدة رجعية. ولو قال: إيكي طلاق، يقع ثنتان. ولو قال: أوج طلاق، يقع ثلاث.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ) أي: ابن دِعامة (إِذَا قَالَ) أي: رجل لامرأته (إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً، يَغْشَاهَا) أي: يجامعها (عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً) واحدة لا مرَّتين؛ لاحتمال أنَّه بالجماع الأوَّل صارت حاملاً فطُلِّقَتْ به (فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ) أي: طُلِّقت (مِنْهُ) ثلاثاً، وصله ابنُ أبي شيبة عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة مثله، لكن قال: عند كلِّ طهر مرَّة، ثمَّ يمسك حتى تطهَّر، وذكر بقيته نحوه. ومن طريق أشعث عن الحسن: يغشاها إذا طهرتْ من الحيض، ثمَّ يمسك عنها إلى مثل ذلك. وقال ابنُ سيرين: يغشاها حتى تحملَ، وبه قال الجمهور. واختلفت الرِّوايةُ عن مالك؛ ففي رواية ابن القاسم: إن وطئها مرَّة بعد التَّعليق طَلُقَتْ سواء استبان بها حَمْلُ أو لا، وإن كان وطئها في الطُّهر الذي قال لها ذلك بعد الوطء، طَلُقَتْ مَكَانَها.
          وتعقَّبه الطَّحاوي بالاتفاق على أنَّ مثل ذلك إذا وقع في تعليق العتقِ لا يقع إلَّا إن وُجِدَ الشَّرط، قال: فكذلك الطَّلاق فلْيَكُن.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري (إِذَا قَالَ) الرَّجل / لامرأته (الْحَقِي بِأَهْلِكِ، نِيَّتُهُ) أي: يعتبر نيته أراد أنَّه كناية يعتبر فيه قصده إن نوى الطَّلاق وقع، وإلَّا فلا، وصله عبد الرَّزَّاق بلفظ: هو ما نوى. وأخرجه ابنُ أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن في رجل قال لامرأتهِ: اخرجي استبرئي اذهبي لا حاجة لي فيك هي تطليقةٌ إن نوى الطَّلاق.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (الطَّلاَقُ عَنْ وَطَرٍ) بفتحتين؛ أي: حاجة. قال أهل اللُّغة: لا يبنى منه فعل؛ أراد أنَّه لا تُطلِّق امرأة إلَّا عند الحاجة مثل النُّشوز، وكلمة عن متعلِّقة بمحذوف، أي: الطَّلاق لا ينبغي وقوعه إلَّا عند الحاجة.
          (وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ) يعني: أنَّ العِتَاق لله؛ فهو مطلوب دائماً (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) أي: ابن شهاب (إِنْ قَالَ) لامرأته: (مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ) أي: يعتبر نيته (فَإِنْ نَوَى طَلاَقاً فَهْوَ مَا نَوَى) وصله ابنُ أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن مَعمر، عن الزُّهري في رجل قال لامرأتهِ: لست لي بامرأة، قال: هو ما نوى. ومن طريق قتادة: إذا واجَهها به وأراد الطَّلاق فهي واحدة، وعن إبراهيم: وإن كرَّر ذلك مراراً ما أراه أراد إلَّا الطَّلاق، وعن قتادة: إن أرادَ طلاقاً طلقت، وتوقف سعيد بن المسيَّب، وقال اللَّيث: هي كذبة، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق، وبكونه طلاقاً قال مالكٌ وأبو حنيفة والأوزاعي.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) رضي لله عنه: (أَلَمْ تَعْلَمْ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَنَي: <ألم ترَ> يخاطب به عُمر ☺، وذلك أنَّ عُمر ☺ أُتِيَ بمجنونة قد زنتْ وهي حُبلى، فأراد أن يرجمها، فقال علي ☺ له: ألم تعلم... إلى آخره، وذكره بصيغة جزم؛ لأنَّه حديثٌ ثابتٌ. قال ابنُ المنذر: ثبت أنَّ رسول الله صلعم قال: ((رفع القلم... إلى آخره)).
          (أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ) وفي «الجعديات»: ((أما بلغك أنَّ القلم قد وضع)) (عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ) / من جنونه (وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ) أي: حتى يبلغَ (وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ) من نومه. وصله البغوي في «الجعديات» عن عليِّ بن الجعد، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّ عُمر ☺ أُتِيَ بمجنونة قد زنت»، الحديث. وتابعه ابنُ نمير ووكيع، وغير واحد عن الأعمش. ورواهُ جرير بن حازم، عن الأعمش، فصرَّح فيه بالرَّفع، أخرجه أبو داود، وابن حبَّان في «صحيحه» مرفوعاً من حديث ابن وهب، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبَّاس، عن علي ♥ .
          ورواه النَّسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعاً وموقوفاً، لكن لم يذكر فيهما ابن عبَّاس ☻ جعله عن أبي ظبيان، عن علي، ورجَّح الموقوف على المرفوع، وفيه: فقال عليُّ بن أبي طالب ☺: أوما تذكر أنَّ رسول الله صلعم قال: ((رفعَ القلمُ عن ثلاث: عن المجنون المغلوبِ على عقله، وعن النَّائم حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتى يحتلمَ)) قال: صدقت.
          ورواه ابنُ ماجه من رواية ابن جُريج، عن القاسم بن يزيد، عن علي ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((رفع القلم عن الصَّغير، وعن المجنون، وعن النَّائم)). وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهورُ، لكن اختلفوا في إيقاع طلاق الصَّبي فعن ابن المسيَّب والحسن: يلزم إذا عقل وميز وحده. وعند أحمد: أن يطيقَ الصِّيام ويحصي الصَّلاة، وعند عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة، وعن مالك رواية: إذا ناهز الاحتلام. وفي «الفتاوى الصُّغرى» لأبي يعقوب يوسف الجصاصي: إنَّ الجنونَ المُطْبِقَ عن أبي يوسف أكثر السَّنة، وفي رواية: عنه أكثر من يوم وليلة، وفي رواية: سبعة أشهر، والصَّحيح: ثلاثة أيام.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالب ☺: (وَكُلُّ الطَّلاَقِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وكل الطَّلاق> (جَائِزٌ) أي: واقع (إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ) ذكره / أيضاً بصيغة الجزم؛ لأنَّه ثابت، وصله البغويُّ في «الجعديات» عن عليِّ بن الجعد، عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم النَّخعي، عن عابس بن ربيعة: أنَّ عليًّا ☺ قال: «كلُّ طلاقٍ جائز إلَّا طلاق المعتوه». وهكذا أخرجه سعيدُ بن منصور، عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه صرَّح في بعضها بسماع عابس بن ربيعة من عليٍّ.
          وقد وَرَدَ فيه حديثٌ مرفوعٌ رواه التِّرمذي قال: حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى: حدثنا مروان بن أبي معاوية الفزاري، عن عطاء بن عَجْلان، عن عكرمة بن خالد، عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((كلُّ طلاقٍ جائز إلَّا طلاق المعتوه المغلوب على عقله))، وزاد فيه قوله: ((المغلوبُ على عقله)). وقال: هذا حديث لا نَعْرِفُه مرفوعاً إلَّا من حديث عطاء بن عَجلان، وهو ضعيفٌ ذاهبُ الحديث، والعملُ على هذا عند أهلِ العِلْمِ من أصحاب النَّبيِّ صلعم وغيرهم: أنَّ طلاقَ المعتوه المغلوبِ على عَقْلهِ لا يجوز إلَّا أن يكون معتوهاً يُفِيْقُ الأَحْيَان، فيُطّلِّقُ في حال إِفَاقَتِه.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: هذا حديث أبي هريرة ☺ انفرد بإخراجه التِّرمذي، وعطاء بن عَجْلان ليس له عند التِّرمذي إلَّا هذا الحديث الواحد، وليس له في بقية الكتب السِّتة شيء، وهو حنفيٌّ بصري يكنى: أبا محمد، ويعرف بالعطَّار، اتَّفقوا على ضعفه، قال ابنُ معين: والفلاس كذَّاب، وقال أبو حاتم والبُخاري: منكر الحديث، زاد أبو حاتم: جداً، وهو متروك الحديث.
          وقال الحافظُ العسقلاني: يدخل في المعتوه: الطِّفل والمجنون والسَّكران، والجمهورُ على عدم اعتبار ما يصدر منه. وفيه خلافٌ قديم ذكر ابنُ أبي شيبة من طريق نافع: «أنَّ المجير بن عبد الرَّحمن طلَّق امرأته وكان معتوهاً، فأمرها ابن عمر ☻ بالعدَّة، فقيل له: إنَّه معتوهٌ، فقال: إنِّي لم أسمع الله استثنى للمعتوه طلاقاً، ولا غيره». وذكر ابنُ أبي شيبة، عن الشَّعبي / وإبراهيم وغيرُ واحدٍ، مثل قول علي ☺.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) وصله عبد الرَّزَّاق، عن مَعمر، عن قتادة والحسن قالا: من طلَّق سراً في نفسه، فليس طلاقه ذلك بشيءٍ، وهذا قولُ الجمهور، وخالفَهم ابنُ سيرين وابنُ شهاب فقالا: تَطْلُّق، وهي رواية عن مالك، ثمَّ وَقَعَ هذا الأثر عن قتادة في رواية النَّسفي عقيب حديث قتادة المرفوع المذكور هنا بعد، فلمَّا ساقَه من طريق قتادة، عن زُرارة، عن أبي هريرة ☺، فذَكَر الحديثَ المرفوع قال بعده: «قال قتادة»، فَذَكَرَه.