نجاح القاري لصحيح البخاري

باب {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم}

          ░52▒ (باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف:9]) وسقط في رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتملي والكُشْمِيْهَني لفظ: <باب> وليس في رواية النَّسَفي لا باب ولا غيره من التَّرجمة. قال العيني: وهو الصَّواب؛ لأنَّ الكتاب في الحديث لا في التَّفسير. انتهى.
          وفيه أنَّ من عادة البخاري أن يَذْكُرَ التَّرجمةَ ثمَّ إن وَجَدَ حديثاً على شرطه ذَكَره، وإلَّا اقتصر على تفسير بعض الكلمات القرآنية التي جَعَلَها ترجمة، فكذا هذا قال الله تعالى في أوائل سورة الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ} أمْ هنا بمعنى: بل، والهمزة الاستفهاميَّة الإنكاريَّة وهو يقتضي الاستفهام قبله لفظاً أو تقديراً، فتقديره هنا والله أعلم: أحسبت أنَّ ذلك المذكورَ من تزيين الأرض بما عليها من الحيوان والنَّبات والمعادن لاختبار النَّاظرين إليها / أيُّهم أَحْسَنُ عملاً بأن زَهِدَ فيه ولم يغترَّ به ويقنع بما يُزْجِي به أيَّامه ويصرفه على ما ينبغي، ثمَّ إزالة ذلك كله كأن لم يكن بأن يعيد ما عليها من الزِّينة تراباً مستوياً، ويجعله كصعيدٍ أملس لا نبات فيه من الآيات الكليَّة: بل أَحَسِبْتَ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} في إبقاء حياتهم مدَّة طويلة {كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف:9] يعني: أنَّ ذلك المذكورَ أعظمُ من قصَّتهم، وإبقاء حياتهم مدَّة مديدة، بل قصَّتهم بالإضافة إلى ذلك (1) ليس بعجيب مع أنَّ ذلك المذكور من آيات الله كالنَّزْرِ الحقير. والكهفُ: الغار الواسع في الجبل، والرَّقيم: اسمُ الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم، أو اسم قريتهم، أو اسم كلبهم. قال أميَّة بن أبي الصَّلت:
وَلَيسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِراً                     وَصَيْدَهُمُ (2) وَالقَومُ فِي الكَهْفِ هُجَّدٌ (3)
          وقيل: هو لوحٌ رَصَاصِيٌّ أو حَجَرِيٌّ رُقِمَتْ فيه أسماؤهم، وجُعِلَتْ على باب الكهف، وقيل: مكانهم بين غضْبَان (4) وأيلة دون فلسطين، وقيل: أصحاب الرقيم كانوا قوماً آخرين، وكانوا ثلاثة وهم المذكورون في الحديث الآتي بعد ذلك، والله أعلم.
          وقوله: {كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف:9] من قِبَلِ الوَصْفِ بالمصدر، أو التَّقدير: ذات عجب.
          {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:10] يعني: فتيةً من أشراف الرُّوم أرادهم دقيانوس على الشِّرك؛ أي: أراد إِكْرَاهَهم عليه فأبَوا وهربوا إلى الكهف؛ ليجعلوه مأوى لهم خوفاً على دينهم من قومهم الكفرة ومَلِكِهم، والفتيةُ جَمْع: فتى، وهو الشَّاب الكامل {فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} توجب لنا المغفرة والرِّزق والأمن من العدوِّ. وقال الزَّمخشري: أي: رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرةُ والرِّزق والأمن من الأعداء، فانظرْ في الفرق بين العبارتين.
          {وَهَيِّئْ لَنَا} أي: أصلح لنا {مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفَّار {رَشَداً} نصير بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كلَّه راشداً كقولك: رأيت منك أَسَداً، فعلى هذا، كلمة {مِنْ} للتَّجريد وأصله الابتداء أيضاً، / والتَّجريد من المحسِّنات البديعيَّة، وهو أن يُنْتَزعَ من أَمْرٍ ذي صِفة أَمْرٌ آخرُ مماثلٌ لذلك الأمر ذي الصِّفة في تلك الصِّفة لأجل المبالغة في كمالِ تلك الصِّفة في ذلك الأمر ذي الصِّفة حتَّى كأنَّه بلغ من الاتصاف بتلك الصِّفة إلى حيث يصحُّ أن ينتزعَ منه موصوف آخر بتلك الصِّفة، هذا وأصلُ التَّهيئة: إحداثُ هيئة الشَّيء.
          {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ} [الكهف:11] أي: ضربنا عليها حجاباً يمنع السَّماع بمعنى: أنمناهم (5) إنامةً ثقيلةً لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومهِ يصاح به فلا يَسْمعُ ولا يَنْتَبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب، كما يقال: بنى على امرأته، يريدون: بنى عليها القبَّة {فِي الْكَهْفِ سِنِينَ} ظرفان لضربنا {عَدَداً} [الكهف:11] ذوات عدد، ويجوز أن يكون مصدراً وُصِفَ به، ووَصْفُ السِّنين به يَحْتَمِل التَّكثيرَ والتقليل؛ لأنَّ الكثيرَ قليلٌ عنده تعالى كقوله تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12]أي: أيقظناهم {لِنَعْلَمَ} أي: ليتعلَّق عِلْمنا تَعَلُّقاً حالياً مطابقاً لتعلُّقه أولاً تَعَلُّقاً استقبالياً.
          {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف:12] المختلفين منهم أو من غيرهم في مدَّة لبثهم؛ لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] إلى آخره، وكان الذين قالوا: ربكم أعلم بما لبثتُم هم الذين علموا أنَّ لبثهم قد تطاول، وأيُّ يتضمَّن معنى الاستفهام فعلَّق عنه لِنَعْلَم فلم يَعْمَل فيه، وقرئ: ((ليُعْلَم)) على البناء للمفعول وهو معلَّق عنه أيضاً؛ لأنَّ ارتفاعَه بالابتداء لا بإسناد يُعلم إليه، وفاعل يُعْلَم مضمون الجملة، وخبر {أَيُّ} قوله: {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف:12] أي: ضبط {أَمَداً} لزمان لبثهم فـ{أَحْصَى} فعل ماض و{أَمَداً} مفعوله، و{لِمَا لَبِثُوا} حال منه أو مفعول له. وقيل: إنَّه المفعول، واللام مزيدةٌ و{مَا} [الكهف:12] موصولة و{أَمَداً} تمييز، وقيل: {أَحْصَى} اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد، كقولهم: هو أحصى للمال، وأَفْلس مِن ابن المُذَلَّق، و{أَمَداً} نُصِبَ بفعلٍ دلَّ عليه كقوله:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
          أي: يَضْرِبُ القَوَانس. جَمْعُ القَونس، / وهو أعلى الرَّأس، وقيل: أعلى البيضة.
          وقال الزَّمخشري: جَعْلُه أفعل من أَفْعَلُ التَّفضيل ليس بالوَجْه السَّديد؛ لأن بناءه من غير الثُّلاثي المجرَّد ليس بقياس، ونحو: أحصى للمال وأفلس من ابن المُذَلَّق شاذ، والقياس على الشَّاذ في غير القرآن مُمْتَنِعٌ فكيف به. انتهى.
          قال أبو حيَّان: الحكم بشذوذ ذلك إنَّما هو مذهب أبي علي، وأمَّا مذهب سيبويه فجواز بناء أفعل التَّفضيل من أفعل مطلقاً. وقال العَلَم العراقي: ومنه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة:282]، وقولهم: أَفْلَسُ من ابن المُذَلَّق، قال الميداني: يروى بالمعجمة والمهملة، وهو رجلٌ من بني عبد شمس وأبوه وأجدادُه يعرفون بالإفلاس. قال الشَّاعر في أبيه:
فَإِنَّكَ إِذَا تَرْجُو تَمِيْماً وَنَفْعَها                     كَرَاجِي النَّدَى وَالعرْفِ عِنْدَ المُذَلَّقِ
          قال الزَّمخشري: فإن قلت: كيف جعلَ الله تعالى العلم بإحصائهم المدد غرضاً في الضَّرب على أذانهم؟
          قلت: الله تعالى لم يزل عالماً بذلك، وإنَّما أراد ما تعلَّق به العلم من ظهورِ الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً، ويكون لطفاً لمؤمني زمانهم وآية بيِّنة لكفَّاره، والله تعالى أعلم.
          {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] بالصِّدق {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} أي: شبَّان جمع: فتى كصبي وصِبيَّة {آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] بالتَّوفيق والتَّثبيت {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14] أي: وقوَّيناهم بالصَّبر على هجر الأوطان والأهل والمال والنَّعيم وجبرناهم على القيام بكلمة الحقِّ وإظهارها والتَّظاهر بالإسلام والرد على دقيانوس الجبار.
          في «الأساس»: ربطتُ الدَّابة: شددتُها برباط، والمَربط: الحبل، ومن المجاز: ربطَ اللهُ على قلبهِ: صبَّره، ولما كان الخوف والقلقُ يُزعج القلوب عن مقارِّها قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] قيل: في مقابلتهِ ربط قلبه إذا تمكَّن وثبتَ وهو تمثيلٌ شبَّه تثبيت القلوب بالصَّبر بشدِّ الدَّواب بالرباط.
          {إِذْ قَامُوا} [الكهف:14] من بين يدي الجبار، وهو دِقيانوس، بكسر الدال، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم، وقد كان أكره أهلَ الإنجيل على عبادة الأصنام حين دخل مدينة أفسوس بعَسْكَرهِ وتسلَّط عليهم، فمن كَفَرَ بالله واتَّبع دينه تركه، ومن لم يتَّبعه قتلَه، وأراد فِتْيةً من أشرافِ قومه على الشِّرك وتوعَّدهم بالقتل فأبوا عنه، وقاموا بإثبات الحجَّة، وإظهار الإسلام بعد أن أمرهم بالسُّجود للأصنام والتَّشديد على عبادةِ غير الله تعالى وقول الكفر.
          {فَقَالُوا} بالإخلاص والتوكُّل على الله، وتفويض أمرهم / إليه {رَبُّنَارَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ} أي: لن نَعْبُدَ {مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14] أي: والله لقد قلنا قولاً ذا شططٍ؛ أي: ذا بُعْدٍ عن الحَقِّ وإفراطٍ في الظُّلم، والشَّططُ هو الإفراط في الظُّلم والإبعادُ فيه من شطَّ إذا بَعُدَ، ومنه أشطَّ في السَّوم وفي غيره {هَؤُلَاءِ} [الكهف:15] مبتدأ {قَوْمُنَا} عطف بيانه، وفي التَّعبير باسم الإشارة تحقير لهم {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} خبر المبتدأ وهو إخبار في معنى إنكار.
          {لَوْلَا يَأْتُونَ} أي: هلَّا يأتون {عَلَيْهِمْ} أي: على عِبَادَتهم، فحَذَفَ المضاف {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي: بِبُرهانٍ ظاهر، فإنَّ الدِّين لا يؤخذ إلَّا به وهو تبكيتٌ لأنَّ الإتيان بالسُّلطان على عبادة الأوثان محالٌ، وفيه دليل على أنَّ ما لا دَليل عليه من الدِّيانات مردود، وأنَّ التَّقليد فيه غيرُ جائز؛ لأنَّه لابدَّ في الدِّين من الحُجَّة حتَّى يصحَّ ويثْبُتَ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:15] بنسبة الشَّريك إليه {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:16] خطاب بعضِهم لبعض يعني: قال بعض الفتية لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم: وإذ تركتموهم؛ أي: الكافرين {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} عطف على الضمير المنصوب؛ يعني: وإذ اعتزلتُم القوم ومعبوديهم إلَّا الله وهو يجوز أن يكون استثناءً متَّصلاً على ما رُوِيَ أنَّهم كانوا يقرُّون بالخالق ويعبدونه، ويعبدون الأصنام كسائر المشركين، ويجوز أن يكون منقطعاً، ثم يجوز أن تكون ما مصدريَّة أيضاً على تقدير: وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلَّا عبادة الله، ويجوز أن تكون نافيةً على أن يكون إخباراً من الله تعالى عن الفتنة بالتَّوحيد، فيكون كلاماً معترضاً بين إذا وجوابه لتحقيق اعتزالهم، فعلى هذا، يستحسنُ توقيفه على قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} فهي من آداب القراءة.
          {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ} يبسطُ لكم ويوسِّع عليكم {مِنْ رَحْمَتِهِ} في الدَّارين بإنقاذكُم من عدوِّكم وإثابتكُم الجنَّة {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} [الكهف:16] بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفقُ به؛ أي: ينتفع، / وجَزْمُهم بذلك إما لنُصُوع (6) يقينهم وقوَّة وثوقهم بفضلِ الله تعالى، وإمَّا لكون نبيٍّ في عصرهم أَخْبَرَهَم بذلك، وإمَّا لكون بعضِهم نبياً، والأول هو الظَّاهر.
          {وَتَرَى الشَّمْسَ} [الكهف:17] أي: لو رأيتهم، والخطاب لرسول الله صلعم أو لكلِّ أَحَدٍ ممَّن يَصْلُح أن يخاطَبَ للمبالغة في إظهار هذه الحال {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} تميل عنه ولا يقع شعاعُها عليه فيؤذيهم؛ لأنَّ الكهف كان جنوبياً؛ أي: كانت ساحتُه وداخِلُه في جانب الجنوب، وذلك إنَّما يكون بابه في جانب الشِّمال، أو لأنَّ الله زوَّرها عنهم، وأصل تزَّاور: تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي، وقرأ الكوفيون بحذفها، وابن عامر ويعقوب: ((تَزْوَرُّ)) كتَحْمَرُّ، وقرئ: ((تَزْوَارُّ)) كتَحْمَارُّ، وكلها من الزُّور وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزَّوَر(7) : الميل عن الصِّدق.
          {ذَاتَ الْيَمِينِ} جهة اليمين، وحقيقتُها: الجهةُ ذاتُ اسمِ اليمين؛ أي: الجهة المسمَّاة باليمين {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} أي: تقطعهم وتصرم منهم، ولا تقربُهُم، من معنى القطيعةِ والصَّرم {ذَاتَ الشِّمَالِ} يعني: يمين الكهف وشماله {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} وهم في متَّسع من الكهف، والمعنى: أنَّهم في ظلِّ نهارهم كله لا تصيبهم الشَّمس في طلوعها ولا غروبها مع أنَّهم في مكان واسعٍ منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أنَّ الله يحجبها عنهم، وقيل: في متفسَّح من غارهم وفي وسطه بحيث ينالهم فيه رَوْحُ الهواء وبَرْدُ النَّسيم، ولا يؤذيهم كربُ الغار ولا حرُّ الشَّمس.
          قال القاضي: وذلك لأنَّ باب الكهف في مقابلة بنات النَّعش، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرقُ السَّرطان ومغرِبُه، والشَّمس إذا كان مدارها مداره تطلعُ مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن، وهو الذي يلي المغرب وتغربُ محاذية لجانبه الأيسر فيقعُ شعاعُها على جنبتيهِ، وتُحَلِّل عفونَته وتُعَدِّلُ هواه، ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويُبْلِي ثيابهم.
          {ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ} أي: ما صنعه الله من ازورار الشَّمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته؛ يعني: أنَّ ما كان في ذلك السَّمت / تصيبُه الشَّمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة، وقيل: أي شأنهم وحديثهم أو إيواؤهم إلى كهف كذلك أو إخبارك قصَّتهم من آيات الله {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} بالتَّوفيق والإرشاد {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الذي أصاب الفلاح {وَمَنْ يُضْلِلْ} ومن يخذله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17] من يليه ويرشده، والمراد به إمَّا الثناء عليهم بأنَّهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوهَهم فلطفَ بهم وأعانَهم وأرشدَهم إلى نَيْلِ تلك الكرامة السنيَّة والاختصاص بالآية العظيمة، وفيه دَلالة على أنَّ كلَّ من سَلَكَ طريقة المهديِّين الرَّاشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السَّعادة، ومن تعرَّض للخذلان فلن يجد له ولياً يلي أمره ويرشدُه، وإمَّا التَّنبيه على أن أمثالَ هذه الآيات كثيرةٌ، ولكن المنتفع بها مَن وفَّقه الله للتأمُّل فيها والاستبصار.
          {وَتَحْسبُهُمْ} [الكهف:18] بكسر السين وفتحها لكلِّ أحد أو خطاب لرسول الله صلعم {أَيْقَاظاً} هو جمع يقظ {وَهُمْ رُقُودٌ} أي: نيام، قيل: كانت عيونهم منفتحةً وهم نيام، فيحسبهم النَّاظر كذلك، وقيل: لكثرة تقلُّبهم كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ} أي: في رقدتهم {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} (8) لئلا تأكل الأرض من أبدانهم على طولِ الزَّمان، قيل: لهم تقلُّبتان في السَّنَةِ، وقيل: تَقَلُّبة واحدةٌ في يوم عاشوراء، وقرئ: (▬ويُقَلِّبُهم↨) بالياء والضَّمير لله تعالى، وقرئ: (▬وتَقَلُّبهم↨) على المصدر منصوباً بفعل يدلُّ عليه {وَتَحْسَبُهُمْ} أي: وترى تقلبهم وتشاهده.
          {وَكَلْبُهُمْ} هو كلبٌ مرُّوا به فتبعهم فطردُوه، فأنطقه الله فقال: أنا أحبُّ أحباء الله، فناموا وأنا أحرُسُكم، أو كلب راع مرُّوا به فتبعهم وتبعه الكَلْبُ، ويؤيِّده قراءة جعفر الصَّادق: (وكالبهم) أي: وصاحبُ كلبهم، روي أنهم مرُّوا براعي غنم فقال لهم: أين تذهبون؟ فقالوا: نفرُّ بديننا من هذا الجبَّار، فقال الرَّاعي: ما أنا أغنى منكم فترك غَنَمَه ولحقَ بهم، فتبعه كلبُه {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} حكاية حال ماضية؛ لأنَّ اسم الفاعل لا يعملُ إذا كان في معنى المضيِّ {بِالْوَصِيدِ} بفناء باب الكهف، وقيل: المراد العتبةِ، وقيل: الباب، وأنشد:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا                     عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
          أي: بصحراء مكشوفة لا يُسَدُّ بابُها عَلَيَّ ولا يُنْكِرُ بها أحدٌ معروفي، يعني: يعرف أنسابي كلُّ أحد. /
          {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} فنظرت إليهم يا محمَّد وقرئ: (▬لوُ اطلعت↨) بضم الواو {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} لهربت منهم، وفراراً يحتمل المصدر لأنه نوع من التَّولية والعلَّة والحال {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] أي: خوفاً يملأ صدرك، والرُّعب، بالتخفيف والتثقيل: هو الخوف الذي يُرْعِبُ الصَّدر؛ أي: يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم، وانفتاح عيونهم، وقيل: لوحشةِ مكانهم.
          وعن معاوية ☺: أنَّه غزا الرُّوم فمرَّ بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عبَّاس ☻ : ليس لك ذلك فقد منع الله تعالى من هو خيرٌ منك، فقال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} فقال معاوية: لا أنتهي حتَّى أعلم فبعث ناساً فقال لهم: اذهبوا فانظروا ففعلوا، فلمَّا دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقتْهم. وقرأ الحرميان: ({ولملِّئت}) بالتشديد للمبالغة، وابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب ({رُعُباً} [الكهف:18]) بالتثقيل؛ يعني: بالضم.
          {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19] أي: وكما أنمناهم تلك النَّومة كذلك بعثناهم؛ أي: أيقظناهم من نومهم ليكون ذلك آيةً على كمال قدرتنا على الإماتة والبعث جميعاً {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي: ليسأل بعضُهم بعضاً، ويتعرَّفوا حالهم وما صنع الله بهم فيَعتبروا ويَستدلُّوا على عِظَمِ قدرة الله فيزدادوا يقيناً، ويستبصروا به أمر البعث، ويشكروا ما أنعم به عليهم وكرموا به.
          {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قيل: وهو رئيسُهم مكسينا (9) {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بناءً على غالب ظنِّهم؛ لأنَّ النَّائم لا يُحْصِي مدَّة نومه، ولذلك أحالوا العلم إلى الله، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظنِّ الغالب، وأنه لا يكون كذباً وإن جاز أن يكون خطأ {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إحالة للعلم إلى الله، ويجوز أن يكون ذلك قولُ بعضِهم / وهذا إنكارٌ عليهم من البعض الآخر كأنَّهم قد علموا بالأدلَّة أو بإلهام من الله أنَّ المدَّة متطاولة، وأنَّ مقدارَها مبهمٌ لا يَعْلَمُه إلَّا الله.
          وقد رُوِيَ أنَّهم دخلوا الكهف غدوة، وكان انتباهُهم بعد الزَّوال فظنُّوا أنَّهم في يومهم أو اليوم الذي بعده، فلمَّا نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك، ثمَّ لمَّا علموا أنَّ الأمر مُلْتَبِسٌ لا طريق لهم إلى عِلْمِه أخذوا فيما يهمُّهم؛ فكأنَّهم قالوا: ربُّكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى عِلْمِه.
          {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} والورِق: الفِضَّة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرأ أبو بكر وأبو عَمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف؛ أي: بسكون الراء، وقيل: المدينة طرسوس قالوا: وتَزَوُّدُهم ما كان معهم من الوَرِق، وحَمْلُهم له عند فِرارهم دليلٌ على أنَّ حَمْلَ النَّفقة وما يُصْلِحُ المسافر هو رأي المتوكِّلين على الله دون المتَّكلين على الإنفاقات، وعلى ما في أوعية القوم من النَّفقات، ومنه قول عائشة ♦ لِمَن سألها عن محرم يَشُدُّ عليه هِمْيَانَه: ((أوثق عليك نفقتك)).
          وما حُكِيَ عن بعضِ صَعاليك العلماء أنَّه كان شديد الحنين إلى أن يرزقَ حجَّ بيت الله وتُعُولِمَ (10) منه ذلك فكانت مياسيرُ أهلِ بلده، كلما عزم منهم فوج أتوه فبذلوا له أن يحجُّوا به، وألحُّوا عليه فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السَّفر إلا شيئان: شدُّ الهِمْيان والتوكُّل على الرَّحمن.
          {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي: أهلها فحذف الأهل، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] {أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف:19] أحل وأطيب أو أكثر وأرخص {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي: بشيءٍ منه يكون رزقاً لكم {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلَّف اللُّطف فيما يباشره من المعاملة والمبايعة حتَّى لا يُغْبَنَ أو في أمر التَّخفي حتَّى لا يُعْرَف {وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:19] يعني: ولا يفعلنَّ ما يؤدِّي من غير قَصْدٍ منه إلى الشُّعور بنا، فسُمِّي ذلك إشعاراً منه بهم؛ لأنَّه سبب فيه {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:19] أي: إن يطَّلعوا عليكم، أو يظفروا عليكم والضَّمير للأهل المقدر في أيُّها {يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أي: يقتلوكم أخبثَ القتلة، وهي الرَّجْمُ وكانت عادتهم.
          {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} / أو يدخلوكم في ملَّتهم بالإكراه العنيف، ويصيِّروكم إليها من العَود بمعنى الصَّيرورة، فإنَّ العود في معنى الصَّيرورة أكثر شيءٍ في كلامهم؛ يقولون: ما عدتُ أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل، وقيل: كانوا أولاً على دينهم {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] إنْ دخلتهم في ملتهم ودينهم {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة من ازدياد بصيرتهم اطَّلعنا عليهم {لِيَعْلَمُوا} ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: وعدَ الله بالبعث أو الموعود الذي هو البعثُ ثابتٌ لا خُلْفَ فيه؛ لأنَّ حالهَم في نومهم وانتباهَهم بعدها كحال من يموت ثمَّ يُبْعَثُ.
          {وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} وأنَّ القيامة لا ريبَ في إمكانها، فإنَّ من توفَّى نفوسَهم وأمسَكَها ثلاثمائة سنة حافظاً أبدانها عن التحلُّل والتفتُّت، ثمَّ أرسلها إليها قَدِرَ أن يتوفَّى نفوس جميع النَّاس ممسكاً إيَّاها إلى أن يحشرَ أبدانها فيَرُدَّها عليها {إِذْ يَتَنَازَعُونَ} ظرف لأعثرنا؛ أي: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون؛ أي: النَّاس {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أمر دينهم، ويختلفون في حقيقة البعث، وكان بعضُهم يقولون: تبعثُ الأرواح دون الأجساد، وبعضُهم: تُبْعَثُ الأجسادُ مع الأرواح؛ ليرتفع الخلاف ويتبيَّن أنَّ الأجساد تبعث حيَّة حسَّاسة فيها أرواحها، كما كانت قبل الموت، أو المراد بالأمر أمر الفتية حين أماتهم الله ثانياً بالموت، فقال بعضهم: ماتوا، وقال آخرون: ناموا نومَهم أوَّل مرَّة، أو قالت طائفة: نبني عليهم بنياناً يسكنه النَّاس ويتَّخذونه قرية، وقال آخرون: لنتخذنَّ عليهم مسجداً يُصَلَّى فيه كما قال تعالى.
          {فَقَالُوا} أي: المسلمون بعضُهم لبعضٍ حين توفَّى الله أصحابَ الكهف {ابْنُوا عَلَيْهِمْ} أي: على باب كهفهم {بُنْيَاناً} يسكنه النَّاس كما تقَّدم، وقيل: لئلا يتطرَّق إليهم الناس ضنًّا بتربتهم ومحافظة عليها، كما حُفِظَتْ تُرْبةُ رسول الله صلعم بالحظيرةِ، وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم؛ أي: يتذاكرون بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلَّمون في قصَّتهم، وما أظهر الله من آلائه فيهم، / أو يتنازعون بينهم تدبيرَ أمرهم حين توفوا كيف يُخْفُون مكانَهم، وكيف يسدُّون الطَّريقَ إليهم، فقالوا: ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن العيون {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} هو إمَّا من كلام المتنازعين كأنَّهم تذاكروا أَمْرَهم وتناقَلوا الكلامَ في أنسابهم وأحوالِهم ولبثهم، فلمَّا لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربُّهْم أعلمُ بهم، أو هو من كلام الله تعالى رداً لقولِ الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلعم من أهل الكتاب.
          {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} من المسلمين الذين أطلعهُم الله على حالهم، وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ممَّن قالوا: ابنوا عليهم بنياناً وهم من المسلمين أيضاً، وقيل: من الكافرين زعماً منهم أنهم كانوا على دينهم، والظَّاهر هو الأوَّل {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] يُصَلِّي فيه المسلمون ويتبرَّكون بمكانهم.
          ورُوي: أنَّ أهل الإنجيل عظمتْ فيهم الخطايا، وطغتْ ملوكُهم حتَّى عبدوا الأصنام وأَكْرَهُوا على عبادتها، وممَّن شدَّد في ذلك: دقيانوس؛ فأرادَ فتيةً من أشراف قومه على الشِّرك وتوعَّدَهم بالقتل فأبوا إلا الثَّبات على الإيمان والتصلَّبَ فيه، ثمَّ هربوا إلى الكهف، ومرُّوا بكلب فتبعهم فطردوهُ فأنطقه الله تعالى، فقال: ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحْرُسُكم، وقيل: مرُّوا براعٍٍ معه كلبٌ فتَبِعَهم على دينهم ودخلوا الكهف وكانوا يعبدون فيه ثمَّ ضرب الله على آذانهم وقبل أن يبعثَهُم الله مَلَكَ مدينَتَهم رجلٌ صالح مؤمن، وقد اختَلَفَ أهلُ مملكته في البَعْثِ معترفين وجاحدين، فدخل المَلِكُ بيتَه وأغلق بابَه ولبس مَسْحاً وجلسَ على رمادٍ وسأل ربه أن يبيِّن لهم الحقَّ فألقى الله في نَفْسِ رَجُلٍ من رعيانهم فهدمَ ما سُدَّ به فَمِ الكهف ليتَّخذه حظيرة لغنمه ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطَّعام وأَخْرَجَ الوَرِقَ وكان من ضَرْبِ دقيانوس اتهموه بأنَّه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانياً موحِّداً فقصَّ عليه القصص / فقال بعضُهم: إنَّ آباؤنا أخبرونا أنَّ فتيةً فرُّوا بدينهم من دقيانوس فلعلَّهم هؤلاء فانطلق المَلِكُ وأهلُ المدينة معه من مؤمن وكافرٍ وأبصروهم وكلَّموهم وحمدوا الله على الآية الدَّالة على البعث، ثمَّ قالت الفتيةُ للمَلِكِ: نستودعك الله ونعيذُك به من شرِّ الإنس والجنِّ، ثمَّ رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسَهم، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فَجُعِل لكلِّ واحدٍ تابوتٌ من ذَهَبٍ فرآهم في المنام كارهين للذَّهب فجَعَلها من السَّاج.
          ورُوِيَ فَدَفَنَهم المَلِكُ في الكهفِ وبنى عليهم مسجداً، وقيل: لما انتهوا إلى الكهف، قال لهم الفتى: مكانَكم حتَّى أدخُلَ أولاً لئلا يفزعوا فدخل وعَمِيَ عليهم المدخَلُ وبنو ثمةَ مسجداً، والله تعالى أعلم، هذا، وقد رُوِيَ عن عكرمة أنَّ السَّبب فيما جرى لهم أنهم كانوا تذاكروا هل يَبعثُ الله الروحَ والجَسَدَ أو الروح فقط، فألقى الله عليهم النومَ فناموا المدة المذكورة، ثمَّ بعثهم فعرفوا أنَّ الجسد يُبْعَثُ كما تُبْعَثُ الروح، ولا مانعَ من أن يكون ذلك التَّذاكرُ بعد أن دخلوا الكهف فارِّين بدينهم، والله تعالى أعلم.
          {سَيَقُولُونَ} [الكهف:22] الضَّمير لمن خاض في قصَّتهم في عهدِ رسول الله صلعم من أهل الكتاب والمؤمنين سألوا (11) رسول الله صلعم عنهم فأخَّر الجواب إلى أن يوحى إليه فنزلت الآيةُ إخباراً بما سيجري بينهم من تنازعهم في عدد الفتية بأنَّ بعضهم يقولون: ثلاثة رابعهم كلبهم، وبعضهم يقولون: خمسة وسادسهم كلبهم، وبعضهم يقولون: سبعة وثامنهم كلبهم وأنَّ المصيب منهم من يقول: سبعة وثامنهم كلبهم، وقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي: هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم، قيل: هو قول اليهود، وقيل: هو قولُ السَّيد من نصارى نجران وكان يعقوبياً {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قاله النصارى، وقيل: قاله العاقب منهم، وكان نسطورياً {رَجْماً بِالْغَيْبِ} يرمون رمياً بالخبر الخفي الذي لا مُطَّلَعَ لهم عليه وإيتاناً به، كقوله: {ويَقْذِفُوَن بالغَيْبِ} [سبأ:53] ؛ أي: يأتون به / أو وَضَعَ الرَّجْمَ موضعَ الظَّنِّ، فكأنَّه قيل: ظناً بالغيب؛ لأنهم أكثروا أن يقولوا: رَجَمَ، مكان قولهم: ظنَّ، حتَّى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين، قال زهير:
وَمَا الحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُم وذُقْتُمُ                     وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
          أي: المظنون.
          {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] (12) قاله المسلمون، روي أنَّ السَّيد والعاقب وأصحابَهما من أهل نجران كانوا عند رسول الله صلعم فجرى ذِكْرُ أصحاب الكهفِ فقال السَّيد، وكان يعقوبياً: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب، وكان نسطورياً: كانوا خمسةً سادسُهم كلبُهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحققَّ الله قول المسلمين، وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلعم لهم عن جبريل ◙، وإيماء الله تعالى إليه بأن أَتْبَعَهُ بقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أي: من الناس.
          قال ابن عبَّاس ☻ : وأنا من القليل وأَتْبَعَ الأولين قوله: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} وبأن أثبتَ العِلْمَ بهم لطائفةٍ بعد ما حصر أقوال الطَّوائف في الثلاثة المذكورة، فإنَّ عَدَمَ إيرادِ رابع في نحو هذا المحلِّ دليل العدم مع أن الأصل ينفيه، ثمَّ ردَّ الأولين بأن أَتْبَعَهُمَا قولَه: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} ليتعين الثَّالث، وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة تشبيهاً لها بالواقعة حالاً عن المعرفة، نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سَيْفٌ، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر:4].
          وفائدتُها توكيد لصوق الصَّفة بالموصوف، والدَّلالة على أنَّ اتِّصافه بها أمرٌ ثابت مستقرٌّ فهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] قالوا: عن ثبات عِلْمٍ وطمأنينة نَفْسٍ، ولم يرجُموا بالظَّنِّ كما غيرهم. قال ابن عبَّاس ☻ : ((حين وقعت الواو انقطعت العدَّة)) أي: لم يبق عدَّة عادٍّ يُلْتَفَتُ إليها وثبت أنَّهم سبعةٌ وثامِنُهم كلبُهم، على / الثَّبات والقطع، وإنَّما جِيء بالسين في الأوَّل دون الأخيرين إمَّا لدخول الأخيرين في حُكْم السين كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد مَعْنى التوقُّع في الفِعْلين جميعاً، أو لإرادة معنى الاستقبال بيفعل لكونه صالحاً له، هذا، وقيل: قوله: {إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22]أي: من أهل الكتاب، والضَّمير في {سَيَقُولُونَ}على هذا لأهل الكتاب خاصَّة أي: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا عِلْمَ بذلك إلَّا في قليلٍ منهم، وأكثرهم على ظنٍّ وتخمين.
          وعن علي ☺: ((هم سبعة وثامنهم كلبُهم أسماؤهم: يمليخا، ومكشلينيا، ومشلينيا، هؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش، ودبرنوش، وشاذنوش، أصحاب يساره، وكان يستشير هؤلاء السِّتة، والسَّابع الرَّاعي الذي وافقهم حين هربوا من مَلِكهم دقيانوس))، واسمه على ما أورده الإمام الواحدي في «الوسيط»: كفيشططنونس وقيل: كشططيوش، ذكره المولى سعدي، واسم كلبهم: قطمير، واسم مدينتهم: أفسوس، ويقال: هي اليوم طَرْسُوْس (13)، كذا في «الوسيط».
          وقال الحافظُ العسقلاني: وعن ابن عبَّاس ☻ : إنَّ اسم الملك الأوَّل: دقيانوس، واسم الفتية: مكسلمينا، مخشلمينا، يمليخا، ميطونس، كشطونس، بيرونس، ديمونس، وفي النُّطق بها اختلاف كثير، ولا يقع الوثوق من ضبطها بشيء. وأخرج أيضاً مجاهد أنَّ اسم كلبهم قطميروا. وعن الحسن:قطمير، وقيل غير ذلك، وأمَّا لونه فقال مجاهد: كان أصفر، وقيل: غير ذلك، وروي أنَّه كان معهم في الجنَّة.
          وعن مجاهد: إنَّ دَرَاهِمَهم كانت كخِفَاف الإِبل، وأنَّ تمليخا هو الذي كان رسولَهم ليشتري الطَّعام، وقد ساق ابن إسحاق قصَّتهم في «المبتدأ» مطوَّلة وأفاد أنَّ اسم الملك الصَّالح الذي عاشوا في زمانه: بتدرسيس، وروى الطَّبري من طريق عبد الله بن عُبيد بن عُمير: أنَّ الكلب الذي كان معهم كان كلب صيد. وعن وهب بن منبِّه أنه كان كلب حرث. /
          وعن مقاتل كان الكلبُ لكبيرهم، وكان كلبَ غَنَمٍ قال: وقيل: كان إنساناً طبَّاخاً تَبِعَهم وليس بكلبٍ حقيقة، والأوَّل هو المعتمدُ.
          {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} أي: فلا تجادل أهلَ الكتاب في شأن أصحاب الكهف {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} أي: إلَّا جِدالاً ظاهراً غير مُتَعَمِّق فيه وهو أن تقصَّ عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردِّ عليهم كما قال: وجادلهم بالتي هي أحسن{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] أي: ولا تسأل أحداً منهم عن قصَّتهم سؤالَ مسترشدٍ؛ لأنَّ الله قد أرشدك بأنْ أوحى إليك قصَّتهم؛ ففيما أُوْحِيَ إليك مندوحةٌ عن غيره، مع أنَّه لا عِلْمَ لهم بها ولا سؤال متعنِّت تُريدُ تفضيحَ المسؤول وتزييفَ ما عنده، فإنَّ ذلك يُخِلُّ بمكارم الأخلاق وخلاف ما وصيتُ به من المداراةِ والمُجَاملة، ثمَّ إنَّه تبارك وتعالى بعد ما ذكر آيةَ المشيئة للمناسبة بينها وبين تلك القصَّة كما لا يخفى على من يَنْظرُ فيها بين ما أجمله في قوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:11] حيث قال تعالى:
          {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25] يريد أنَّ لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدَّة، ومعنى قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أنَّه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدَّة لبثهم والحق ما أخبرك به، وفيه تفخيم لطول المدَّة؛ حيث أبهم ثمَّ بيَّن. وعن قتادة أنَّه حكاية لكلام أهل الكتاب؛ فإنَّهم اختلفوا في مدَّة لبثهم كما اختلفوا في عدَّتهم؛ فقال بعضهم: ثلاثمائة، وقال بعضهم: ثلاثمائة وتسع سنين. وقوله:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}ردٌّ عليهم. وقال قتادة في حرف عبد الله؛ أي: ابن مسعود ☺: وقالوا: ولبثوا، والله تعالى أعلم.
          فائدة: قال النِّيسابوري عن ابن عبَّاس ☻ : إنَّ أسماء أصحاب الكهف تصلح للطَّلَب، والهَرَب، وإطفاءِ الحريق، تُكْتَبُ في خرقة ويُرْمَى بها في وسط النَّار، ولبكاءِ الطِّفل / تُكْتَبُ وتُوَضُع تحتَ رأسه في المَهْد، وللحَرْثِ تكتبُ على القرطاس، وترفع على خشب منصوب في وسط الزَّرع، وللضربان (14)، وللحُمَّى المثلثه، والصُّداع، والغنى، والجاه، والدُّخول على السَّلاطين، وللمقعود عن المرأة تُشَدُّ على الفَخِذ اليمنى، ولعسر الولادة تشدُّ على فخذها اليسرى، ولحفظ المال، والرُّكوب على البحر، والنَّجاة من القتل. انتهى.
          (الْكَهْفُ: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ) هو قول الضحَّاك، أخرجه عنه ابن أبي حاتم. واختُلِفَ في مكان الكهف فقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بالقرب من أيلة، رواه الطَّبري بإسناد ضعيف، عن ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: بأرض نينوى، وقيل: بالبلقاء، والذي تظافرت به الأخبار وتكاثرت أنه ببلاد الرُّوم وهو الصحيح: فقيل: بالقرب من طَرَسُوس، وقيل: بالقرب من أبلستين، وكان اسم مدينتهم:أفسوس، بالفاء، واسم ملكهم: دقيانوس.
          وقال السُّهَيْلي: ومدينتهم يقال: إنها على ستة فراسخ من القسطنطينية، وكانت قصَّتُهم قبل غلبة الرُّوم على يونان، ورُوِيَ أنهم سيحجون البيت إذا نزل عيسى بن مريم ♂. وذكر ابن مردويه في «تفسيره» من حديث حجَّاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن مِقْسَم، عن ابن عبَّاس ☻ : ((أصحابُ الكهف أعوانُ المهدي)) وذكر مقاتل في «تفسيره» اسم الكهف: مانجلوس، وقد مرَّ بعض ذلك في أثناء تفسير الآيات الكريمة، وكذا ما بعد ذلك.
          (وَالرَّقِيمُ: الْكِتَابُ. مَرْقُومٌ: مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ) أشار به إلى تفسير الرَّقيم، وهذا التفسير منقول عن ابن عبَّاس ☻ ، رواه الطَّبري من طريق بن أبي طلحة عنه أنه قال: ((الرَّقيم الكتاب)).
          وقوله: مرقوم: مكتوب، هو قول أبي عبيدة في تفسير قوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9]، وقوله: من الرقم، إشارة إلى أن اشتقاق الرقيم والمرقوم من الرقم وهو الكتابة، وفي الرَّقيم أقوال أخرى وراء ذلك، فقد أخرج الطَّبري من طريق سعيد، عن قتادة ومن طريق عطية العوفي، وكذا قال أبو عبيدة: الرقيم: الوادي الذي فيه الكهف.
          وأخرج الطَّبري أيضاً عن كعب الأحبار قال: هو اسم القرية، وروى ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك ☺. /
          وكذا عن سعيد بن جُبير: أنَّ الرقيم اسم الكلب، وقيل: الرَّقيم: هو الغار، كما سيأتي في حديث الغار [خ¦3465]، وقيل: الرَّقيم: اسم الصَّخرة التي أطبقت على الوادي الذي فيه الكهف.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : ((الرقيم: لوح من رصاص كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف لما توجهوا عن قومهم ولم يدروا أين توجهوا))، وقيل: إن الذي كان مكتوباً في الرقيم شرعُهم الذي كانوا عليه وقيل: الرقيم: الدواة.
          وقال الحافظُ العسقلاني: قال قوم: أخبر الله تعالى عن قصَّة أصحابَ الكهف ولم يخبر عن قصَّة أصحابَ الرَّقيم، وليس كذلك بل السِّياق يقتضي أنَّ أصحابَ الكهف هم أصحابُ الرقيم، والله تعالى أعلم.
          ({ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14]أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْراً) أشار به إلى ما في قوله تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} وفسَّره بقوله: ألهمناهم صبراً، وهكذا فسَّره أبو عبيدة ({شَطَطاً}: إِفْرَاطاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14] وفسَّره بقوله: إفراطاً، وقوله: شططاً، منصوب على أنَّه صفة مصدر محذوف تقديره: قولاً شططاً؛ أي: ذا شطط، وهو الإفراط في الظُّلم والإبعاد، من شط إذا بعد، وقال أبو عبيدة: في قوله:{شَطَطاً}؛ أي: جَوْرَاً وغلوا. قال الشَّاعر:
أَلَا يَا لِقَوْمِي قَدْ أَشَطَّتْ عَوَاذِلِي                     وَيَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّيَ بَاطِلِي
          وروى الطَّبري عن سعيد، عن قتادة في قوله:{شَطَطاً}قال: كذباً.
          (الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]وفسَّره بقوله: الفِناء، بكسر الفاء والمد، هكذا فسَّره ابن عبَّاس ☻ ، أخرجه ابنُ أبي حاتم، عنه. وكذا رُوِيَ عن سعيد بن جُبير، أخرجه ابن جرير.
          وقوله: وجَمْعُه؛ أي: جمع الوصَيد: وصائد ووُصْد، بضم الواو وسكون الصاد، وقوله: ويقال: الوصيد: الباب. قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي: على الباب، ويقال أيضاً: الوصيد: عتبة الباب والأَصِيْدُ كالوَصِيد، ذكر الطَّبري عن أبي عَمرو بن العلاء أنَّ أهل اليمن وتهامة يقولون: الوَصيد، وأهل نجد يقولون: الأَصيد.
          ({مُؤْصَدَةٌ}: مُطْبَقَةٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] وفسَّره بقوله: مُطْبَقَة، وهذا ذكره / استطراداً لأنَّه ليس في سورة الكهف إلَّا أنَّه لما كان الاشتقاق بينهما من وادٍ واحد ذكره هنا، والذي فسَّره به هنا منقولٌ عن أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: مُطْبَقَة تقول: أَوْصَدْتُ وآصدت؛ أي: أَطْبَقْتُ، وإليه أشار بقوله: (آصَدَ) بمدِّ الهمزة على أنَّه من المهموز، ومنه الأصيد (الْبَابَ وَأَوْصَدَهُ) بالواو، ومنه الوصيد؛ أي: أطبقه وأغلقه أرادَ بذلك أنَّه يجيءُ من المهموز والمثال، وقد قُرئ بهما قوله تعالى: {موصدة} [البلد:20]، وقد أغربَ العيني حيث قال: يعني يقال بالثلاثي وبالمزيد، فكأنَّه لم يمد الهمزة في آصد ({بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12] أَحْيَيْنَاهُمْ) أشار به إلى تفسير قوله:{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ}، وهكذا فسَّره أبو عبيدة ({أَزْكَى}: أَكْثَرُ رَيْعاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَزْكَى طَعَامَاً} [الكهف:19] وفَسَّرَ أزكى بقوله: أكثر ريعاً؛ أي: نماء وزيادة، وهو قول أبي عبيدة فيه؛ أي: أكثر. قال الشَّاعر:
قَبَائِلُنا سَبْعٌ وَأَنتُم ثَلاثَةٌ                     وَلِلسَّبعِ أَزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وَأَطْيبُ
          وروى عبد الرَّزَّاق في «تفسيره» عن مَعمر، عن قتادة في قوله:{أَزْكَى طَعَامَاً} قال: خيرٌ طعاماً، وروى الطَّبري عن سعيد بن جُبير: أحل، ورجَّحه الطَّبري، وقال الزَّمخشري: أيُّها؛ أي: أيُّ أهلها، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} [يوسف:82] أزكى طعاماً: أحل وأطيب أو أكثر وأرخص.
          (فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ، فَنَامُوا) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} وهو قول ابن عبَّاس ☻ ، وفي الحقيقة أخذ لازم القرآن، وفسَّره بلازمه إذ الذي ذكره ليس لفظ القرآن، ولا ذلك معناه، وقيل: معنى {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف:11] سددنا عن نفوذ الأصوات إليها. وقال الزَّمخشري: ضربنا عليها حجاباً من أن تَسْمَع يعني: أنمناهم إنامةً ثقيلةً لا تنبههم منها الأصوات ({رَجْماً بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ) أشار به إلى ما في قوله تعالى:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} إلى قوله:{رَجْمَاً بِالْغَيْبِ} وفسره بقوله: لم يستبن.
          قال عبد الرَّزَّاق في «تفسيره» عن مَعمر، عن قتادة في قوله:{رَجْمَاً بِالْغَيْبِ}[الكهف:22] ما لم تستيقنه من الظَّنِّ، وقيل: معناه قذفاً بالظَّن.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَقْرِضُهُمْ}: تَتْرُكُهُمْ) / أي: قال مجاهد في تفسير قوله: {وتَقْرِضُهُمْ} في قوله تعالى: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17] أي: تتركهم، وأصل القرض القطع، والتَّفرقة من قولك: قرضتُه بالمقراض؛ أي: قطعتُه، والمعنى هنا: تعدلُ عنهم وتَتْرُكهم، قاله الأخفش والزَّجاج، وقيل: تُصِيْبُهم يَسِيْراً مأخوذٌ من قِراضة الذَّهب والفضَّة، وهو ما أخذ منها بالمقراض؛ أي: تُعطيهم الشَّمسُ اليسيرَ من شعاعها، وقيل: معناه تحاذيهم، وهو قول الكسائي والفرَّاء.
          اعلم أنَّ المصنف ☼ اقتصر في هذا الباب على تفسير الكلمات الواقعة في القرآن، ولم يذكر حديثاً مسنداً؛ لأنَّه لم يجد حديثاً في ذلك على شرطه، وقد روى عبد بن حميد بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ قصَّةَ أصحابِ الكهف بطوله غيرَ مرفوعةٍ، وملخَّصُها: أنَّ ابن عبَّاس ☻ غزا مع معاوية الصَّائفة (15)، فمروا بالكهف الذي ذَكَرَ اللهُ في القرآن، فقال معاوية: أريد أن أكشفَ عنهم، فمنعه ابن عبَّاس فصمَّم وَبَعَثَ ناساً فبعث الله ريحاً فأخرجهم، ويروى: ((فأحرقهم))، قال: فبلغ ابنُ عبَّاس ☻ فقال: إنَّهم كانوا في مَمْلَكةِ جبَّار يعبدُ الأوثان، فلمَّا رأوا ذلك خرجوا منها فجمعَهم الله على غير ميعادٍ فأخذ بعضُهم على بَعْضٍ العهودِ والمواثيق، فجاء أهاليهم يَطلبونهم فَفَقَدوهم، فأخبروا المَلِكَ فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص، وجعله في خزانتهِ، فَدَخَلَ الفتيةُ الكهفَ، فضربَ الله على آذانهم، فناموا، فأرسل اللهُ مَن يقلبهم، وحَوَّلَ الشَّمسَ عنهم، فلو اطَّلعتْ عليهم لأحْرَقَتْهم، ولولا أنَّهم يُقْلَبُون لأَكَلَتْهم الأرض، ثمَّ ذهب ذلك المَلِكُ وجاء آخر فكسر الأوثان وعبدَ الله وعدَلَ فبعثَ اللهُ أصحابَ الكهف، فأرسلوا واحداً منهم يأتيهم بما يأكلون فدخلَ المدينة مُسْتَخْفِياً فرأى هيئته وناساً أنكَرَهم لطول المدَّة فدَفَعَ دِرْهَماً إلى خَبَّازٍ فاستَنْكَر ضَرْبه وهمَّ بأن يرْفَعَه إلى الملك، فقال: أَتُخَوِّفْنِي بالمَلك وأَبِي دهقانُة، فقال: من أبوك؟ قال: فلان فلم يعرفه، فاجتمع النَّاس فدفعوه إلى المَلِك فسأله فقال: علي باللَّوح، وكان قد سَمِعَ به فسمَّى أصحابه فعرفهم من اللَّوح / فكبَّر النَّاس، وانطلقوا إلى الكهف، وسبق الفتى لئلا يخافوا من الجيش، فلمَّا دخل عليهم عَمَّى اللهُ على المَلِك، ومَن معه المكان، فلم يدر أين ذهب الفتى فاتَّفق رأيُهم على أن يبنوا عليهم مسجداً فجعلوا يستغفرونَ لهم ويدعون لهم، وذكر ابنُ أبي حاتم في «تفسيره» عن شَهْرِ بن حَوشب قال: كان لي صاحب قوي النَّفس فمر بالكهف فأراد أن يدخله فنُهِيَ فَأَبَى فأَشْرَفَ عليهم فابيضتْ عَينَاه وتغَيَّر شَعْرُه.


[1] في هامش الأصل: قوله: بالإضافة إلى ذلك؛ أي: بالإضافة إلى خَلْق ما على الأرض من الأجناس والأنواع الفائتة للحصر على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة، ثم ردها إليها.
[2] في هامش الأصل: وصيدهم مفعول مجاوراً.
[3] في هامش الأصل:في نسخة: همد.
[4] وفي هامش الأصل: غضبان اسم جبل، وأيلة هي القرية التي في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}.
[5] في هامش الأصل: قوله بمعنى أنمناهم بطريق الاستعارة التبعية بأن يشبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم يذكر المشبه به ويراد المشبه ثم يشتق منه الفعل.
[6] في هامش الأصل: أي لخلوص يقينهم عن شوب الشك.
[7] في هامش الأصل: الزورَ بفتح الواو.سعدي.
[8] في هامش الأصل: وتعجب منه الإمام وقال: إن الله قادر على حفظهم من غير تقليب، ولقائلٍ أن يقول: لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن جعل لكل شيء سبباً في أغلب الأحوال. سعدي.
[9] في هامش الأصل: في رواية: مكشينا.
[10] في هامش الأصل: تعالمه الجميع؛ أي: علموه.
[11] في هامش الأصل: وفي العيون سأل المؤمنون خبرهم عن النبي صلعم.
[12] في هامش الأصل: فإن قوله: {وثامنهم كلبهم} صفة لقوله: {سبعة} كما أن قوله: {رابعهم} صفة بقوله: {ثلاثة} وكذا قوله: {سادسهم كلبهم} صفة لقوله: {خمسة}.
[13] في هامش الأصل: طرسوس كحلزون بلد إسلامي مخصب. ((قاموس)).
[14] في هامش الأصل: اشتداد الجرح.
[15] في هامش الأصل: الصائفة: غزوة الروم لأنهم يغزون صيفاً لمكان البرد والثلج. ((قاموس)).