نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج

          3461- (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) بفتح الميم واللام، قال: (أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو، قال: (أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ) السَّامي، وقد مرَّ في الهبة [خ¦2631] (عَنْ أَبِي كَبْشَةَ) السَّلُولي، بفتح المهملة وضم اللام الأولى، واسمه كنيته (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أي: ابن العاص ☻ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) أي: علامة ظاهرة فهو تتميم ومبالغة؛ أي: ولو كان المبلِّغ فعلاً أو إشارة أو نحوهما.
          وقال البيضاوي: إنَّما قال: آية؛ أي: من القرآن، ولم يقل حديثاً فإن الآيات مع تكفِّل الله بحفظها واجبة التَّبليغ، فوجوب تبليغُ الحديث يُفْهَمُ منه بالطَّريق الأولى.
          وقال المعافى النَّهرواني في كتاب «الجليس» له: الآية في اللُّغة: تُطلق على ثلاثة معان: العلامة الفاصلة، والأعجوبة الحاصلة، والبليَّة النَّازلة. فمن الأوَّل: قوله تعالى:{قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران:41]. ومن الثَّاني:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً} [هود:103]. ومن الثَّالث: جَعَلَ الأميرُ فلاناً اليوم آية، قال: ويجمع بين هذه المعاني الثَّلاثة أنَّه قيل لها: آية لدَلالتها وفضلها وأمانتها.
          وقال في الحديث: ولو آية؛ ليُسَارِعَ كلُّ سامِعٍ إلى تبليغِ ما وقع له من الآي، ولو قلَّ ليتَّصل بذلك إلى نقل جميعِ ما جاء به صلعم ، والله أعلم. /
          (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ) أي: لا ضيقَ عليكم في الحديث عنهم؛ لأنَّه كان تقدَّم منه صلعم الزَّجْرُ عن الأخذ عنهم، والنَّظر في كتبهم، ثمَّ حصل التوسُّع في ذلك، وكان النَّهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلاميَّة والقواعد الدينيَّة خشية الفتنة، ثمَّ لمَّا زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار، وقيل: معنى قوله: ((ولا حَرَجَ)) لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب؛فإنَّ ذلك وقع لهم كثيراً، وقيل: لا حرج في أن لا تحدِّثوا عنهم؛ لأنَّ قوله أولاً: حدِّثوا، صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأنَّ الأمر فيه للإباحة بقوله: ((ولا حرج)) أي: في ترك التَّحديث عنهم، وقيل: المراد: رَفْعُ الحَرَجِ عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظِ المستبشعة نحو قولهم: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة:24] وقوله:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138].
          وقال الكرماني: الأمرُ فيه للإباحة؛ إذ لا وجوبَ ولا ندب فيه بالإجماع؛ أي: إذا بلغك عنهم حديثٌ فلا حرجَ عليك في أدائه لا أنَّه يجوز الافتراء عليهم بخلاف حديث الرَّسول، فإنَّه لا يجوزُ الإبلاغ إلَّا بالإسناد عن الثِّقات.
          وقال الخطَّابي: ليس معناه إباحة الكذب عليهم، وإنَّما معناه أنَّك إذا حدَّثت عنهم على البلاغ حقًّا أو غيرَ حقٍّ لم يكن عليك حرج؛ لأنَّ شريعتهم لا تَلْزَمُنا، وأمَّا الحديث عن رسول الله صلعم فلا يجوز أن يحدِّث عن بلاغ، بل لابدَّ أن يكون عن ثقةٍ ليؤْمَنَ به الكذبُ على الرَّسول صلعم .
          وقال مالك: المراد: جواز التَّحديث عنهم بما كان من أَمْرِ حَسَنٍ أمَّا ما علم كَذِبُه فلا، وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصَّحيح، وقيل: المراد جواز التَّحديث عنهم بأي صورةٍ وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذُّر الاتصال في التَّحديث عنهم بخلاف الأحكام الإسلاميَّة، فإنَّ الأصل في التَّحديث بها الاتصال، ولا يتعذَّر ذلك لقرب العهد.
          وقال الشَّافعي: من المعلوم أنَّ النَّبي صلعم / لا يجيز التحدُّث بالكذب، فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأمَّا ما تجوزونه فلا حَرَجَ عليكم في التحدُّث به عنهم، وهو نظيرُ قوله: ((إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم)) ولم يرد الإذن ولا المنع من التَّحدث بما يُقْطَعُ بِصِدْقِه، وقيل: المراد ببني إسرائيل: أولاد إسرائيل نفسه وهم أولاد يعقوب ◙، والمراد حدِّثوا عنهم بقصَّتهم مع أخيهم يوسف ◙، وهذا أبعد الأوجه.
          (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وقد تقدَّم ذكره في كتاب العلم، في باب إثم من كَذَبَ على النَّبي صلعم [خ¦108]، وتقدَّم شرحه مستوفى هناك، وذكر عدد من رواه. وقوله: ((فلِيتبوَّأ)) بكسر اللام هو الأصل وبالسكون هو المشهور، وهو أمر من التبوء وهو اتخاذُ المباءة؛ أي: المنزل، وقال الجوهري: تبوَّأتُ منزلاً؛ أي: نزلتَه، وقد اتَّفق العلماء على تغليظِ الكذب على رسول الله صلعم وأنَّه من الكبائر حتَّى بالغ الشَّيخ أبو محمَّد الجويني فحَكَمَ بكُفْرِ من وَقَعَ منه ذلك.
          وكلام القاضي أبي بكر ابن العربي يميل إليه، وجهل من قال من الكراميَّة وبعض المتزهِّدة أنَّ الكذب على النَّبي صلعم يجوز فيما يتعلَّق بأمر الدِّين، وطريقة أهل السنَّة، والتَّرغيب والتَّرهيب، واعتلُّوا بأنَّ الوعيد ورد في حقِّ من كذب عليه لا في الكذب له، وهو اعتلالٌ باطلٌ؛ لأنَّ المراد بالوعيد: من يقول عنه بالكذب، والله تعالى أعلم، ومطابقة الحديث للتَّرجمة غنيَّة عن البيان.