نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من أجاز طلاق الثلاث

          ░4▒ (باب مَنْ أَجَازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب من جوز الطَّلاق الثَّلاث> وهذا أوضح وأوجه، ووضع البخاري هذه التَّرجمةَ إشارةً إلى أنَّ مِنَ السَّلف من لم يجوِّز وقوعَ الطَّلاق الثَّلاث؛ فذهب طاوس ومحمد بن إسحاق، والحجَّاج بن أرطاة، والنَّخعي، وابن مقاتل، والظَّاهرية: إلى أن الرَّجل إذا طلَّق امرأته ثلاثاً معاً فقد وقعت عليها واحدة.
          واحتجُّوا في ذلك بما رواه مسلم من حديث طاوس: أنَّ أبا الصَّهباء قال لابن عبَّاس ☻ : أتعلم إنَّما كانت الثَّلاث تجعل واحدةً على عهد النَّبي صلعم ، وأبي بكر، وثلاثاً من إمارة عمر ☺، فقال ابن عبَّاس ☻ : نعم، وأخرجه الطَّحاوي أيضاً، وأبو داود، والنَّسائي، وقيل: لا يقع شيءٌ.
          ومذهب جماهير العلماء من التَّابعين، ومن بعدهم منهم الأوزاعي والنَّخعي والثَّوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، والشَّافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وآخرون كثيرون: أنَّ من طلق امرأته ثلاثاً وَقَعْنَ، ولكنَّه يأثم وقالوا: ومن خالف فيه فهو شاذٌّ مخالف لأهل السُّنة، وإنَّما تعلَّق به أهل البِدَع ومن لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لشذوذه عن الجماعة التي لا يجوز عليهم التَّواطؤ على تحريف الكتاب والسُّنة.
          وأجاب الطَّحاويُّ عن حديثِ ابن عبَّاس ☻ بما ملخصه: أنَّه منسوخ، بيانه: أنَّه لما كان زمن عمر ☺ قال: يا أيها النَّاس قد كان لكم في الطَّلاق أناة، وإنَّه من تعجَّل أناة الله في الطَّلاق ألزمناه إيَّاه، رواه الطَّحاوي بإسناد صحيحٍ، وخاطب عمر ☺ بذلك النَّاسَ الذين قد علموا / ما قد تقدَّم من ذلك في زمن النَّبي صلعم ، فلم ينكرْه عليه منهم منكرٌ، ولم يَدْفَعْه دَاِفعٌ، فكان ذلك أكبرَ الحجج في نسخ ما تقدَّم من ذلك، وقد كان في أيام النَّبي صلعم أشياء على معان، فجعلها أصحابه من بعده على خلاف تلك المعاني، فكان ذلك حجَّة ناسخة لما تقدَّم.
          ومن ذلك تدوين الدَّواوين وبيع أمهات الأولاد، وقد كنَّ يُبعن قبل ذلك، والتَّوقيت في حدِّ الخمر، ولم يكن فيه توقيت. فإن قيل: ما وجه هذا النَّسخ وعمر ☺ لا ينسخ، وكيف يكون النَّسخ بعد النَّبي صلعم ؟
          فالجواب: أنَّه لما خاطب عمر ☺ الصَّحابة بذلك، فلم يقعْ إنكار صار إجماعاً، والنَّسخ بالإجماع جَوَّزَه بعضُ مشايخنا بطريق أنَّ الإجماع موجبٌ علم اليقين كالنَّص، فيجوز أن يثبت النَّسخ به، والإجماع في كونه حجَّةً أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النَّسخ جائزاً بالخبر المشهور في الزِّيادة على النَّص فجوازه بالإجماع أولى، فإن قيل: هذا إجماعٌ على النَّسخ من تلقاء أنفسهم، فلا يجوز ذلك في حقِّهم.
          فالجواب: أنَّه يحتمل أن يكون ظهرَ لهم نصٌّ أوجب النَّسخَ، ولم يُنْقَلْ إلينا ذلك، على أن الطَّحاوي قد روى أحاديث عن ابن عبَّاس ☻ تشهد بانتساخ ما قاله، من ذلك ما رواه من حديث الأعمش، عن مالك بن الحارث قال: «جاء رجلٌ إلى ابن عبَّاس ☻ فقال: إنَّ عمي طلَّق امرأته ثلاثاً، فقال: إنَّ عمَّك عصى الله، فآثمه الله، وأطاع الشَّيطان فلم يجعل له مخرجاً، فقلت: كيف ترى في رجلٍ يحلها له؟ فقال: من يُخادع الله يخادعه».
          وقال الشَّافعي: يُشْبِه أن يكون ابنُ عبَّاس قد عَلِمَ شيئاً نُسِخَ؛ لأنَّه لا يَروي عن رسول الله صلعم شيئاً، ثمَّ يخالفه بشيءٍ لا يعلمه، وأجاب قومٌ عن حديث ابن عبَّاس ☻ : أنَّه في غير المدخول بها، وقال الجصَّاص: حديث ابن عبَّاس ☻ هذا منكرٌ.
          وأخرج أبو داود بسند صحيحٍ من طريق مجاهد قال: «كنتُ عند ابن عبَّاس فجاءه رجل، فقال: / إنَّه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننتُ أنَّه سيرُدُّها إليه، فقال: ينطلقُ أحدكم فيركب الأحموقة، ثمَّ يقول: يا ابن عبَّاس، إنَّ الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]، إنك لم تتَّق الله ولا أجدُ لك مخرجاً عصيتَ ربك، وبانت منك امرأتُك». وأخرج أبو داود له متابعاتٍ عن ابن عبَّاس ☻ بنحوه.
          وأخرج سعيد بن منصور عن أنس ☺: «أنَّ عمرَ ☺ كان إذا أتي برجلٍ قد طلَّق امرأته ثلاثاً أوجع ظهره»، وسنده صحيحٍ، وقالت الشِّيعة وبعضُ أهل الظَّاهر: لا يقع إذا أوقعه دفعة واحدة، قالوا: لأنَّه خالف السُّنة فيرد إلى السُّنة، وطرد بعضهم ذلك في كلِّ طلاق منهي كطلاق الحائض، وهو شذوذٌ. وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه.
          واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: أُخْبِرَ النَّبيُّ صلعم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام مغضباً، فقال: ((أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم))، الحديث أخرجه النَّسائي ورجاله ثقاتٌ، لكن محمود بن لبيد وُلِدَ في عهد النَّبي صلعم ، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضُهم في الصَّحابة؛ فلأجل الرُّؤية، وقد ترجم له أحمد في «مسنده»، وأخرج له عدَّة أحاديث ليس فيها شيء صَرَّح فيه بالسَّماع، وقد قال النَّسائي بعد تخريجه: لا أعلم رواه غير مخرمة بن بُكير؛ يعني: ابن الأشج عن أبيه. انتهى.
          ورواية مَخْرمة عن أبيه عند مسلم في عدَّة أحاديث، وقد قيل: إنَّه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحَّة حديث محمود، فليس فيه بيان أنَّه هل أمضى عليه الثَّلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أولاً، فأقل أحواله أن يدلَّ على تحريم ذلك.
          وقد أطالَ في ذلك الحافظُ العسقلاني، واختلفوا مع الوقوع ثلاثاً هل يُكره، أو يحرم، أو يباح، أو يكون بدعياً أو لا؟ فقالت الشَّافعية: يجوز ذلك، ولو دفعة.
          وقال اللَّخمي من أئمة المالكية: إيقاع الاثنين مكروه، والثَّالث ممنوعٌ؛ لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] ؛ / أي: من الرَّغبة في المراجعة، والنَّدم على الفراق، وللشَّافعية قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236]، وقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وهذا يقتضي الإباحة.
          نعم، الأفضل عندهم: أن لا يطلِّق أكثرَ من واحدةٍ؛ ليخرج من الخلاف.
          وقالت الحنفيَّة: يكون بدعياً إذا أوقعه بكلمة؛ لحديث ابن عمر ☻ عند الدَّارقطني: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلَّقتها ثلاثاً؟ قال: ((إذاً قد عصيت ربَّك، وبانت منك امرأتك)). ولأنَّ الطَّلاق إنَّما جُعِلَ مُتَعَدِّداً، ليمكنَه التَّدارك عند النَّدم، فلا يحلُّ له تفويته.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ ╡: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}) أي: برجعة ({أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}) وجه الاستدلال به: أنَّ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229].
          معناه: مرَّة بعد مرَّة، فإذا جاز الجَمْعُ بين ثنتين جاز بين الثَّلاث، كذا قال الكِرماني، وهو قياس مع وضوح الفارق؛ لأنَّ جَمْعَ الثِّنتين لا يستلزم البينونة الكبرى، بل يبقى له الرَّجعة إن كانت رجعية، وتجديد العقد بغير انتظار عدَّة إن كانت بائناً، بخلاف جَمْعِ الثَّلاث.
          وقال الحافظُ العسقلاني: والذي يظهرُ لي أنَّه إن كان أراد بالتَّرجمة مطلق وجود الثَّلاث مفرقة كانت، أو مجموعة، فالآية واردةٌ على المنع؛ لأنَّها دلَّت على مشروعيَّة ذلك من غير نكير، وإن كان أراد تجويز الثَّلاث مجموعة، وهو الأظهرُ فأشار بالآية إلى أنَّها ممَّا احتج به المخالف؛ للمنع من الوقوع؛ لأنَّ ظاهرها أنَّ الطَّلاقَ المشروع لا يكون بالثَّلاث دفعة واحدة، بل على التَّرتيب المذكور؛ فأشار إلى أنَّ الاستدلالَ بذلك على مَنْعِ جَمْعِ الثَّلاث غيرُ متَّجه، إذ ليس في السِّياق المنع من غير الكيفية المذكورة، بل انعقدَ الإجماع على أنَّ إيقاع المرَّتين ليس شرطاً، ولا راجحاً، بل اتَّفقوا على أنَّ إيقاع الواحدة أرجح من إيقاع الثِّنتين.
          فالحاصل: أنَّ مرادَه دَفْعُ دليل المخالف بالآية، لا الاحتجاج بها؛ لتجويز الثَّلاث، وقال: هذا الذي ترجَّح عندي. انتهى. /
          وقال العيني: وأحسن منه أن يقال: إنَّ قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] عام متناول لإيقاع الثَّلاث دفعة واحدةً، وكذا قال الكرماني أيضاً.
          ولكن تعقَّبه الحافظُ العسقلاني: وهذا وإن كان لا بأس به إلَّا أنَّ التَّسريح في سياق الآية إنَّما هو فيما بعد إيقاع الثِّنتين فلا يتناولُ إيقاع الطَّلقات الثَّلاث. فإن معنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] فيما ذكر أهل العلم بالتَّفسير؛ أي: أكثر الطَّلاق الذي يكون بعده الإمساك، أو التَّسريح مرَّتان، ثمَّ حينئذٍ إمَّا أن يختارَ استمرار العصمة فيمسك الزَّوجة، أو المفارقة، فيسرحها بالطَّلقة الثَّالثة، وهذا التَّأويل نقله الطَّبريُّ وغيرُه عن الجمهور.
          ونقلوا عن السَّدي والضَّحَّاك: أنَّ المرادَ بالتَّسريح في الآية: تركُ الرَّجعة حتى تنقضيَ العدَّة، فتحصل البينونةُ.
          ويرجِّح الأوَّل: ما أخرجه الطَّبريُّ وغيرهُ من طريق إسماعيل بن سُمَيْع، عن أبي رزين قال: قال رجل: يا رسول الله، الطَّلاق مرَّتان فأين الثَّالثة؟ قال: (({إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}))، وسنده حسنٌ، لكنَّه مرسل؛ لأنَّ أبا رزين لا صُحبة له.
          ورواه ابن مَرْدويه من طريق قيس بن الرَّبيع، عن إسماعيل بن سُمَيْع، عن أبي رزين مرسلاً، ثمَّ قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرَّحيم: حدثنا أحمد بن يحيى: حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد: حدثنا ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك ☺ قال: جاء رجل إلى النَّبي صلعم فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطَّلاق مرَّتين فأين الثَّالثة؟ قال: (({إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229])). وقد وَصَلَه الدَّارقطنيُّ من وَجْهٍ آخر عن إسماعيل فقال: عن أنس. قال الحافظُ العسقلاني: لكنَّه شاذ، والأوَّلُ هو المحفوظ.
          وقد رجَّح إلْكِيَا الهَرَّاسي من الشَّافعية في كتاب «أحكام القرآن» له قولَ السُّدي، ودفع الخبرَ بكونه مرسلاً، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله: أن فيه زيادة فائدة وهي: بيان حال المطلَّقة وأنَّها تبين إذا انقضتْ عِدَّتُها، قال: وتؤخذ / الطلقة الثالثة من قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]. انتهى.
          والأخذ بالحديث أولى؛ فإنَّه مرسل حسن يعتضدُ بما أخرجه الطَّبري من حديثِ ابن عبَّاس ☻ بسند صحيحٍ قال: «إذا طلَّق الرَّجل امرأته تطليقتين، فليتَّق الله في الثَّالثة، فإمَّا أن يمسكها فيحسن صحبتها، أو يسرحها فلا يظلمها من حقِّها شيئاً».
          قال القرطبي في «تفسيره»: ترجم البُخاري على هذه الآية من أجاز الطَّلاق الثَّلاث؛ لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]. وهذا إشارة منه إلى أنَّ هذا العدد إنَّما هو بطريق الفسحة لهم، فمن ضيَّق على نفسه لزمه كذا قال، والله المستعان.
          (وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) هو: عبدُ الله بن الزُّبير بن العوام ☻ (فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ) امرأته طلاقاً باتاً (لاَ أَرَى) بفتح الهمزة (أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ) أي: التي طُلِّقَتْ طلاقاً بائناً، وهي مَن قِيْلَ لها: أنت طالقٌ البتَّة، ويُطْلَقُ على من أُبِيْنَتْ بالثَّلاث. وفي رواية غير أبي ذرٍّ: <مبتوتته> بالضَّمير، وهو للرَّجل، وكأنَّه حذف للعلم به، كذا قال الحافظُ العسقلاني، والظَّاهر: أنَّه راجع إلى المريض، فافهم، وقد اختلف العلماء في قول الرَّجل: أنت طالقٌ البتَّة، فذكر ابنُ المنذر عن عمر ☺: أنَّها واحدة، وإن أراد ثلاثاً، فهي ثلاث، وهذا قول أبي حنيفة والشَّافعي، وقالت طائفة: البتة ثلاث، روي ذلك عن علي وابن عمر ♥ ، وكذا عن ابن المسيَّب وعروة والزُّهري وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي وأبي عُبيد، وهذا التَّعليقُ رواه أبو عُبيد القاسم قال: حدَّثنا يحيى بن سعيد القطَّان، قال: حدَّثنا ابن جُريج، عن ابن أبي مُليكة: أنَّه سأل ابن الزُّبير، عن المبتوتة في المَرَض، فقال: طلق عبد الرَّحمن بن عوف ☺ ابنة الأصبغ الكلبية فبتَّها، ثمَّ مات وهي في عدَّتها فَوَرَّثَها عثمان. قال ابن الزُّبير: وأمَّا أنا فلا أرى أن ترثَ المبتوتة، ويروى: وأمَّا أنا فلا أرى أن أورثها لبينونتهِ إيَّاها.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَرِثُهُ) أي: قال عامر بن شراحيل الشَّعبي: ترث المبتوتة زوجها في الصُّورة المذكورة. /
          وهذا التَّعليق وَصَلَه سعيد بنُ منصور، عن أبي عَوَانة، عن مُغِيرة، عن إبراهيم والشَّعبي في رجل طلَّق امرأته ثلاثاً في مرضه، قالا: تعتد عدَّة المتوفى عنها زوجها وترثه ما كانت في العدَّة، وروى ابنُ أبي شيبة بسند صحيحٍ عن عمر بن الخطاب ☺ في المطلَّق ثلاثاً في مرضهِ ترثه ما دامتْ في العدَّة ولا يرثها، وورث عليٌّ ☺ أمَّ البنين من عثمان رصي الله عنه؛ لما أحصرَ وطلَّقها، وقال إبراهيم: ترثُهُ ما دامت في العدَّة، وقال طاوس وعروة بن الزُّبير وابن سيرين، وعائشة أم المؤمنين ♦ تقول: كانوا يقولون: كلُّ من فَرَّ من كتاب الله رُدَّ إليه.
          وقال عكرمة: لو لم يبق من عدتها إلَّا يوم واحد، ثمَّ مات ورثتْ، واستأنفت عدَّة المتوفَّى عنها زوجها.
          (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ) هو: عبدُ الله بن شُبْرُمة، بضم الشين المعجمة وسكون الموحَّدة وضم الراء: الضَّبِّيُّ قاضي الكوفة التَّابعي؛ يعني: قال للشَّعبي: (تَزَوَّجُ) بفتح أوله وضم آخره، وأصله: تتزوَّج، حذفت منه إحدى التَّاءين للتَّخفيف، كما في قوله ╡: {نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] أصله: تتلظَّى، وهو استفهامٌ محذوف الأداة؛ أي: هل تتزوَّج هذه المرأة.
          (إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ) أي: بعد العدَّة، وقبل وفاة الزَّوج الأوَّل أم لا (قَالَ) أي: الشَّعبي (نَعَمْ) تتزوَّج (قَالَ) أي: ابن شبرمة (أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ) ترث منه أيضاً، فيلزم إرثها من الزَّوجين معاً في حالةٍ واحدةٍ (فَرَجَعَ) أي: الشَّعبي (عَنْ ذَلِكَ) أي: عمَّا قاله، فقال: ترثُ ما دامت في العدَّة، وهكذا وقع عند البُخاري مختصراً، وأنَّ الخطاب دار بين الشَّعبي وابن شُبْرُمة.
          والذي في «سنن سعيد بن منصور» أنَّه كان مع غير الشَّعبي، فإنَّه قال: حدَّثنا حماد بن زيد، عن أبي هاشم في الرَّجل يطلِّق امرأته وهو مريضٌ، إن مات في مرضه ذلك ورثته، فقال له ابنُ شُبْرمة: أتتزوَّج؟ قال: نعم، قال: فإن مات هذا، ومات الأوَّل أترث زوجين؟ قال: لا، فرجع إلى العدَّة، فقال: ترثه ما كانت في العدَّة، ولعلَّه سقط ذكر الشَّعبي من الرِّواية.
          وأبو هاشم / المذكور هو الرُّمَّاني، بضم الراء وتشديد الميم، اسمه: يحيى، وهو واسطيٌّ، كان يتردد إلى الكوفة، وهو ثقةٌ. ومحلُّ المسألة المذكورة كتاب الفرائض، وإنَّما ذُكِرَتْ هنا استطراداً.