نجاح القاري لصحيح البخاري

باب اللعان

          ░25▒ (بابُ اللِّعَانِ) وهو مصدر لاعنَ يُلاعن مُلاعنةً ولِعاناً، وهو مشتقٌ من اللَّعْن، وهو الطَّرد أو الإبعاد؛ لبُعدهما من الرَّحمة، أو لبُعْد كلٍّ منهما عن الآخر، فلا يجتمعان أبداً، واللِّعانُ والالتعان والملاعنةُ بمعنى. ويقال: تلاعنا والتعنَا ولاعن الحاكمُ بينهما، والرَّجلُ مُلاعِنٌ، والمرأة ملاعِنةٌ. /
          وسمِّي به لما فيه من لعن نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكل باسم البعض كالصَّلاة تسمى ركوعاً وسجوداً. ومعناه الشَّرعي: شهادات مؤكدة بالأيمان مقرونة باللَّعن.
          وقال الشَّافعي: هي أيمان مؤكَّدات بلفظ الشَّهادة، فيشترطُ أَهليَّةَ اليمين عنده، فجرى بين المسلم وامرأته الكافرة، وبين الكافر والكافرةِ، وبين العبدِ وامرأته، وبه قال مالك وأحمد، وعندنا يشترطُ أهليَّة الشَّهادة، فلا يجري إلَّا بين المسْلِمَين الحُرَّين العاقِلَين البالِغَين الغير المحدودَين في قذف. واختير لفظ اللَّعْنِ على لَفْظِ الغَضَبِ وإن كانا مذكورين في الآية؛ لتقدُّمه فيها، ولأنَّ جانب الرَّجل فيه أقوى من جانب المرأة؛ لأنَّه قادرٌ على الابتداء باللِّعان دونها، ولأنَّه قد ينفكُّ لعانه عن لعانها، ولا ينعكسُ.
          واختصَّتِ المرأةُ بالغَضَبِ؛ لعِظَم الذَّنب بالنِّسبة إليها؛ لأنَّ الرَّجلَ إن كان كاذباً لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانتْ هي كاذبةً فذنبها أعظم؛ لما فيه تلوث الفراش، والتَّعرض لإلحاق من ليس من الزَّوج به، فتنتشرُ المحرميَّة، وتثبتُ الولاية والميراث لمن لا يستحقُّها، وجُوِّز اللِّعانُ؛ لحِفْظِ الأنساب، ودفع المضرَّة عن الأزواج، وأجْمَعَ العلماءُ على صحَّته.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على لفظ اللِّعان المضاف إليه لفظ باب ({وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]) يقذفون زوجاتهم بالزِّنى ({وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ}) يشهدون على تصديق قولهم ({إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ}) رفع بدل من شهداء، أو نعت له على أنَّ إلَّا بمعنى غير (إِلَى قَوْلِهِ) ╡، وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}> ({إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]) وهذا المقدار ذكر من الآية عند الأكثرين، وفي رواية كريمة ساق الآياتِ كلَّها. ونزلت تلك الآياتُ في شعبان سنة تسع في عويمر العجلاني منصرفَه من تبوك، أو في هلال بن أميَّة، وعليه الجمهور. وقال المهلَّب: الصَّحيحُ أنَّ القاذفَ عويمر، وهلال بن أميَّة خطأ.
          وقد روى القاسمُ عن ابنِ عبَّاس ☻ : أنَّ العجلانيَّ / عويمراً قَذَفَ امرأته، كما روى ابن عمر وسهل بن سعد ♥ . وأظنُّه غَلَطاً من هشام بن حسان، وممَّا يدلُّ على أنَّها قصَّة واحدة توقُّفه صلعم فيها حتى نزلت الآية الكريمة، ولو أنَّهما قضيتان لم يتَوقَّفْ عن الحُكْم في الثَّانية بما نَزَلَ عليه في الأُولى.
          والظَّاهر أنَّه تبع في هذا الكلام محمدَ بنَ جرير، فإنَّه قال في «التَّهذيب»: يُسْتَنْكَرُ قولُه في الحديث: هلال بن أميَّة، وإنَّما القاذف عُويمر بن الحارث بن زيد بن الجَدّ بن عجلان.
          وقال صاحب «التَّلويح»: وفيما قالاه نظر؛ لأنَّ قصَّةَ هلال وقذفَه زوجتَه بشريك ثابتةٌ في «صحيح البخاري» في موضعين في الشَّهادات [خ¦2671]، والتَّفسير [خ¦4747].
          وفي «صحيح مسلم» من حديث هشام، عن محمد قال: «سألتُ أنس بن مالك ☺ وأنا أرى أنَّ عنده منه علماً، فقال: إنَّ هلالَ بن أمية قذفَ امرأته بشريكِ بن سَحماء، وكان أخاً لبراء بن مالك لأمِّه، وكان أوَّل رجلٍ لاعن في الإسلام، قال: فتلاعنا»، الحديث.
          وتمام الآية: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} فالواجب شهادةُ أحدهم، أو فعليهم شهادة أحدهم {بِاللَّهِ} متعلِّق بشهادات؛ لأنَّها أقربُ، وقيل: بشهادة لتقدمها {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] أي: فيما رماها به من الزِّنى، وأصله: على أنَّه، فحُذِفَ الجارُّ، وكُسِرَتْ إن وعلَّق العامل عنه باللام تأكيداً {وَالْخَامِسَةُ} [النور:7] والشَّهادة الخامسة {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] في الرَّمي، هذا لعان الرَّجل.
          وحكمه: سقوط حدِّ القذف عنه، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقةَ فَسْخٍ عند الشَّافعي؛ لقوله صلعم : ((المتلاعنان لا يجتمعان أبداً)) وبتفريق الحاكم فرقةَ طلاقٍ عند أبي حنيفة، ونفي الولد إن تعرَّض له فيه، وثبوتُ حد الزِّنى على المرأة. لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، أي: الحد {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] فيما رماني به {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] في ذلك، ورفع الخامسة بالابتداء، وما بعده الخبر، أو بالعطف على {أَنْ تَشْهَدَ}، ونصبها حفص: عطفاً على أربع.
          (فَإِذَا قَذَفَ) أراد البُخاريُّ بهذا الكلام...إلى آخره بيانَ الاختلاف / بين أهل الحجاز وبين الكوفيين في حُكْمِ الأخرس في اللِّعان والحدِّ، فلذلك قال: فإذا قذف بالفاء عقيب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] الآية. وأخذ بعموم قوله تعالى: {يَرْمُونَ} لأنَّ الرَّميَ لا يخلو من أن يكون باللَّفظ، أو بالإشارة المُفْهِمةِ، وبنى على هذا كلامَه فقال: إذا قذف.
          (الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ، بِكِتَابَةٍ) وفي رواية الكُشْمِيْهَني: <بكتاب> بدون التَّاء إذا فَهِمَ الكتابة (أَوْ بإِشَارَةٍ) مفهمة (أَوْ بِإِيمَاءٍ) مفهم بالرَّأس أو الجفن، أشار إليه بقوله: (مَعْرُوفٍ) قيد به؛ لأنَّه إذا لم يكن معروفاً منه ذلك لا يبنى عليه حكم. والفرق بين الإشارة والإيماء: أنَّ المتبادَر إلى الذِّهن في الاستعمال أنَّ الإشارةَ باليد، والإيماءَ بالرَّأس أو الجَفْن ونحوه (فَهْوَ كَالْمُتَكَلِّمِ) بالقذف جواب إذا قذف؛ أي: فحكمه حكمُ المتكلِّم، يعني: حكم النَّاطق، وإنَّما أدخل الفاء؛ لتضمن إذا معنى الشَّرط، وهو قوله: معروف، وهو وإن كان صفةً لقوله: أو إيماء، بحسب الظَّاهر.
          ولكنَّه في نفس الأمر يرجع إلى الكلِّ؛ لأنَّه إذا لم يَفْهَمِ الكتابةَ، أو الإشارةَ، أو الإيماء لا يُبْنَى عليه حُكْمٌ، ثمَّ إنَّه إذا كان كالمتكلِّم يكون قذفُه بهذه الأشياء معتبراً، فيترتَّب عليه اللِّعان وحكمه.
          (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَدْ أَجَازَ الإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ) أشار به إلى الاستدلال بما ذَكَرَه بيانُه أنَّ النَّبيَّ صلعم قد أجازَ الإشارة في الأمورِ المفروضة، كما في الصَّلاة، فإنَّ العاجزَ عن غير الإشارة يصلِّي بالإشارة (وَهْوَ) أي: ما ذكر من قذف الأخرس...إلى آخره (قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ) أراد به الإمام مالكاً، ومن معه فيما ذهب إليه (وَأَهْلِ الْعِلْمِ) أي: وبعض أهل العلم من غير أهل الحجاز، وممَّن قال به من أهل العلم أبو ثور، فإنَّه ذهب إلى ما قاله مالك (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}) استدلال من البُخاري لقولِ بعضِ أهل الحجاز بقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] ؛ أي: أشارت مريم إلى عيسى ◙، وقالت لقومها بالإشارة لما قالوا لها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] كلِّموا عيسى، وهو في المهد، ولمَّا أشارت إليه غَضبُوا وتَعَجَّبوا ({قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ}) أي: وُجِدَ ({فِي الْمَهْدِ}) المعهود ({صَبِيّاً}) حال، فعرفوا / من إشارتها ما كانوا قد عَرَفُوه من نُطْقِها، قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] لما أَسْكَتَتْ بأمر الله تعالى لِسَانَها النَّاطقَ أَنْطَقَ اللهُ لها اللِّسانَ السَّاكتَ حتَّى اعترف بالعبوديَّة، وهو: ابنُ أربعين ليلة أو ابن يوم.
          روي: أنَّه أشار بسبابتيه، وقال بصوت رفيع: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]. وأخرجَ ابنُ أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران لمَّا قالوا لمريم: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] إلى آخره أشارتْ إلى عيسى: أنْ كلِّموه، فقالوا: أتأْمُرُنا أن نُكَلِّمَ من هو في المهدِ زيادة على ما جاءتْ به من الدَّاهية.
          ووجه الاستدلال به: أنَّ مريمَ ♀ كانت نذرت أن لا تتكلَّم، فكانت في حُكم الأخرس، وقد ثبتَ من حديث أُبيِّ بن كعب وأنس بن مالك ☻ : أنَّ معنى قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] ؛ أي: صمتاً. أخرجه الطَّبري وغيره.
          (وَقَالَ الضَّحَّاكُ) هو: ابنُ مزاحم الهلالي الخراساني. وقال الكِرمانيُّ: هو الضَّحَّاك بن شراحيل الهمْداني التَّابعي. وتُعُقِّبَ: بأنَّ المشهورَ بالتَّفسير، إنَّما هو: ابنُ مزاحم مع وجودِ الأَثَر مصرَّحاً فيه بأنَّه ابن مزاحم. وقد وصله عُبيد بن حميد وأبو حذيفة في «تفسير سفيان الثوري» عنه، وكان قد يكون بسمرقند وبلخ ونيسابور.
          روى عن جماعةٍ من الصَّحابة: ابن عبَّاس وابن عُمر وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدري ♥ ، قيل: ولم يثبتْ سماعُه منهم، ووثَّقه يحيى بن معين، وقال أبو زُرعة: ثقةٌ كوفي، مات سنة خمس ومائة. وروى له التِّرمذي، وابن ماجه.
          ({إِلاَّ رَمْزاً} إِشَارَةً) وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلَّا إشارة> بزيادة: إلَّا، وهذا استدلال آخر بقوله تعالى: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران:41]. فسرُّ قوله تعالى: {إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران:41] بقوله: إشارة، ولولا أنَّه يفهم منها ما يفهم من الكلام لم يقل الله ╡: ألا تكلم الناس إلا رمزاً.
          وقصَّته: أنَّ زكريا ◙ لمَّا قال الله تعالى له: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7] فقال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [مريم:8] إلى قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10].
          وذكر في سورة آل عمران: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران:41] وفسَّره الضَّحَّاك، بقوله: إشارة.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ حَدَّ وَلاَ لِعَانَ) أراد به الكوفيين، ولمَّا فرغ من الاحتجاج / لكلام أهل الحجاز شرع في بيان قول الكوفيين في قذف الأخرس. وقال الكرمانيُّ: قوله: بعض النَّاس يُريدُ به الحنفيةَ، حيثُ قالوا: لا حدَّ على الأخرس، إذ لا اعتبار بقذفهِ، ولا لعان عليه. وقال صاحب «الهداية»: قذفُ الأخرس لا يتعلَّق به اللِّعان؛ لأنَّه يتعلَّق بالصَّريح كحدِّ القذف.
          ثمَّ قال: ولا يُعْتَدُّ بالإشارة في القذف؛ لانعدام القذف صريحاً، ثمَّ قال: وطلاقُ الأخرس واقعٌ بالإشارة؛ لأنَّها صارتْ معهودةً، فأقيمتْ مقامَ العبارةِ دفعاً للحاجة.
          (ثُمَّ زَعَمَ) أي: بعض النَّاس، يعني: الكوفيِّين؛ أي: الحنفية، وقيل: أراد به أبا حنيفة ☼ ؛ لأنَّ مرادَه من قوله: وقال بعضُ النَّاس هو أبو حنيفة (أَنَّ الطَّلاَقَ) أي: إن وقع، وفي نسخة: <إن طلَّق> (بِكِتَابٍ) من المطلِّق (أَوْ إِشَارَةٍ) منه بيده (أَوْ إِيمَاءٍ) بنحو رأسه، أو جفنه من غير كلام (جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاَقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ) أشار بهذا الكلام إلى أنَّ ما قالته الحنفيَّة في ذلك تَحَكُّمٌ؛ لأنَّهم قالوا: لا اعتبار لقذف الأخرس، واعتبروا طلاقَه، وهو فرق بلا فارق، وتخصيصٌ بلا مخصِّص.
          وأجابت الحنفيَّة: بأنَّ صحَّةَ القذف تتعلَّق بصريح الزِّنى دون معناه، وهذا لا يحصلُ من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفاً، والشُّبهة تَدْرأُ الحدودَ، فقوله: وليس...إلى آخره من كلام البُخاري.
          ودعوى عدم الفرق بينهما ممنوعة؛ لأنَّ لفظ الطَّلاق صريحٌ في أداءِ معناه، بخلاف القذف؛ فإنَّه لم يكن فيه التَّصريح بالزِّنى، فلا يترتب عليه شيءٌ، فالفرق بينهما ظاهر لفظاً ومعنى.
          (فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ) إشارة إلى سؤالٍ تقريره: إذ قالوا القذف لا يكون إلَّا بكلامٍ، وقذف الأخرس ليس بكلام فلا يترتَّب عليه حدٌّ ولا لعانٌ، وقوله: (قَيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلاَقُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ) أي: وأنت وافقت على وقوعه بغير كلامٍ، فيلزمك مثله في الحدِّ واللِّعان.
          وهذا الجواب واهٍ جداً؛ لأنَّ بين الكلامين فرقاً عظيماً دقيقاً لا يفهمه، كما ينبغي، إلَّا من له دِقَّة نَظَرٍ، وذلك / أنَّ المرادَ بالكلام في الطَّلاق إظهارٌ معناه، فإن لم يتلفظ بلفظ الطَّلاق لا يقع شيءٌ، بخلاف الأخرس؛ فإنَّه ليس له كلام ضرورة، وإنَّما له الإشارة، والإشارة تتضمَّن وجهين، فلم يجز إيجاب الحدِّ بها كالكتابة والتَّعريض، ألا ترى أنَّ من قال لآخر: وطئت وطئاً حراماً لم يكن قذفاً؛ لاحتمال أن يكون وطئ وطْءَ شبهةٍ، فاعتقد القائلُ أنَّه حرام، والإشارة لا يتضح بها التَّفصيل بين المعنيين، ولذلك لا يجبُ الحدُّ بالتَّعريض.
          قال الحافظُ العسقلاني: وأجاب ابنُ القصَّار بالنَّقضِ عليهم بنفوذِ القذف بغير اللِّسان العربي، وهو ضعيفٌ، ونقضَ غيرُه بالقتل؛ فإنَّه ينقسمُ إلى عمد وشبه عمدٍ، وخطأ، ويتميَّز بالإشارة، وهو قويٌّ، واحتجُّوا أيضاً بأنَّ اللِّعان شهادة، وشهادة الأخرس مردودةٌ بالإجماع، وتُعُقِّبَ: بأنَّ مالكاً ذَكَرَ قَبولها فلا إجماع، وبأنَّ اللِّعان عند الأكثرين يمين. انتهى.
          وفيه أنَّ الإيرادات المذكورة كلَّها غير واردة.
          أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّ الشَّرطَ التَّصريحُ بلفظ الزِّنى، ولا يتأتى هذا كما ينبغي في غيرِ لسان العرب.
          وأمَّا الثَّاني الذي قال الحافظُ العسقلاني إنَّه قوي فأضعف من الأوَّل؛ لأنَّ القتل ينقسم إلى عَمْد وشِبْه عَمْدٍ وخطأ، والجاري مجرى الخطأ، وهو القتل بالسَّبب، فالتَّمييز عن الأخرس فيها متعذر.
          وأمَّا الثَّالث؛ فلأن شهادةَ الأخرس مردودةٌ، واللِّعانُ عندنا شهادةٌ مؤكَّدةٌ باليمين فلا يحتاج إلى أن يقول بالإجماع؛ لأنَّ شهادتَه مردودةٌ عندنا سواء كان فيه قولٌ بالقبول أو لا.
          وأمَّا الرَّابع: فقد قلنا: إنَّ اللِّعانَ شهادةٌ فلا مشاحة في الاصطلاح، كذا قرَّره العيني.
          (وَإِلاَّ) أي: وإن لم يقل بالفرق (بَطَلَ الطَّلاَقُ وَالْقَذْفُ) لا القذف فقط (وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ) أي: حكمه كحكم القذف، فيجب أيضاً أن تبطلَ إشارته بالعتق، ولكنَّهم قالوا: بصحَّته (وَكَذَلِكَ الأَصَمُّ يُلاَعِنُ) أي: إذا أشير إليه حتى فَهِمَ. وقال المهلَّب: في أمره إشكال، لكن قد يرتفعُ بترداد الإشارة إلى أن ينفهم معرفته ذلك. قال الحافظُ العسقلاني: والاطِّلاع / على معرفته بذلك سهل؛ لأنَّه يُعْرَفُ من نطقه.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) هو: عامرُ بن شراحيل (وَقَتَادَةُ) أي: ابن دِعامة (إِذَا قَالَ) أي: الأخرس لامرأته (أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ) وفي نسخة: <بإصبعه> بالإفراد (تَبِينُ) أي: تطلق (مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ) طلاقاً بائناً واحدة، أو ثنتين، أو ثلاثاً، يعني: إذا عبَّر عمَّا نواه من العددِ بإشارة يظهر منها ما نواه من واحدة، أو أكثر، وَصَلَه ابنُ أبي شيبة بلفظ: سُئِلَ الشَّعبي، فقال: سُئِلَ رجلٌ مرَّةً أطلقتَ امرأتك؟ فأومأ بيده بأربع أصابع ولم يتكلَّم ففارق امرأته.
          قال ابن التِّين: معناه: أنَّه عبر عمَّا نواه من العدد بالإشارة، فاعتدُّوا عليه بذلك.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعي (الأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاَقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ) وبه قال مالك والشَّافعي. وقال الشَّافعي: إذا كتبَ الطَّلاقَ سواء كان ناطقاً أو أخرس ونواه، ولو كتبَ ولم ينوِ أو نوى فقط فلا، وقال الكوفيُّون: إذا كان رجل أصمت أياماً فكتبَ لم يجز من ذلك شيءٌ، وقال الطَّحاوي: الخُرْسُ مخالفٌ للصَّمت، كما أنَّ العَجْزَ عن الجِماع العارِض بالمرض ونحوِه يوماً أو نحوه مخالفٌ للعجز المأيوس منه الجماع نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفُرقة.
          وقد وَصَلَه ابنُ أبي شيبة بلفظه، وأخرجه الأثرم عن ابن أبي شيبة كذلك، وأخرجه عبدُ الرَّزاق بلفظ: الرَّجل يكتبُ بالطَّلاق، ولا يلفظ به أنَّه كان يراه لازماً.
          (وَقَالَ حَمَّادٌ) هو: ابنُ أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة (الأَخْرَسُ وَالأَصَمُّ إِنْ قَالَ) أي: إن أشار كل منهما (بِرَأْسِهِ، جَازَ) أي: نفذ ما أشار إليه فيما يسأل عنه، وأُقيمت الإشارةُ مقامَ العبارة. قال الحافظُ العسقلاني: وكأنَّ البُخاريَّ أراد إلزام الكوفيِّين بقول شيخهم. وتعقَّبه العيني: بأنَّ مرادَ البُخاريِّ من هذا أنَّ إشارة الأخرس معهودةٌ، فأُقيمتْ مقامَ العبارة، فمن أين يتأتى إلزامهم؟