نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}

          ░43▒ (قَولُهُ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:2] إِلَى قَوْلِهِ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم:7]) أي: اقرأ إلى قوله سميَّا. قال الله تعالى: {كهيعص}[مريم:1] فيه وجوه شتَّى: قال ابن عبَّاس ☻ : معناه: بسم الله الكافي الهادي المبسوط اليد بالرِّزق العالم الصَّادق في وعدهِ ووعيدهِ، وقيل: هو قَسَمٌ أقسمَ الله تعالى به، وهو اسمٌ من أسمائه الحسنى، وقيل: هو اسم السُّورة، وقيل: غير ذلك.
          {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} خبر ما قبله إنْ أُوِّلَ بالسورة أو القرآن، فإنَّه مشتمل عليه، أو خبرُ محذوفٍ؛ أي: هذا المتلو {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} أو مبتدأ حذف خبره؛ أي: فيما يتلى عليك ذكرها. وقرئ: {ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} على الماضي؛ أي: هذا المتلو من القرآن ذَكَرَ رحمةَ ربِّك وهي قراءة الحسن، وقرئ ▬ذَكِّرْ↨ على الأمر {عَبْدَهُ} مفعول الرَّحمة، أو الذكر على أنَّ الرَّحمة فاعله على الاتساع {زَكَرِيَّا} [مريم:2] بدلٌ منه، أو عطف بيان له {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] راعى سنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهرَ والإخفاء عند الله سيَّان، فكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد من الرِّياء وأدخلُ في الإخلاص.
          وعن الحسن نداءٌ لا رياءَ فيه، أو أخفاهُ؛ لئلا يلام على طلبِ الولد في إبَّان الكبر والشَّيخوخة أو أسرَّه من مَواليه الذين خافهم أو خَفَت (1) صوتَه لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشَّيخ: صوته خفاتٌ وسمعه تاراتٌ أي: تارةً يَسمعُ وتارةً لا يَسمعُ. واختُلِف في سنِّه حينئذٍ، فقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: خمس وثمانون، وقيل: تسع وتسعون، ولامرأته ثمان وتسعون.
          {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] / تفسير للنِّداء، والوهن: الضَّعف، قرئ: {وَهَنَ} بالحركات الثَّلاث ونظيره: كمل، في الحركات الثَّلاث. وتخصيصُ العظم بالذكر لأنَّه عمود البدن ودعامتهِ، وبه قوامه، وهو أصلُ بنائه، فإذا وهنَ تداعَى وتساقطتْ قوَّته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهنَ كان ما وراءه أوهنُ، ووحَّده لأنَّ الواحد هو الدَّال على الجنسيَّة، وقَصْدُه إلى أنَّ هذا الجِنْس الذي هو العمود والقوام وأشدُّ ما يتركبُ منه الجِسم قد أصابه الوُهن، ولو جَمَعَ لكان قَصْداً إلى معنى آخر وهو أنَّه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.
          {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} شبَّه الشَّيب في بياضه وإنارته بشواظ النَّار وانتشاره في الشَّعر، وفشوه فيه، وأخذه منه كلَّ مأخذ باشتعال النار، ثمَّ أخرجه مخرج الاستعارة، ثمَّ أسند الاشتعال إلى مكان الشَّعر ومنبته، وهو الرَّأس مبالغة، وأخرج الشَّيب مميزاً إيضاحاً للمقصود ولم يضف الرَّأس ولم يقل رأسي اكتفاءً بعلم المخاطب أنَّه رأس زكريا ◙، فمن ثَمَّة فصَحَّتْ هذه الجُملة، وشُهِدَ لها بالبلاغة.
          {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4] أي: بدعائي إيَّاك خائباً بل كلَّما دعوتك استجبتَ لي، وهو توسُّل بما سلفَ له معه من الاستجابة، وتنبيه على أنَّ المدعوَّ له وإن لم يكن معتاداً فإجابتُه معتادة، وأنَّه تعالى عوَّده بالإجابة وأطمَعَه فيها، ومن حقِّ الكريم أن لا يُخَيِّبَ من أطمَعَه(2) .
          وعن بعضهم أنَّ محتاجاً سأله فقال: أنا الذي أحسنتَ إلي وقت كذا، فقال: مرحباً بمن توسَّل بنا إلينا، وقضى حاجته. قال الشَّاعر:
أَيَا جُوْدَ مَعْنٍ نَاجِ مَعْناً بِحَاجَتِي                     وَمَالِي إِلَى مَعْنٍ سِوَاكَ دَلِيلُ
          {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم:5] وهم الذين يلونه في النَّسب، والمراد بنو عمِّه والعصبة، وكانوا شرارَ بني إسرائيل فخافهم على الدِّين أن يغيِّروه ويبدِّلوه، وأن لا يُحْسِنوا الخلافةَ على أمَّته، فطلبَ عَقِباً من صُلبه صالحاً يقتدى به في إحياء الدِّين / وترتسم مراسمه فيه.
          {مِنْ وَرَائِي} [مريم:5] من بعد مَوتي، وهو لا يتعلَّق بخِفْتُ، لفساد المعنى؛ لأنَّ الخوفَ ثابتٌ له في الحال لا بعد موتهِ، ولكن بمحذوف وهو المضاف؛ أي: خفتُ فعل الموالي من بعد مَوتي، وهو تبديلُهم وسوُء خلافتهم، أو بمعنى الولاية في الموالي؛ أي: خِفْتُ الذين يلون الأمر من بعد مَوتي، وقرأ عثمان ومحمَّد بن علي وعلي بن الحسين: {خفَّتِ المواليْ من ورائي}، وهذا على معنيين: أحدهما: أن يكون ورائي بمعنى: خلفي، فيتعلق الظَّرف بالموالي؛ أي: قلُّوا وعَجِزُوا عن إقامة أمر الدِّين فسأل ربه تقويتَهم ومظاهَرَتهم بوليِّ يَرْزُقُه.
          والثَّاني: أن يكون بمعنى قدامي فيتعلَّق بخِفْت، ويريد أنَّهم خَفُّوا قدَّامه ودَرَجوا؛ أي: مضوا ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضاد، والله تعالى أعلم.
          {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} لا تلدُ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} فإنَّ مثله لا يُرْجَى إلَّا من فَضْلِك، وكمالِ قُدْرتكِ فإني وامرأتي لا نصلحُ للولادة. وقال صاحب «الكشَّاف»: هو تأكيدٌ لكونه ولياً مرضياً بكونه مضافاً إلى الله، وصادراً من عنده وإلَّا فهب لي ولياً يرثني كاف.
          {وَلِيّاً} [مريم:5] من صلبي؛ أي: ولداً صالحاً يحملُ أمر الدِّين بعدي {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] صفتان له، وجزمهما أبو عَمرو والكسائي على أنَّهما جواب الدُّعاء، والمراد وراثة النُّبوَّة والشَّرع والعلم، فإنَّ الأنبياء لا يُوْرِثُون المال، وقيل: يرثني الحبورة، فإنَّه كان حَبراً ويرث من آل يعقوب المُلْك، وهو يعقوبُ بن إسحاق ♂.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «فأجابه الله إلى وراثةِ العلم دون المُلْك»، فكلَّمة من للتَّبعيض لا للتَّعدية؛ لأنَّ آل يعقوب لم يكونوا كلُّهم أنبياء ولا علماء، وقيل: للتَّعدية، ويعقوبُ هذا هو يعقوبُ بن ماثان أخو زكريا، وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسلِ سليمان بن داود ♂، وقد اختُلِفَ في نسب زكريا ◙، فقيل: هو زكريا بن آدن بن مسلم بن صدوق بن نخشان بن داود بن / سليمان بن مسلم بن صديقة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن أسابن أفيا بن راجعيم بن سليمان بن داود ♂، كذا ذكره الثَّعلبي، وقال ابن عسَّاكر في «تاريخه»: زكريا بن برخيا، ويقال: زكريا بن آذن... إلى آخره، ويقال: زكريا بن ماثان، وعن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((كان زكريا نجاراً)) انفردَ بإخراجه مسلم.
          {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] مرضياً ترضاهُ قولاً وعملاً {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7] جواب لندائهِ ووعدٌ بإجابته، وإنَّما تولَّى تسميته تشريفاً له {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم:7] لم نسمِّ أحداً بيحيى قبله، وهذا شاهدٌ على أنَّ الأساميَ الشَّنُعَ الغريبةَ جديرةٌ بالأثرةِ، وفي مثل هذه التَّسمية تنويه للمسمَّى، وإيَّاها كانتِ العربُ تنتحي في التَّسمية؛ لكونها أنبهُ وأَنْوَهُ وأَنْزَهُ عن النَّبز حتى قال أبو نواس في مدح قوم:
شُنُعِ الْأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ                     حُمْرٍ تَمَسُّ الْأَرْضَ بِالْهُدُبِ
          وقيل مَثَلاً وشَبيهاً عن مجاهد كقوله: هل تعلم له سميَّا، وإنما قيل للمِثْل سَمِيّ لأنَّ كل متشاكلين يسمَّى كلُّ واحد منهما باسم المثل والشَّبيه والشَّكل والنَّظير، فكلُّ واحدٍ منهما سَمِّيٌّ لصاحبه، وقد فسَّره به البخاري رواية عن ابن عبَّاس ☻ كما سيجيءُ، ونحو يحيى في أسمائهم: يَعْمر ويَعِيش إن كانت التَّسمية عربية، وقد سَمُّوا بـ: يموت أيضاً، وهو يموتُ بنُ المُزْرِع من المحدِّثين، وقيل: سمِّي به؛ لأنَّ الله أحيى به عَقْرَ أمِّه، فحَيِيَ به رَحِمُها، وكذا روي عن ابن عبَّاس رض الله عنهما، وقال قتادة: لأنَّ الله تعالى أحيى قلبه بالإيمان والنبوَّة، وقيل: أحياهُ بالطَّاعة حتَّى لم يعص أصلاً ولم يهمَّ بمعصية، وأمَّا كونه لا مثل له، فقيل: لأنَّه ولد بين شيخ فانٍ وعجوز عاقرٍ، وأنَّه كان حَصوراً؛ أي: مبالغاً في حَصْر النَّفس عن الشَّهوات والملاهي.
          وقال القاضي: الأظهر أنَّه أعجمي، وقال الزَّمخشري: إن كان يحيى أعجميًّا، وهو الظَّاهر فمَنْعُ صَرْفِه للتَّعريف والعُجْمة / كموسى وعيسى، وإن كان عربيًّا فللتَّعريف ووزن الفعل كيَعمر، واسم أم يحيى ◙: إيشاع بنت فاقوذا أخت حنَّة أمِّ مريم، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
          وقال ابنُ إسحاق: كان زكريَّا وابنُه يحيى ♂ آخِرُ من بُعِثَ في بني إسرائيل قَبْل عيسى ◙ من أنبيائهم.
          {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ} [مريم:8] أي: من أين يكون {لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8] أي: جَسَاوَةً ويبسَاً في المفاصل والعظام كالعود القاحل اليابس، يقال: عَتا العود وعَسَا، وقوله: {مِنَ الْكِبَرِ} أي: من أجل الكبر، والطَّعن في السنِّ العالية، أو بلغتُ من مدارج الكِبَر ومراتبه ما يُسَمَّى عتيا، والمعنى: وكانت امرأتي على صفة العَقْرِ حين أنا شاب وكهلٌ، فما رزقت الولد لاختلال أحد السَّببين أفحين اختل السَّببان جميعاً أُرْزَقه؟ فإن قيل: لِمَ طلب أولاً وهو وامرأته على صفة العِتِيِّ والعَقْرِ فلمَّا أُسْعِفَ بِطَلَبه اسْتَبْعدَه واسْتَعْجَبَ؟
          فالجواب: أنَّ ذلك ليجاب بما أجيب به فيزداد المؤمنون إيقاناً ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا ◙ أولاً وآخراً كان على منهاجٍ واحدٍ في أنَّ الله غنيٌّ عن الأسباب، وأن المؤثِّر فيه كمالُ قدرته، وأنَّ الوسائط عند التَّحقيق ملغاةٌ، قرأه حمزة والكسائي بضم العين من غير إتباع.
          {قَالَ} [مريم:9] أي: الله أو المَلَك المُبَلِّغُ للبشارة تصديقاً له {كَذَلِكَ} الكاف رفع؛ أي: الأمر كذلك، ثمَّ ابتدأ {قَالَ رَبُّكَ} أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسِّره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:9] ونحوه: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66]، ويؤيِّد الأول قراءة الحسن: {وهو عليَّ هين}؛ أي: الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون عليَّ بأن أردَّ عليك قوَّتك حتى تقوم للجِماعِ، وأفتق رحم امرأتك، أو كما وعدت وهو عليَّ هين لا أحتاج فيما أريدُ أن أفعلَه إلى الأسباب، ومفعول قال الثاني محذوف.
          {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} أي: أوجدتُك / من قبل يحيى {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] بل كنت معدوماً صرفاً، وفيه دليلٌ على أنَّ المعدوم ليس بشيءٍ، أو ليسَ شيئاً يعتدُّ به، فافهم {قَالَ} أي: زكريا ◙ {رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً} [مريم:10] أي: اجعل لي علامةً أعلمُ بها وقوعَ ما بشَّرتني به من الحَبَل، وحُصُولِ العُلُوق، وذلك لأنَّ العُلُوق لا يظهرُ في أوَّل الأمر، وإنَّما طلب ذلك لثلاث فوائد: المَسَرَّة والبَشَاشة بوصول العطيَّة المبشَّر بها، وازديادِ العبادةِ شكراً لله تعالى على إِنعامِهِ، وزوال مشقَّة الانتظار إلى ظهورِ أمارات العُلوق وعلائمهِ.
          {قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10] نصب على الحال من الضَّمير في {تُكَلِّمَ} أي: قال علامتُك: أن تُمنع الكلامَ فلا تطيقه، وأنت سوي الخَلْق سَلِيمَ الجوارح ما بك من خَرَسٍ ولا بكمٍ، وإنَّما ذكر اللَّيالي هنا، والأيَّام في آل عمران للدَّلالة على أنَّه استمرَّ عليه المنع من كلام النَّاس والتجرُّد للذِّكر والشُّكر ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ، وقيل: الحكمةُ في المنع عن الكلام في هذه الأيَّام هو التَّأديب من الله تعالى لتعجُّبه من كينونة الولد في كبره، وعقرِ امرأته وتنبيه له من الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم:11] من المصلَّى، أو من الغرفة كان النَّاس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتحَ لهم الباب فيدخلون ويصلُّون؛ إذ خرج عليهم متغيَّر اللَّون فأنكروه، فقالوا له: يا زكريا ما لك؟ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: فأومئ إليهم؛ أي: أشار بيده ورأسه، قاله مجاهد، ويشهدُ له إلَّا رمزاً.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «كتب لهم على الأرض»، وقيل: كتب إليهم في كتاب {أَنْ سَبِّحُوا} أي: صلُّوا، أو نزِّهوا ربكم {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:11] وأن هي المفسرة. وروي: أنَّ هذا كان في صبيحة اللَّيلة التي حَمَلْت امرأتُه، والمراد طرفا النَّهار، ولعلَّه كان مأموراً بأن يسبِّح ويأمر قومه بأن يُوافقوه {يَا يَحْيَى} [مريم:12] على تقدير القول؛ أي: فوهب له يحيى، وقال له: يا يحيى {خُذِ الْكِتَابَ} أي: التَّوراة {بِقُوَّةٍ} بجدٍّ واستظهار بالتَّوفيق والتَّأييد، وكان مأموراً بالتمسُّك بالتَّوراة {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12] أي: الحكمة والفقه في الدِّين وفهم التَّوراة، روي عن ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: دعاه الصِّبيان إلى اللَّعِب فقال: ما لِلَّعِبِ خُلِقْنا.
          رُوي عن الضَّحاك: وقال مَعمر: الحُكْمُ: العقل، وقيل: النبوَّة؛ لأنَّ الله أَحْكَمَ عقلَه في صِباه واستنبأه وأوحى إليه، وهو ابنُ سبع سنين، كما روي عن ابن عبَّاس ☻ عن النَّبي صلعم . وعن قتادة ومقاتل: ثلاث سنين، وكان ذلك معجزة له / {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا}[مريم:13] قال الزجَّاج: وآتيناه حناناً؛ أي: رحمة منَّا عليه، وحنَّ في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرَّأفة، وقيل لله: حنان، كما قيل: رحيم على الاستعارة، أو رحمةً لأبويه وغيرهما وتعطُّفاً وشفقة في قلبه {وَزَكَاةً} وطهارة من الذُّنوب، أو صدقة؛ أي: تصدَّق الله به على أبويه، أو مكَّنه ووفَّقه للتصدُّق على النَّاس؛ أي: يتعطَّف ويتصدَّق عليهم، وقيل: زيادة في الخير على ما وصف، وقيل: عملاً صالحاً {وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم:13] مخلصاً مطيعاً متجنِّباً عن المعاصي {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} [مريم:14] أي: وباراً بهما، لطيفاً محسناً إليهما {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً} متكبِّراً {عَصِيّاً} [مريم:14] عاقاً، أو عاصياً لربِّه {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15] ؛ أي: وسلام مِن اللهِ عليه يوم وُلِدَ من أن يناله الشَّيطان بما ينال به بني آدم، ويوم يموت من عذاب القبر، ويوم يُبْعث حيًّا من عذاب النَّار وهول القيامة؛ سلَّم الله عليه في هذه الأحوال. قال ابن عُيينة: إنها أوحشُ المواطن.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلاً) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] مِثْلاً، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال: «هل تعلمُ له مثلاً، أو شبهاً».
          ومن طريق سماك بن حَرْبٍ، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم:7] قال: «لم يُسَمِّ يحيى قبلَه غيُره»، أخرجه الحاكم في «المستدرك».
          (يُقَالُ: رَضِيّاً: مَرْضِيّاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] وفسَّره بقوله: مرضياً، حكاه الطَّبري، قال: مرضياً ترضاهُ أنت وعبادك (عُتِيّاً: عَصِيّاً عَتَا يَعْتُو) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8] وفسَّره بقوله: عصيا، وذكره بالصاد المهملة، والصَّواب: بالسين المهملة، وروى الطَّبري بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☺ قال: «ما أدري أكان رسول الله صلعم يقرأ عُتِيّاً، أو عُسِيّاً»، فقال: قرأ مجاهد ▬عُسِيّاً↨ بالسين وقال الجوهري: عتا الشَّيخ يعتو عتياً، بضم العين وكسرها: كَبِر وولى.
          وقال الأصمعيُّ: عَسَا الشَّيخ يَعْسو عُسِيّاً: / وَلَّى وكَبِرَ، مثل: عتا، وقال: العُتوُّ: نحولُ العَظْم، ويقال: مَلْكٌ عاتٍ إذا كان قاسيَ القلب غيرَ ليِّنٍ. وعن أبي عبيدة في قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} كل مُبَالِغٍ من كِبْرٍ، أو كُفْرٍ، أو فسادٍ فقد عَتا يَعْتو عَتواً، وأشار بقوله: عَتا يَعْتو إلى أنَّه من باب: غزا يغزو.
          ({قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8] إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}) أي: اقرأ إلى قوله: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10] وقد مرَّ تفسير هذه الآيات (يُقَالُ: صَحِيحاً) هو إشارة إلى تفسير قوله: {سَوِيّاً} هو قولُ عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم، أخرجه ابنُ أبي حاتم عنه، قال في قوله تعالى: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}[مريم:10] وأنت صحيحٌ فحَبسَ لسانَه، وكان لا يستطيعُ أن يتكلَّم، وهو يقرأ التَّوراة ويُسَبِّح ولا يَستطيع أن يُكَلِّم النَّاس. وأخرج من طريق أبي عبد الرَّحمن السُّلمي، قال: اعتُقِلَ لسانُه من غيرِ مَرَضٍ.
          ({فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} {فَأَوْحَى} فَأَشَارَ) هو قول محمَّد بن كعب ومجاهد وغير واحدٍ، أخرجه ابنُ أبي حاتم عنهم ({يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} إِلَى: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:11-15]) وقد مرَّ تفسير هذه الآيات أيضاً ({حَفِيّاً}[مريم:47]: لَطِيفاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وفسَّره بقوله: لطيفاً، وهو قول ابن عبَّاس ☻ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، وقال أبو عبيدة: فيه؛ أي: محتفياً، يقال: تحفَّيت بفلان.
          ({عَاقِراً} الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم:5] وقال: الذَّكر والأنثى سواء. قال أبو عبيدة: العاقر: التي لا تلدُ، والعاقر: الذي لا يلد. قال عامر بن الطُّفيل:
لَبِئسَ الفَتَى أنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِراً                     جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مُحْضَرِ
          وقال أيضاً: لفظ الذَّكر فيه مثلُ لفظ الأنثى.


[1] في هامش الأصل: خفت الصوت خفوتاً.
[2] في هامش الأصل: لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقى.