نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {فلما جاء آل لوط المرسلون. قال إنكم قوم منكرون}

          ░16▒ (باب {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:61-62]) تُنْكِرُكم نفسي وتَنْفِرُ عنكم مخافةَ أن تطرقُوني بشرٍّ، وتمام الآيات {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [الحجر:63] أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناكَ بما يسرك ويشفِي لك من عدوِّك، وهو العذابُ الذي توعدتهم به فيمترون فيه {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} باليقين من عذابهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر:64] فيما أخبرناك {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [الحجر:65] فاذهب بهم في اللَّيل {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} في طائفة من اللَّيل، وقيل: في آخره {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} وكنْ على أَثَرِهم تَذُوْدُهم وتُسْرِع بهم، وتطَّلع على حالهم {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} لينظر ما وراءه، فيرى مِن الهول ما لا يُطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم، أو لا ينصرف أحدُكم ولا يتخلَّف لغرض فيصيبه العذاب، وقيل: نهوا من الالتفات ليوطنوا نفوسَهُم على المهاجرة {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر:65] إلى حيث أمركُم الله بالمضيِّ إليه وهو الشَّام أو مصر، فعدى {وَامْضُوا} إلى حيث و{تُؤْمَرُونَ} إلى ضميره المحذوف على الاتِّساع.
          {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} أي: أوحينا إليه مقضياً، ولذلك عدِّي بإلى {ذَلِكَ الْأَمْرَ} مبهمٌ تفسيرُه {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} ومحله النصب على البدل منه، وفي ذلك تفخيمٌ للأمر وتعظيمٌ، والمعنى أنَّهم يُستأصلون عن آخرهم حتى لا يَبقَى منهم أحد {مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] داخلين في الصُّبح، وهو حالٌ من هؤلاء أو من الضَّمير في مقطوع، وجمْعه للحمل على المعنى، فإن {دَابِرَ هَؤُلَاءِ} [الحجر:66] في معنى مُدْبِري هؤلاء. /
          {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} هي سَدوم {يَسْتَبْشِرُونَ} [الحجر:67] بأضياف لوط طَمَعاً فيهم {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} [الحجر:68] بفضيحةِ ضيفي، فإنَّ من أُسِيء إلى ضَيفه فقد أُسيء إليه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ركوب الفواحش {وَلَا تُخْزُونِ} [الحجر:69] ولا تُذِلُّوني بسببهم من الخِزْي وهو الهوانُ، أو لا تُخْجِلُوني فيهم من الخِزَاية وهو الحياء.
          {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70] عن أن تجيرَ منهم أحداً وتمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرَّضون لكلِّ أحدٍ، وكان لوط يَمْنَعُهم عَنه بقدرِ وسعهِ، أو عن ضيافةِ النَّاس وإنزالهم {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}[الحجر:71] يعني: نساء القوم، فإن نبيَّ كلِّ أمَّة بمنزلة أبيهم من حيث الشَّفقة والتَّربية، أو أراد بهنَّ بناته الصُّلبيَّة فدى بهنَّ أضيافه كرماً وحميةً.
          والمعنى: هؤلاء بناتي تزوجوهنَّ وكانوا يطلبونهنَّ قَبْلُ فلا يجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتهم لا لحرمةِ المسلمات على الكفَّار، فإنَّه شرع طارئ ومبالغة في تناهي خبث ما يرومونهُ حتى إنَّ ذاك أهون منه، أو إظهاراً لِشدَّةِ امتعاضِه من ذلك كي يرقوا له.
          {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71] قضاءُ الوطر أو ما أقول لكم، وقالوا له: لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حاجةٍ، وإنك لتعلمُ ما نريد، وهو إتيانُ الذُّكران وقال: لو أنَّ لي بكم قوَّة؛ أي: لو قويت بنفسي على دفعكُم أو آوي إلى ركنٍ شديدٍ؛ أي: إلى قوي أتمنعُ به عنكم.
          روي أنَّه أغلق بابه دون أضيافهِ وأخذَ يُجادلهم من وراء الباب، فتسوَّروا الجدار، فلمَّا رأت الملائكة ما على لوط من الكَرْب، قالوا: يا لوط، إنَّا رسل ربِّك لن يصلوا إلى إضرارِكَ بإضرارنا، فهوِّن عليك ودَعْنا وإيَّاهم، فخلاهم أن يدخلوا فضربَ جبريل بجناحه وجوهَهم فطمسَ أعينهم وأعماهُم، فخرجوا يقولون: النَّجاء النَّجاء، فإنَّ في بيت لوط سحرة.
          {لَعَمْرُكَ}[الحجر:72] قسم بحياة المخاطب وهو النَّبي صلعم ، وقيل: لوط، قالت الملائكة له ذلك، والتَّقدير: لعمرك قسمي، وهو لغة في العمر يختصُّ به القسم لإيثار الأخف فيه؛ لأنَّه كثير الدُّور على ألسنتهم {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} لفي غوايتهم أو شدَّة غلمتهم التي / أزالت عقولَهم وتمييزَهُم بين خَطَئِهم، والصَّواب الذي يشار به إليهم {يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] يتحيَّرون، فكيف يسمعون نُصحك؟ وقيل: الضَّمير لقريش، والجملة اعتراض {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} يعني: صيحة هائلة مهلكة، وقيل: صيحة جبريل {مُشْرِقِينَ} [الحجر:73] داخلين في وقت شروق الشَّمس {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: عالي المدينة أو قربها سافلها، وصارت منقلبةً بهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] من طينٍ متحجِّرٍ، وأصله: سَنْك كِلْ، فَعُرِّبَ، أو طين عليه كتاب من السِّجل، وقيل: إنَّه من أسجلَه إذا أرسلَه وأَدرَّ عطيَّتَه، والمعنى: مِنْ مِثْلِ الشَّيءِ المُرْسَل، أو مِنْ مِثْلِ العطيَّة في الإدرار، وقيل: أصله من سجِّين؛ أي: من جهنَّم فأبدلت لامه نوناً. وفي سورة هود {مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: نُضِّدَ مُعَداً لعذابهم، أو نُضِّد في الإرسال بِتَتَابُعِ بعضِه بعضاً كقِطار الأمطار، أو نُضِّدَ بعضُه على بَعضٍ وأُلْصِقَ به.
          {مُسَوَّمَةً} [هود:83] معلَّمة للعذاب، وقيل: معلَّمة ببياض وحمرة، أو بسيماء تتميَّز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يُرمي به {عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] في خزائنه، روي أنَّ جبريل ◙ أدخل جناحه تحت مَدائنهم، ورفعها إلى السَّماء حتى سَمِعَ أهل السَّماء نباح الكلاب وصياح الدِّيكة، ثمَّ قَلَبَها عليهم، وكان حقُّ الكلام: فجعلوا عاليها سافلها، فأسندَ إلى نفسه من حيث إنَّه المُسَبِّبُ تعظيماً للأمر.
          {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] المتفكِّرين المتفرِّسين الذين يتثبَّتون في نظرهم حتى يَعْرِفُوا حقيقة الشَّيء بسَمْته {وَإِنَّهَا} أي: وإنَّ المدينة أو القرى {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76] ثابتٍ يسلُكه الناسُ ويَرون آثارَها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:77] بالله ورسوله.
          ({بِرُكْنِهِ} [الذاريات:39] بِمَنْ مَعَهُ لأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:39] والآية في سورة الذَّاريات وقبله: {وَفِي مُوسَى} عطف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] أو {تَرَكْنَا فِيهَا} [الذاريات:37] على معنى: وجعلنا فيها؛ كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً.
          {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات:38] / هو معجزاته كاليد والعصا {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات:39] فسره البخاري بقوله: بمن معه؛ لأنهم قوَّته وهو تفسير الفرَّاء؛ أي: فتولَّى بما كان يتقوَّى به من جنودِهِ وعشيرتهِ ومنعته، والركن: ما رَكَنَ إليه الإنسانُ من مَالٍ وجُنْدٍ وقُوة.
          وقال أبو عبيدة: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} وبجانبه سواء، وهو كنايةٌ عن المبالغة في الإعراض والإنكار؛ أي: فأعرض عن الإيمان به بالكليَّة {وَقَالَ} أي: فرعون {سَاحِرٌ} أي: موسى ساحر {أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:39] كأنَّه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوباً إلى الجنِّ، وتردَّد في أنَّه حصل ذلك باختيارهِ وسعيه أو بغيرهما {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} فأغرقناهُم في البحر {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:39-40] آت بما يلام عليه من الكفرِ والعناد.
          قال الحافظُ العسقلاني: كذا أورد المصنف هذه الجملة في قصَّة لوط ◙، وهو وهم فإنها من قصَّة موسى ◙ كما عرفت، والضَّمير لفرعون، والسَّبب في ذلك أنَّ ذلك وقع تلو قصَّة لوط حيث قال الله تعالى في آخر قصَّة لوط: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات:37] ثمَّ قال عقب ذلك: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ} [الذاريات:38]، أو ذكره استطراد لقوله في قصَّة لوط: {أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وقد فسَّره أبو عبيدة بعشيرة غزيرة منيعة، ومع ذلك لم توجد هذه التَّفاسير التي ذكرناها هنا إلَّا في رواية المُسْتَملي وحدَهُ.
          ({تَرْكَنُوا}: تَمِيلُوا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود:113] وفسره بقوله: تميلوا؛ أي: لا تميلوا إليهم، وهو تفسيرُ أبي عبيدة قال: في قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ألا تعدلوا إليهم، ولا تميلوا، تقول: ركنْتُ إلى قولك؛ أي: أحبَبْتُه وقَبِلْتُه.
          وهذه الآية أيضاً لا تعلُّق لها بقصَّة قَوْمِ لوط، وكأنَّه ذكرها لوجود مادة ركنَ، وهذا من عادة البخاريِّ كما عرفت غير مرَّة يذكر تفسير بعض ألفاظِ القرآن بأدنى مناسبة.
          وقال القاضي: أي: فلا تميلوا إليهم أدنى ميلٍ؛ فإن الرُّكون هو الميل اليسير كالتَّزيي بزيِّهم وتعظيم ذِكْرِهم فتمسُّكم النَّار بركونكُم إليهم، وإذا كان الركونُ إلى من وُجِد منه ما يُسَمَّى ظُلماً، كذلك فما ظنُّك بالركون إلى الظَّالمين الموسومين / بالظُّلم، ثمَّ بالميل إليهم كلَّ الميل، ثمَّ بالظُّلم نفسه والانهماك فيه، ولعلَّ الآية أبلغ ما يتصور في النَّهي عن الظُّلم والتَّهديد عليه.
          (فَأَنْكَرَهُمْ وَنَكِرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] قال أبو عبيدة: نَكِرَهُم وأنكرهُم واحدٌ، وكذلك استنكرهُم وإنكار إبراهيم ◙ غيرُ إنكارِ لوط ◙؛ لأنَّ إبراهيم ◙ أنْكَرَهُم لمّا لم يأكلوا من طعامه حين قرَّبَهُ إليهم، وأمَّا لوط ◙ فأنكرهُم لمجيء قومه إليهم، كذا قال الحافظُ العسقلاني والعيني.
          وفيه أنَّه يحتمل أن يكون إنكار لوط ◙ مخافةَ أن يطرقوه بِشَرٍّ كما مرَّ.
          ({يُهْرَعُونَ}: يُسْرِعُونَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود:78] أي: جاء قوم لوط يُسْرِعُون ويهرولون إليه كأنَّهم يُدْفَعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه، وذلك أنَّ امرأة لوط أخبرتهم بمجيء هؤلاء الملائكة في صورة الرِّجال المرد الحسان {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: ومن قبل هذا الوقت كانوا يعملون الفواحش فتمَّرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يُهْرعون لها مجاهرين.
          ({دَابِرَ}: آخِرَ) أشار إلى ما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر:66] وفسَّره بآخر؛ أي: آخرهم مُسْتَأْصَل ({صَيْحَةً}: هَلَكَةً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29] وفسَّره بالهلكة؛ أي: ما كانت الأخذة أو العقوبة إلَّا هلكة واحدةٌ؛ أي: دفعة واحدة. قال الحافظُ العسقلاني: ولم أعرف وجه دخوله هنا. انتهى، ويمكن أن يكون ذِكْرُه هنا بمناسبة الصَّيحة المذكورة في قصَّة قوم لوط.
          ({لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: لِلنَّاظِرِينَ) وأشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]، وفسَّره بقوله: للنَّاظرين، وهكذا فسَّره الضَّحَّاك. وقال مجاهد: معناه للمتفرِّسين. قال الفرَّاء: للمتفكِّرين. وقال أبو عبيدة: للمتبصِّرين المتثبتين، وهو من توسَّمت الشَّيء: نظرتُ إليه نَظَرَ متثبِّت حتى يعرفَه بسمته.
          ({لَبِسَبِيلٍ}: لَبِطَرِيقٍ) / أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، وفسَّره بالطَّريق، وكذا فسَّره أبو عبيدة والضَّمير في قوله: وإنها، يرجع إلى مدائن قوم لوط، وقيل: إلى الآيات.