نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا}

          ░17▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}) وقع هذا الباب في أكثر نسخ البخاري متأخراً عن هذا الموضع بعدَّة أبواب، والصَّواب: إثباته هنا، وهذا ممَّا يؤيِّد ما حكاه أبو الوليد عن أبي ذرٍّ الهروي: أنَّ نسخة الأصل من البُخاري كانت وَرَقَاً غيرَ محبوك، فربما وُجِدَتْ الورقةْ في غيرِ مَوْضِعِها، فنُسِخَت على ما وُجِدَتْ، فوقع في بعضِ التَّراجم إشكال بحسب ذلك، وإلَّا فقد وقع في القرآن ما يدلُّ على أنَّ ثمود كانوا بعد عاد كما كان عاد بعد قوم نوحٍ، والله تعالى أعلم، كذا قال الحافظ العسقلاني، وأنت خبير بأنَّه لا يستلزم وقوعُ قصَّة ثمود بعد قصَّة عاد في القرآن رعايةَ التَّرتيب في هذا «الصَّحيح»، فتَأَمَّل.
          قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [الأعراف:73]: أي: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، وإنَّما قال: {أَخَاهُمْ}؛ لأنَّ صالحاً ◙ كان من قبيلتهم. واختلفوا في ثمود: فقال الجوهريُّ: ثمود: قبيلة من العرب، وهم قومُ صالح، وكذلك قال الفرَّاء، سمِّيت بذلك؛ لقلَّة مائهم.
          وقال الزَّجاج: / الثَّمد: الماءُ القليل الذي لا مادة له، وقيل: ثمود اسمُ رجل. وقال عكرمةُ: هو ثمودُ بن جابر بن إِرَمَ بن سام بن نوح ◙.
          وقال الكلبيُّ: وكانت هذه القبيلة تنزلُ في وادي القرى إلى البحر والسَّاحل وأطراف الشَّام، وكانت أعمارهم طويلة، وكانوا يبنون المساكن فتنهدم، فلمَّا طالَ ذلك عليهم اتخذوا من الجبال بيوتاً ينحتونها، وعملوها على هيئة الدُّور.
          ويقال: كانت منازلهم أولاً بأرض كُوش من بلاد عَاِلج، ثمَّ انتقلوا إلى الحِجر بين الحجاز والشَّام إلى وادي القرى، وخالفوا أمرَ الله، وعبدوا غيرَه، وأفسدوا في الأرضِ فبعث الله إليهم صالحاً نبياً فدعاهُم إلى الله تعالى حتَّى شمط ولم يتبعه منهم إلَّا قليل مستضعفون.
          وصالح: هو ابنُ عبيد بن جابر بن إِرَمَ بن سام بن نوح ◙. وقيل: صالح بن عُبيد بن أنيف بن ماشخ بن عُبيد بن جادر بن ثمود، قاله مقاتل. وقيل: صالحُ بن كانون، قاله الربيع. وقيل: صالح بن يوسف بن شالخ بن عبيد بن جاثر بن ثمود، قاله مجاهد.
          وقال أيضاً: كان بينه وبين ثمود مائة سنة، وكان في قومه بقايا من قوم عاد على طولهم وهيئتهم، وكان لهم صنم من حديد يدخل فيه الشَّيطان في السَّنة مرَّة واحدة ويكلِّمهم، وكان أبو صالح سادنه، فغارَ لله وهمَّ بكسره، فنادَاهم: الصَّنم اقتلوا كانون، فقتلوهُ ورموهُ في مفازةٍ، فبكتْ عليه امرأته مدَّة، فجاءها ملك فقال: إنَّ زوجك في المفازة الفلانية، فجاءتْ إليه وهو ميِّت، فأحياهُ الله تعالى، فقام إليها فوطئها، فعلقت بصالح من ساعتها، وعاد كانون ميتاً بإذن الله تعالى.
          ولما شبَّ صالح بعثَه الله إلى قومه، وعمره قبل البلوغ، ولكنَّه قد راهق، قاله وهب.
          وقال ابن عبَّاس ☺: «لما تم له أربعون سنة أرْسَلَه إليهم، وذَكَرَه الله تعالى في القرآن في خمسة مواضع، وبيَّن قصَّته مع قومه، فلمَّا أهلك اللهُ قومَه نزل صالح بفلسطين، وأقام بالرَّملة».
          وقال السُّدي: أتى هو ومن معه من المؤمنين إلى مكَّة، فأقاموا يتعبدون حتى ماتوا، فقبورُهم غربي الكعبة بين دار النَّدوة / والحِجر.
          وقال ابنُ قتيبة: أقام صالح في قومه عشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وثمان وخمسين سنة. وقيل: ابن ثلاثمائة وستة وثلاثين سنة. وحكاه الخطيب عن ابن عبَّاس ☻ ، وهو الأظهر. ويقال: إن صالحاً مات باليمن، وقبره بموضع يقال له: الشَّبوه.
          وذكر الفِربري: أن صالحاً خرجَ مع المؤمنين إلى الشَّام، فسكنوا فلسطين ومات بها، وكان بين صالح وبين هود ♂ مائة سنة، وبين صالح وإبراهيم ♂ ستمائة سنة وثلاثون سنة.
          ({كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ}) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر:80] وفسَّر الحِجر بقوله: (مَوْضِعُ: ثَمُودَ) وهو ما بين المدينة إلى الشَّام. وقال الكِرمانيُّ: هو منازل ثمود ناحية الشَّام عند وادي القرى.
          وقال العسقلانيُّ: وكانت منازلهم بالحِجْرِ، وهو بين تبوك والحجاز، ولا منافاة، وأرادَ بالمرسلين صالحاً، وهو وإن كان واحداً فالمرادُ هو ومن معه من المؤمنين. وقيل: كلُّ من كذَّب واحداً من الرُّسل، فكأنما كذَّبهم جميعاً.
          (وَأَمَّا {حَرْثٌ حِجْرٌ} حَرَامٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام:138] وفسَّر الحِجْر بقوله: حرام، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وحذف البخاري الفاء عن جواب أمَّا، وهو قوله: حرام وهو جائز.
          (وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حِجْرٌ) أي: كل شيءٍ يمنع فهو حجر؛ أي: حرام (وَمِنْهُ حِجْرٌ مَحْجُورٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22]. وقال أبو عبيدة: أي: حراماً.
          (وَالحِجْرُ: كُلُّ بِنَاءٍ تَبْنِيهِ) بتاء الخطاب في أوَّله (وَمَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ) دخلت الفاء؛ لتضمن قوله: وما حجرتَ عليه، معنى الشَّرط (وَمِنْهُ) أي: من الحِجر بمعنى الحرام (سُمِّيَ حَطِيمُ البَيْتِ) وهو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة (حِجْرًا كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ، مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ) أراد أنَّ الحطيمَ بمعنى المحطوم كما أنَّ القتيل بمعنى المقتول، يعني: أنَّه فعيل بمعنى المفعول، وليس فيه اشتقاقٌ اصطلاحي وهو بمعنى مكسور، وكان الحطيمُ سمِّي به؛ لأنَّه أُخْرِجَ من البيت، وتُرِكَ هو محطوماً؛ أي: مكسوراً بإخراجهِ عنه. وقيل: الحطيم: / ما بين الرُّكن والباب، سمِّي حَطيماً؛ لازدحامِ النَّاس فيه. وقيل: سمِّي الحطيمُ حطيماً؛ لأنَّ العرب كانت تطرحُ فيه ثيابها التي تطوفُ فيها، وتتركها حتى تنحطمَ، وتفسدَ بطول الزَّمان، فعلى هذا هو فعيلٌ بمعنى فاعل.
          (وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنَ الخَيْلِ الحِجْرُ، وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ) كما في قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] ؛ أي: لذي عقل؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الوقوعِ في المهالك.
          (وَحِجًى) بكسر الحاء وفتح الجيم مقصوراً، وهو أيضاً من أسماء العقل، ومنه: الحِجَى بمعنى الستر. وفي الحديث: ((من بات على ظهر بيت ليس عليه حِجَى فقد برئتْ منه الذِّمَّة)) شبهه بالحجى الذي بمعنى العقل؛ لأنَّ العقل يمنعُ الإنسانَ من الفساد، ويحفظه من التَّعرض للهلاك، فكذلك السِّتر الذي على السَّطح يمنعُ الإنسان من التَّردي والسُّقوط.
          (وَأَمَّا حَجْرُ اليَمَامَةِ فَهُوَ المَنْزِلُ) يعني: أمَّا حَجْر اليمامة، بفتح الحاء، فهو اسم منزل باليمامة. وقال الحافظ العسقلاني: هي قصبةُ اليمامة: البلد المشهور بين الحجاز واليمن، ذكره استطراداً، وليس له تعلُّق بما قبله؛ لأنَّه كما عرفت بفتح الحاء، إلَّا أنَّ مِنْ مكسورِ الحاء غير ما ذكره: حِجْر القميص، وفيه جاء الكسر والفتح، والفتح أفصح، وكذا حِجْر الإنسان؛ فيه لغتان، قاله ابن فارس. ويُجْمَعُ على حُجُور. وجاء في الحِجْر الذي بمعنى الحَرام الكسر والضم والفتح، وقال الجوهريُّ: الكسر أفصح، والحَجَر، بفتحتين، معروف، وهو اسمُ رجل أيضاً، ومنه: أوسُ بن حَجَرٍ الشَّاعرُ المشهور. والحَجْر، بفتح الحاء وسكون الجيم: مصدر حَجَر القاضي عليه، إذا منعه من التَّصرف في ماله. وحُجْر، بضم الحاء وسكون الجيم: نَبْتٌ مُرٌّ، واسم رجل أيضاً، وهو حُجْر الكِنْدي الذي يقال له: آكل المُرَار. وحُجْر بن عَدِيٍّ الذي يقال له: الأَدْبَر.