نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}

          ░47▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي بعض النُّسخ: <قوله ╡> بدون ذكر باب ({يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} إِلَى {وَكِيلاً} [النساء:171]) أي: اقرأ الآية إلى قوله: {وَكِيلاً}.
          قال القاضي عياض: وقع في رواية الأَصيلي: <{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ}>، وفي رواية غيره بحذف {قُلْ} وهو الصَّواب. انتهى.
          وأصاب في تصويبه؛ لأنَّه لم يثبت قل في هذه الآية التي في سورة النِّساء، وإنَّما ثبت في آية سورة المائدة، ومراد المصنف آية سورة النِّساء بدليل قوله: إلى {وَكِيلاً}، وبدليل تفسير / بعض ما وقع فيها فالاعتراض متَّجه، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] من الغلو، وهو الإفراط ومجاوزة الحدِّ، ومنه: غلا السِّعر، والخطابُ للفريقين، غلت اليهودُ في حطِّ المسيح ◙ عن مَنزِلَتِه حتَّى رَمَوه بأنَّه وُلِدَ لغير رشده فهمُّوا بقتله. وغلتِ النَّصارى في رُفْعِه حتَّى اتخذوه إلهاً وهم اليعقوبيَّة منهم، وقال بعضهم: هو ابنُ الله، وهم النَّسطورية، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة، وهم المرقوسيَّة.
          وأمَّا الملكائية فقالوا: الله ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب: الذَّات، وبالابن: العِلْم، وبروح القدس: الحياة، وقالوا في حقِّ المسيح: هو عبدُ الله ونبيه، كما صرَّح به القاضي في تفسير سورة مريم. وقيل: الخطاب للنَّصارى خاصَّة، فإنه أوفق بقوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وهو تنزيهه عن الصَّاحبة والولد؛ أي: لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبةً وولداً، ثمَّ أخبر عن عيسى ◙ فقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} فكيف يكون إلهاً، و{الْمَسِيحُ} مبتدأ و{عِيسَى} بدل منه أو عطف بيان.
          وقوله: {رَسُولُ اللَّهِ} خبره {وَكَلِمَتُهُ} عطف عليه {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أوصَلَها إليها وحَصَّلَها فيها، {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: وذو رُوح صدر منه وعبد من عباده، وخَلقٌ من خَلقه، قال له: كنْ، فكان، فقيل لعيسى ◙: كلمةُ الله وكلمةٌ منه؛ لأنَّه وُجِدَ بكلمته وأمره لا غير، من غير توسُّط ما يجري مجرى الأصل والمادة له من الأب والنُّطفة، وقيل له: روح الله وروح منه لذلك؛ لأنَّه ذو روح وُجِدَ من غير جزء من ذي روح كالنُّطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنَّما اختُرِعَ اختراعاً من عند الله وقدرته خالصة، وأُضيفتِ الرُّوح إليه تعالى للتَّشريف، كما أُضيفَتِ النَّاقة والبيت إلى الله تعالى، وقيل: سُمِّي روحاً؛ لأنَّه كان يحيي الأموات أو القلوب.
          {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي: آمنوا بهم جميعاً ولا تجعلوا عيسى إلهاً، ولا ابناً، ولا ثالث ثلاثة، أو لا تجعلوا لله ثلاثة أقانيم فقوله: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء:171] تقديره على الأوَّل، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه / قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، وعلى الثاني تقديره: الله ثلاثة أقانيم.
          وقال الزَّمخشري: والمشهور المستفيضُ عنهم أنَّهم يقولون: في المسيح: لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم، ويدلُّ عليه قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [النساء:171] فأثبتَ أنَّه وَلَدٌ لمريم، اتَّصلَ بها اتِّصالَ الأولاد بأمَّهاتهم، وأنَّ اتصالَه بالله ╡ من حيث إنَّه رسولُه موجودٌ بأمره وابتداعِه جسداً حيًّا من غير أبٍ؛ فنفى أن يتَّصل به اتصالَ الأبناء بالآباء، {انْتَهُوا} عن التثليث {خَيْراً لَكُمْ} أي: اقصدوا خيراً لكم.
          {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] أي: واحد بالذَّات لا تعدُّد فيه بوجه ما {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد، فإنَّه يكون لمن كان له مثل ويتطرَّق إليه فناءٌ، وقرأ الحسن: ▬إنْ↨ بكسر الهمزة، ويكون برفع النون؛ أي: سبحانه ما يكون له ولد، على أنَّ الكلامَ جملتان {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكاً وخلقاً لا يماثله شيء من ذلك فيتَّخذه ولداً؛ فهو بيان لتنزهه عمَّا نُسِبَ إليه، يعني: أنَّ كل ما فيهما خَلْقُه وملْكُه فكيف يكون بعضُ مُلكه جزءاً منه على أنَّ الجزءَ إنَّما يصح في الأجسام وهو متعالٍ عن صفات الأجسام والأعراض.
          {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:171] يكل إليه الخلقُ كلُّهم أمورَهم، فهو تنبيه على غناه عن الولد، فإنَّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه والله سبحانه وتعالى قائم بحفظِ الأشياء، كافٍ في ذلك، مستغنٍ عمَّن يخلقه ويعينه، والله الغنيُّ وأنتم الفقراء.
          (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ) هو: القاسمُ بن سلام ({كَلِمَتُهُ} كُنْ فَكَانَ) أراد أنَّ أبا عبيد فسَّر قوله: {وَكَلِمَتُهُ} بقوله: كن فكان، وعن قتادة مثله، رواه عبد الرَّزَّاق، عن مَعمر عنه (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير أبي عبيد ({وَرُوحٌ مِنْهُ} أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحاً) الظَّاهر أنَّه أبو عبيدة مَعمر بن المثنَّى فإنَّه قال: في قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} قوله: كن فكان، {وَرُوحٌ مِنْهُ} أحياه فجعله روحاً، وقال مجاهد: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أحياهُ فجعله روحاً، وقال مجاهد: {وَرُوحٌ مِنْهُ}؛ أي: ورسول منه.
          ({وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ} [النساء:171]) أي: ولا تقولوا / في حقِّ الله تعالى وعيسى وأمه: ثلاثة آلهة، بل الإله واحدٌ هو الله منزَّه عن الولد والصَّاحبة، وعيسى وأمُّه مخلوقان مربوبان، وهو بقيَّة الآية التي فسَّرها أبو عبيدة.