نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشر}

          ░25▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ ╡: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} إِلَى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:141-143]) وساق في رواية كريمة هاتين الآيتين بتمامهما، وهما في أواسط سورة الأعراف، قال الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ذا القعدة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجة. روي أنَّ موسى ◙ وعد بني إسرائيل وهو بمصر إنْ أهلك الله عدوَّهم أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون ويذرون، فلمَّا هلك فرعون سألَ موسى ربَّه بالكتاب فأمره بصَوْمِ ثلاثين يوماً، وهو شهرُ ذي القعدة، فلمَّا أتم الثَّلاثين أنكر خلوف فِيْه فتَسَوَّك، فقالت الملائكة: كنَّا نشمُّ من فيك رائحة المسكِ فأفسدتها بالسِّواك، فأمره الله تعالى أن يزيدَ عليه عشرة أيَّام من ذي الحجة لذلك، وهو معنى قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} / وقيل: أمره أن يتخلَّى ثلاثين بالصَّوم والعبادة، ثمَّ أنزلَ عليه التوراة في العشر وكلَّمه فيها.
          {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وميقات ربِّه: ما وقَّت له من الوقت وضربَه له، والفرقُ بين الميقات والوقت وإن كانا من جنس واحدٍ أنَّ الميقات: ما قدر لعمل، والوقت: قد لا يقدر لعمل، وقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} نصب على الحال؛ أي: تم بالغاً هذا العدد.
          {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ} عطف بيان لأخيه {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي: كنْ خليفةً عني فيهم {وَأَصْلِحْ} ما يجبُ أن يصلحَ في أمورهم، أو ارفقْ بهم وأحسنْ إليهم {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] ولا تتَّبع من سلك الإفساد، ولا تطعْ من دعاك إليه، وهذا تنبيهٌ وتذكير وإلَّا فهارون ◙ نبيٌّ كريم على الله، له وجاهةٌ وجلالة.
          {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أي: الوقت الذي وقَّتناه له وحدَّدناه، واللام للاختصاص؛ أي: اختصَّ مجيئه لوقتهِ {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير وسطٍ، كما يكلِّم الملائكة، روي أنَّ موسى ◙ كان يسمعُ ذلك الكلام من كلِّ جهة، وفيه تنبيهٌ على أنَّ سماعَ الكلام القديم ليس من جنس سماع المحدِّثين.
          {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أي: أخذه الشَّوق وطلب الزِّيادة لما رأى من لطفهِ تعالى به، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} بأن تمكِّنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك {قَالَ لَنْ تَرَانِي} أعطى جوابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي} يعني: في الدنيا.
          وقد استشكل حرف {لَنْ} هاهنا على كثير من الناس؛ لأنها موضوعةٌ لتأبيد النَّفي، فاستدلَّ به المعتزلة على نفي الرُّؤية في الدنيا والآخرة، وهذا سخيفٌ؛ لأنَّه قد تواترت الأحاديث عن النَّبي صلعم بأن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة، وقيل: إنها لتأبيد النَّفي في الدنيا جَمْعاً بين هذه وبين الدَّليل القاطع على صحَّة الرؤية في الدار الآخرة.
          {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ} أي: الجبل {مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} استدراك يريد أن يبين به أنَّه لا يطيقُه، والجبل هو أعظمُ جبلٍ بمدين، قاله الكلبي يقال له: زبير، يعني: اجعلْ بيني وبينك عَلَماً هو أقوى منك يعني: الجبل، فإن استقرَّ مكانه / وسَكَن ولم يتضعضع فسوف تراني، وإن لم يستقر فلن تُطِيقَ، وفي تعلُّق الرؤيةِ بالاستقرار دليلُ الجَوازِ ضرورةَ أنَّ المعلِّق على المُمْكِن مُمْكِنٌ.
          {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ظهرتْ له عظمتُه وتصدى له اقتداره وأمره، وقيل: أُعْطِيَ له حياةٌ ورؤيةٌ حتى رآه، وقال ابن عبَّاس ☻ : وهو ظهور نوره {جَعَلَهُ دَكّاً} مدكوكاً مفتتاً، والدَّكُّ والدَّق أخوان كالشَّك والشَّق.
          وقال ابن عبَّاس ☻ : تراباً، وقال سفيان الثَّوري: ساخ الجبلُ في الأرض حتى وقعَ في البحر فهو يذهب فيه. وعن أبي بكر الهُذلي: جعله دكاً انقعرَ فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة.
          وفي «تفسير ابن كثير»: وجاء في بعضِ الأخبار أنَّه ساخ في الأرض فهو يَهوي فيه إلى يوم القيامة. رواه ابن مَردويه، وقال ابنُ أبي حاتم بإسناده عن أبي مالك، عن النَّبي صلعم قال: ((لما تجلَّى اللهُ للجَبَلِ طارتْ لعظمتهِ ستَّة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، فالتي بالمدينة: أُحُد وورقان ورَضوى، ووقع بمكة: حِراء وثَبير وثَور)). قال ابن كثير: هذا حديث غريب بل منكر.
          وقال ابنُ أبي حاتم: ذكر عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلَّى الله لموسى ◙ على الطُّور صمَّاء ملساء، فلمَّا تجلَّى تفطَّرت الجبال فصارتْ الشُّقوق والكهوف.
          {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} مغشياً عليه من هَوْل ما رأى، وقال قتادة: وقع ميتاً {فَلَمَّا أَفَاقَ} يعني: من غشيته، وعلى قول مقاتل: رُدَّتْ عليه رُوْحُه {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: من الإقدامِ والجراءة على السُّؤال بغير إذن، وقيل: المراد من التَّوبة: الرُّجوع إلى الله تعالى لا عن ذنب سَبَقَ، وقيل: إنما قال ذلك على جهةِ التَّسبيح وهو عادةُ المؤمنين عند ظهور الآيات الدَّالة على عظم قدرته.
          {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: من أمَّته؛ لأن إيمان كل نبي متقدِّم على إيمان أمَّته، وقيل: أي: بأنَّك لا تُرَى في الدُّنيا، وقيل: ممَّن ندمَ باستعظام سُؤاله الرُّؤية، والله أعلم.
          (يُقَالُ: دَكَّهُ: زَلْزَلَهُ) ذكر هذا لقوله تعالى: {جَعَلَهُ دَكّاً} وفسَّره بقوله: زلزله، والدَّك: مصدر جُعِلَ صفة يقال: ناقةٌ دكَّاء؛ أي: ذاهبة السَّنَام / مستو ظهرها، وقال أبو عبيدة: {جَعَلَهُ دَكّاً} أي: مستوياً مع وجه الأرض.
          ({فَدُكَّتَا} [الحاقة:14] فَدُكِكْنَ، جَعَلَ الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ) أشار بقوله: {فَدُكَّتَا} إلى ما في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] وكان القياس أن يقول: فدُكِكْنَ بالجَمْع؛ لأنَّ الجبالَ جَمْعٌ والأرض في حكم الجَمْع، ولكن جعل كلَّ جَمْعٍ منهما كواحدة فلذلك قيل: دُكَّتا بالتَّثنية، والآية في سورة الحاقة. قال الله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} أي: رفعت من أماكنها بمجرَّد القدرة الكاملةِ أو بتوسط زلزلة، أو ريح عاصفة {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] فضُرِبَتِ الجملتان بعضُها ببعض ضربةً واحدةً فيصير الكلُّ هباءً، أو فبُسِطتَا بسطةً واحدةً فصارتا أرضاً لا عوج فيها ولا أَمْتَا؛ لأنَّ الدَّك سببٌ للتَّسوية.
          (كَمَا قَالَ اللَّهُ ╡: {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء:30] وَلَمْ يَقُلْ: كُنَّ، رَتْقاً: مُلْتَصِقَتَيْنِ) ذكره تنظيراً لما قبله، ولذا قال: كما قال، بكاف التَّشبيه، فإنَّ القياس فيه كان أن يقال: كنْ رتقاً؛ لأنَّ السموات جَمْعٌ والأرض في حكم الجمع، ولكنَّه جعل كلَّ واحد منهما كواحدة، فقيل: كانتا بلفظ التَّثنية ولم يقل: كنْ بلفظ الجَمْع، وقوله: ملتصقتين تفسير لقوله: {رَتْقاً}، وأغرب الحافظُ العسقلاني حيث قال: ذكر هذا استطراداً إذ لا تعلُّق له بقصَّة موسى ◙، وكذا قوله: {رَتْقاً} ملتصقتين. وقال أبو عبيدة: {رَتْقاً} ليس فيهما نقبٌ ثمَّ فتقَ الله السَّماء بالمطر، وفتقَ الأرض بالشَّجر.
          ({أُشْرِبُوا} [البقرة:93] ثَوْبٌ مُشَرَّبٌ مَصْبُوغٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] وأشار بقوله: ثوب مشرَّب مصبوغ إلى أن معنى قوله: {أُشْرِبُوا} ليس من شرب الماء، بل معناه مثل معنى قولهم: ثوب مشرَّب؛ أي: مصبوغٌ؛ يعني: اختلط بقلبهم حبُّ العجل كما يختلطُ الصَّبغُ بالثوب.
          ويجوز أن يكون المعنى: إنَّ حبَّ العِجْل حلَّ محل الشَّراب في قلوبهم، وعلى التَّقديرين المراد المبالغةُ في حُبِّهم العِجْل، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العِجْل منهم إلَّا اثنا عشر ألفاً، وفي قوله: {وَأُشْرِبُوافِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} / فيه حذف مضاف؛ أي: حبُّ العجل، ومن قال: إنَّ العجل أُحْرِقَ ثمَّ ذرِّي في الماء فشربوه، فهو لم يَعْرِفْ كلامَ العَرَبِ؛ لأنها لا تقول في الماء: أشرب فلان في قلبه.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {انْبَجَسَتْ} [الأعراف:160] انْفَجَرَتْ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ} [الأعراف:160] والفاء فيه متعلِّق بمحذوفٍ تقديره: فضُرِبَ فانبجستْ، وهذه الفاء تسمَّى: فصيحة، ولا تقعُ إلَّا في كلامٍ بليغ، وقد وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه كذلك.
          ({نَتَقْنَا}: رَفَعْنَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف:171] وفسر قوله: {نَتَقْنَا} بقوله: رفعنا، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه أيضاً كذلك، ويقال: معناه: قلعنا ورفعناه فوقَهم، كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} [النساء:154]، وقوله: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف:171] هو كلُّ ما أظلَّك من سقيفةٍ أو سحاب.
          وقصَّته: أنَّ موسى ◙ لما رجع إلى قومه وقد أتاهم بالتوراة أبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها من الآصار والأثقال، وكانت شريعتُه ثقيلةً فأمر الله تعالى جبريل ◙ قَلْعَ جبلٍ قَدْرَ عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخٍ، ورَفَعَه فَوْقَ رؤوسهم مقدارَ قامةِ الرَّجل، وكانوا ستمائة ألف، وقال لهم: إن تقبلوها وإلَّا ألقيت عليكم هذا الجبل.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «رفع الله فوقهم الطُّور، وبعث ناراً من قبل وجوهِهِم، وأتاهم البحر الملح من خلفهم».