نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}

          ░40▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ ╡) وليس في بعض النسخ لفظ: <باب> بل المذكور فيه قول الله تعالى: ({وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:30]) والمخصوص بالمدح محذوفٌ؛ أي: سليمان إذ ما بعده تعليلٌ للمدح، وهو من حاله ({إِنَّهُ أَوَّابٌ}) أي: رجَّاع إلى الله بالتَّوبة، أو إلى التسبيح مُرَجِّعٌ له، وفسره البخاري بقوله: (الأَوَّابُ الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ) أي: الراجع عن الذنوب، والمنيب إلى الله تعالى بكلِّ طاعة (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفٌ على قولِ الله في قوله: ((باب قول الله ╡)) ({هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]) أي: أعطني ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي؛ يعني: من دوني، وقال ابن كَيسان: لا يكون لأحدٍ من بعدي، وقال يزيدُ بن وهب: هب لي ملكاً لا أسلبه في باقي عمري، كما سلبته في ماضي عمري.
          وقال مقاتل بنُ حيان: كان سليمان ◙ مَلِكاً ولكنَّه أراد بقوله: ({لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}) تسخير الرِّياح والطَّير، وقيل: إنما سأل ذلك / ليكون له علماً على المغفرة وقبول التَّوبة حيث أجابَ الله دعاءهُ وردَّ عليه ملكه وزاد فيه، وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {قَالَ} أي: سليمان ◙ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35].
          قال القاضي: أي: لا يتسهل له ولا يكون، ليكون معجزة لي مناسبة لحالي، أو لا ينبغِي لأحدٍ أن يَسْلُبَهُ منِّي بعد هذه السَّلْبَة، أو لا يصحُّ لأحد من بعدي؛ لعظمتهِ، كقولك: لفلانٍ ما ليس لأحدٍ من الفضل والمال، على إرادةِ وصف الملك بالعظمة، لا أن لا يُعْطَى أحدٌ مثله، فيكون مُنَافِسَهُ، وتقديم الاستغفار على الاستيهابِ لمزيد اهتمامهِ بأمر الدِّين ووجوب تقديم ما يَجْعَلُ الدُّعاءَ بِصَدَدِ الإجابة {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] المُعْطِي ما تَشاء لِمَنْ تَشاء.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجر أيضاً عطفاً على ما قبله ({وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102]) قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا} عطفٌ على ما قبلَه، وهو نبذُ فريقٍ من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي: ما ترويهِ وما تخبرُه وتُحَدِّثُه الشَّياطين؛ يعني: نبذوا كتابَ الله واتَّبعوا كتب السِّحر التي كانت تقرؤها، أو تتبعها الشَّياطين من الجنِّ والإنس أو منهما.
          {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: عهدِهِ وعدَّاه بعلى؛ لأنَّه ضمَّن {تَتْلُوا} معنى تكذب، وقال ابنُ جرير: على هنا بمعنى في؛ أي: في ملك سليمان، ونقله عن ابن جُريج وابن إسحاق، والتَّضمين أولى وأحسن كما لا يخفى، وقال السُّدِّي ما ملخَّصه: إنَّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السَّماء فيسمعون من الملائكة ما يكون في الأرض فيأتون الكهنةَ فيخبرون به فتحدثه الكهنةُ للنَّاس فيجدونه كما قالوا، وأَدْخَلَتِ الكهنةُ فيه غيرَه فزادوا مع كلِّ كلمةٍ سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك ودوَّنوا وكانوا يُعَلِّمون الناس، وفشا في بني إسرائيل أنَّ الجنَّ يَعْلَمون الغيب وإن ملك سليمان ◙ تمَّ بهذا العلم، وإنَّه يسخر به الإنس والجن والرِّيح، فبَعث سليمانُ ◙ في الناس فجَمَعَ تلك الكتبَ وجعلها في صندوق ثمَّ دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحدٌ من الشياطين يستطيعُ أن يدنو من الكرسيِّ إلَّا احترق، فلمَّا مات / سليمان ◙ تمثَّل شيطان في صورة آدمي، وأتى نفراً من بني إسرائيل فدلَّهم على تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم الشَّيطان: إنَّ سليمان ◙ كان يضبطُ الإنس والجنَّ والطَّير بهذا السِّحر، ثم طارَ وذهب وفشا في الناس أنَّ سليمان ◙ كان ساحراً، فاتَّخذت بنو إسرائيل الكتبَ فلمَّا جاء النَّبي صلعم خاصموهُ بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا كَفَرُ سُلَيْمَانُ} تكذيباً لهم وعبَّر عن السِّحر بالكفرِ ليدلَّ على أنَّه كُفْرٌ، وأنَّ من كان نبياً كان معصوماً عنه، قاله القاضي وسيأتي ما يتعلَّق بذلك إن شاء الله تعالى.
          {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} باستعمالهِ {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إغواءً وإضلالاً، والجملة حالٌ عن الضَّمير، والمراد بالسِّحر: ما يُستعان في تحصيلهِ بالتَّقرب إلى الشَّيطان ممَّا لا يستقلُّ به الإنسان، وذلك لا يَستَتِبُّ إلَّا لمن يناسبه في الشَّرارة وخُبْثِ النَّفس، فإنَّ التَّناسب شرطٌ في التَّضام والتَّعاونِ، وبهذا يميز السَّاحر عن النَّبي والولي.
          وأمَّا ما يتعجبُ منه كما يفعلُه أصحاب الحِيَلِ بمعونةِ الآلات والأدوية، أو يُريه صاحبُ خفَّة اليد فغير مذمومٍ، وتسميتُه سِحْراً على التَّجوز، أو لما فيه من الدِّقَّة؛ لأنَّه في الأصل لِمَا خَفِيَ سببُه، قاله القاضي.
          وتعقَّبه السِّيوطي في قوله: ((فغيرُ مذموم)) بأنَّه مردودٌ؛ فقد نصَّ النَّووي في «الروضة» وغيرُه على تحريمه.
          وقال ابنُ الكمال: السِّحر مزاولةُ النفوس الخبيثة لأفعال وأقوال يترتب عليها أمور خارقة للعادة، ولا يُرْوَى خلافٌ في كون العملِ به كُفْراً، وعدُّه نوعاً من الكبائر مغايراً للإشراك لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الكفرَ أعمُّ، والإشراكُ نوعٌ منه، وهو في أصل اللَّغة الصَّرف، حكاه الأزهريُّ عن الفرَّاء ويونس، فإطلاقه على ما يفعله أصحاب الحيل بمعونةِ الآلات والأدوية، ويريه صاحبُ خفَّة اليد باعتبار ما فيه من صرف الشَّيء عن جهتهِ حقيقة لغوية. انتهى.
          وقال المولى ابن الشَّيخ: قال الإمام أبو منصور: الأصحُّ أن يقال: إنَّ القول بأنَّ السِّحر على الإطلاق كفرٌ أم لا خطأ، بل السِّحر على نوعين: / نوع هو كفر، وهو ما يتضمَّن إنكار ركنٍ من أركان الإسلام وردِّه، ونوع ليس بكفرٍ، وهو ما يتحقَّق بدون ارتكاب شيءٍ من الكفر.
          ثم السِّحر الذي هو كفر يُقتل به الذكور دون الإناث؛ لأنَّ كفر المسلم ارتدادٌ، والمرتدُّ يُستتاب فإن أصرَّ قُتِلَ وارتدادُ الأنثى لا يُوجب القَتْلَ، ويُقْتَلُ به الذُّكورُ والإناث إذا قَتَلَ بالسِّحر؛ لأنَّه حينئذٍ يصير ساعياً في الأرض بالفسادِ، فيُقْتَلُ كقُطاع الطَّريق. انتهى.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ أيضاً ({وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [سبأ:12]) أي: وسخَّرنا لسليمان الريح، وفي آية أخرى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص:36] أي: لينة حيث أصاب؛ أي: حيث أراد ({غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]) أي: غدوُّ الرِّيح شهر؛ أي: جريها ومسيرهَا في غدوتهِ شهرٌ، وفي روحته شهر، وقرئ: ▬غدوتها↨ ▬وروحتها↨ وقال مجاهد: كان سليمان ◙ يغدو من دمشق فيقيل باصطخر ويروحُ من اصطخر فيقيل بكابل وكان بين اصطخرَ وكابل مسيرة شهرٍ وما بين دمشق واصطخر مسيرة شهر.
          ({وَأَسَلْنَا لَهُ} أَذَبْنَا لَهُ) فسر قوله: {أَسَلْنَا لَهُ} بقوله: أذبنا له، من الإذابةِ، وفسَّر قوله: {عَيْنَ الْقِطْرِ} بقوله: ({عَيْنَ الْقِطْرِ} الْحَدِيدِ) وقال القاضي: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] النُّحاس المذاب أَسَالَه من مَعْدنهِ فنبع منه نبع الماء، ولذلك سمَّاه عيناً وكان ذلك باليمن. وقال قتادة: عين من نحاس كانت باليمن، وقال الأعمش: سالت له سيلان الماء، وقيل: لم يَذُبِ النُّحاسُ لأحدٍ قَبْلَه.
          ({وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}) عطف على الريح؛ أي: وسخَّرنا له من الجنِّ من يعمل بين يديه، و{مِنَ الْجِنِّ} حال متقدِّمة، أو جملة من مبتدأ وخبر ({بِإِذْنِ رَبِّهِ}) بأمره ({وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا}) أي: ومن يعدل منهم عمَّا أَمَرْنا من طاعة سليمان، وقرئ: (يُزِغْ)، من أزاغه.
          ({نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12]) عذاب الآخرة، وقيل: عذاب الدُّنيا، وذلك أنَّ الله تعالى وكَّل بهم ملكاً بيده / سوٌط من نار فمن زاغ عن أمره ضَرَبه ضربةً أحرقته ({يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:13]) قصوراً حصينة ومساكن شريفة سمِّيت بها؛ لأنها يُذَبُّ عنها ويُحَارَبُ عليها (قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ) فسَّر مجاهد المحاريب بقوله: بنيان ما دون القصور، وصله عبدُ بن حميد عنه كذلك.
          وقال أبو عبيدة: المحاريب: جمع مِحْراب، وهو مقدَّم كل بيت، وهو أيضاً المسجد والمصلى.
          ({وَتَمَاثِيلَ}) جمع تمثال، وهي الصُّورة، وكان عملُ الصُّورة في الجدران وغيرِها سائغاً في شريعتهم، وقال القاضي: وصوراً وتماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم، وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ مجدَّد.
          ورُوِيَ أنَّهم عملوا أسدين في أسفل كرسيِّه ونسرين فوقَه، فإذا أرادَ أن يصعدَ بسطَ الأسدان ذراعيهما، وإذا قعدَ أظلَّه النِّسران بأجنحتهما.
          ({وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} كَحِيَاضٍ لِلإِبِلِ) الجفان: جمع جَفْنة، وهي القصَّعة الكبيرة؛ شبِّهت بالجوابي، وشبِّهت الجوابي بالحياض التي يُجْبَى فيها الماء للإبل؛ أي: يُجْمعُ، واحدُها جابية، ويقال: كان يقعدُ على جفنةٍ واحدةٍ من جفان سليمان ◙ ألف رجلٍ يأكلون بين يديه، وهذا التَّفسير لمجاهدٍ، وصله عنه عبد بن حُميد.
          وقال القاضي: وجِفان وصِحاف كالجواب، كالحياض الكبار، جمع جابية من الجباية، وهي من الصفات الغالبة كالدابة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ) الجوبة: موضع ينكشف في الحرَّة وينقطع عنها، وفي «القاموس»: الجوبةُ: الحفرة ({وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}) أي: ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها، ولا يُحَوَّلْنَ ولا يُحَرَّكْنَ من أماكِنِهِنَّ لعِظَمِهنَّ. وفي «تفسير النسفي» وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي.
          وقوله: (إِلَى {الشَّكُورُ}) يعني: اقرأ الآية بتمامها، وهو قوله تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْراً} حكاية عمَّا قيل لهم؛ أي: قلنا اعملوا آل داود شكراً؛ يعني: اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً على نعمه، و{شُكْراً} نصب على أنَّه مفعول له؛ أي: اعملوا له واعبدُوه شكراً لنعمائهِ، وفيه دليلٌ على أنَّ العبادة يجب أن تؤدى على طريق الشُّكر، أو على المصدريَّة؛ لأنَّ اعملوا فيه معنى اشكروا من حيث إنَّ العمل فيه / للمُنعم شكراً له، أو على الحالية؛ أي: شاكرين، ويجوز أن ينتصبَ بما عملوا مفعولاً به، ومعناه: إنَّا سخَّرنا لكم الجنَّ يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة.
          {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: المتوفر على أداء الشُّكر الباذل وسعَه فيه بأن شغلَ به قلبَه ولسانه وجَوارحه اعتقاداً واعترافاً وعملاً أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يُوفي حقَّه؛ لأنَّ توفيقَه للشُّكر نعمة تستدعِي شكراً آخر لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشَّكور: مَنْ يَرَى عَجْزهُ عن الشُّكر.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : الشَّكور: من يشكر على أحواله كلِّها، وقال السُّدي: هو من يشكر على الشُّكر. وعن عمر ☺: أنَّه سَمِعَ رجلاً يقول: اللَّهمَّ اجعلني من القليل، فقال عمر ☺: «ما هذا الدُّعاء»؟ فقال الرجلُ: إنِّي سمعتُ الله يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فأنَّا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر ☺: «كلُّ النَّاسِ أعْلَمُ من عُمَر».
          ({إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ:14] الأَرَضَةُ) ويقال لها: السُّرْفَة ({تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي: حكمنا على سليمان الموت {مَا دَلَّهُمْ} أي: ما دلَّ الجن {عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} وفسَّرها بقوله: الأرضة، وهي دُويبة تأكلُ الخشبَ أُضيفت إلى فعلها، وقرئ: بفتح الراء، وهو تأثُّر الخشبة من فعلها، يقال: أَرَضَتِ الأرَضةُ الخشبةَ أَرْضَاً، فأرضتْ أرضاً مثل: أكلتِ القوادحَ الأسنان أكلاً فأكلتْ أكلاً.
          {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} وفسَّر المِنْسأة بقوله: عصاهُ، من نسأتُ البعيرَ: إذا طردتَه؛ لأنَّها يُطْرَدُ بها، وهو تفسير ابن عباس ☻ ، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
          وقال أبو عبيدة: المِنْسأة: العصا، ثمَّ ذكر تصريفَها، وهي مِفْعَلة من نَسَأتُ: إذا زجرتُ الإبلَ؛ أي: ضربتُها بالمِنْسأة. وقرئ: (مِنْسَاءته) على وزن مِفْعَالة.
          ({فَلَمَّا خَرَّ} إِلَى: {فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}) أي: أقرأ الآية بتمامها، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} أي: سقط سليمان ميتاً {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} جواب لمَّا؛ أي: علمت الجنُّ بعد التباس الأمر عليهم {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] أنهم لو كانوا يعلمون الغيب، كما يزعمون لعَلِمُوا موته حيثما وَقَعَ؛ فلم يلبثوا بعده في العذاب الذي يُهين المعذَّب؛ يعني: ما عملوا مُسَخرين، وهو ميِّت وهم يظنونه حياً حولاً كاملاً إلى أن خرَّ، أو المعنى علم الجنُّ كلُّهم عِلْماً بيناً بعد التباس الأمر على ضَعفتهم وتوهمهم أنَّ كبارهم يصدقون في ادِّعائهم علم الغيب، أو المعنى: عَلِمَ المدَّعون علم الغيب منهم عَجْزهم وأنهم لا يَعْلَمون الغيبَ وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد التَّهكم بهم كالتَّهكم بمدعي الباطل إذا دُحِضَتْ حُجَّتُه وظهرَ إبطاله بقولك: هل تبيَّنتَ أنَّك مُبطلٌ وأنتَ تَعْلَم أنَّه لم يزل لذلك متبيناً.
          أو المعنى: ظهرت الجنُّ وأن بما في حيزه بدل منه؛ أي: ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب، وقرأ ابن مسعود: ▬تبينت الإنس أن الجن لو كانوا↨... إلى آخره، وذلك أنَّ داود ◙ أسَّس بيت المقدس في موضعِ فسطاط موسى ◙، فمات قبل تمامه، فوصى بها / إلى سليمان فاستعملَ الجنَّ فيه فلم يتمَّ بعدُ إذ دنا أجلُه، فأُعْلِمَ به فأرادَ أن يُعْمِيَ عليهم مَوتَه ليُتِمُّوه فدعاهُم فبنوا له صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلِّي متَّكئاً على عصاه، فقُبِضَ روحُه وهو متَّكئ عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرَّ ثمَّ فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقتَ موته فوضعوا الأرضةَ على العصا فأكلت يوماً وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك فوجدوه وقد مات منذ سنة وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مَضين من ملكه.
          ({حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}[ص:32] (و) قبله ({إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} [ص:31]) ظرف لما قبله أعني: {أَوَّاب} [ص:30]، أو {نِعْمَ} [ص:30] والضَّمير لسليمان عند الجمهور ({بِالْعِشِيِّ} [ص:31]) بعد الظُّهر ({الصَّافِنَاتُ} [ص:31]) الصَّافن من الخيل: الذي يقومُ على طرف سنبك (1) يد أو رجلٍ، وهو من الصِّفات المحمودة في الخيل، لا تكاد تكون إلَّا في العِرَاب الخُلَّص، وسيجيء تفسيرهُ من المصنف.
          ({الْجِيَادُ} [ص:31]) جمع جواد، أو جود، وهو الذي يسرعُ في جريه، وقيل: الذي يجودُ في الركضِ، وقيل: جمع جيِّد. روي أنَّه ◙ غزا دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألف فرس، وقيل: أصابها أبوهُ من العمالقةِ فورثها منه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعْرَضُ عليه حتى غربتِ الشمس وغفلَ عن العصر، أو عن وردٍ كان له، فاغتمَّ لما فاته فاستردَّها فعقرها تقرُّباً لله.
          {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32] أصل أحببتُ أن يعدَّى بعلى؛ لأنَّه بمعنى آثرت، لكن لما أُنِيب مَناب أَنَبْتُ بتضمين معناه: عُدِّي تعديتَه، وقيل: بمعنى تقاعدت من قوله:
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذَ أَحَبَّا
          أي: برك، وحبُّ الخيرِ مفعولٌ له، والخيرُ: المال الكثير، والمراد به: الخيلُ التي شغلته. قال الفرَّاء: الخيلُ والخير في كلام العرب بمعنى، والنَّبي صلعم سمَّى زيد الخيل: زيد الخير، ويحتملُ أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخير / بها، قال ◙: ((الخيلُ معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة)).
          وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} قال قتادة: عن صلاة العصر.
          {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: غربت الشمس، شبَّه غروبها بتوارِي المُخَبَّأةِ بِحِجَابِها، وقيل: أي: غابتْ بالحجاب، وهو جبلٌ دون القاف بمسيرةِ سنة؛ تغرب الشَّمس من ورائه، وقيل: معناه حتى استترتْ الشَّمس بما يحجبُها عن الأبصار، وإضمارها من غير ذِكْرٍ لدَلالة العشي عليها، فإنَّه ما بعد الزَّوال.
          {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] الضَّمير للصافنات، وقد مرَّ آنفاً أنَّ سليمان ◙ غزا دمشق ونصيبين فأصاب منها ألف فرس. وقال مقاتل: ورثَ من أبيه داود ◙ ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقةِ، وكان صلى الصلاة الأولى ثمَّ قعدَ على الكرسي، وهي تُعْرضُ عليه فعُرِضَتْ عليه منها تسعمائة.
          وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحةٌ، وقبل أن يُكْمِلَ العَرْضَ غربت الشمس ففاتته صلاةُ العصر، ولم يعلم بذلك فاغتمَّ لذلك فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ}.
          ({فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33]) أي: فأَخَذَ وأقْبَلَ يمسحَ بسوقها وأعناقِها بالسَّيف؛ يقطعها وينحرها تقرُّباً إلى الله تعالى، وطلباً لمرضاتهِ حيث اشتغلَ بها عن طاعتهِ من قولهم: مسح علاوته إذا ضرب عنقه، وقيل: جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حُبَّاً لها، وهذا هو مختار الإمام، ولكنه خلافُ المشهور.
          قال المصنف: (فَطَفِقَ مَسْحاً يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا) وهو قول ابن عبَّاس ☻ ، أخرجه ابنُ جرير من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه وزاد في آخر: حباً لها.
          وروي من طريق الحسن قال: كشف عن عراقيبها وضرب عن أعناقها، قال: لا تشغليني عن عبادة ربي مرَّة أخرى، قال ابنُ جرير: وقول ابن عبَّاس ☻ أقربُ إلى الصَّواب.
          وقوله: يمسح أعراف الخيل وعراقيبها: / تفسير لما قبله، والأعراف: جمع العُرف، بضم العين، وهو شعر عُنق الخيل، والعراقيب: جمع عُرقوب، وهو العصبُ الغليظُ عند عقب الإنسان.
          ({الأَصْفَادُ} الْوَثَاقُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص:38] وفسَّره بالوَثاق، يقال: صَفَدَه؛ أي: شدَّه وأوثقه. روى ابنُ جرير من طريق السُّدي قال: مُقَرَّنين في الأصفاد: أن يُجْمَعَ اليدان إلى العُنق بالأغلال، وقال أبو عبيدة: الأصفادُ: الأغلال واحدُها صَفَد، ويقال للعطاء أيضاً: صَفد، وسيجيءُ تفسير الآية المشتملة على ذلك إن شاء الله تعالى [خ¦4807].
          (وقَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} [ص:31] صَفَنَ الْفَرَسُ: رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:31] أنه من صفن الفرس...إلى آخره، وصله الفريابيُّ من طريقه قال: صفن الفرس...إلى آخره، لكن قال: يديه.
          ووقع في أصل البخاري: ((رجليه))، وصوَّب القاضي عياض ما عند الفريابي. والحاصل أنَّه على ما قال مجاهد: جمع صافنة، مشتقٌّ من صفن الفرس... إلى آخره.
          وقال أبو عُبيدة: الصَّافن: الذي يَجْمَعُ بين يديه ويَثْنِي مقدَّمَ حافرِ إحدى رجليهِ، وقال النَّسفي: الصَّافن من الخيل: القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرَّابعة على طرف الحافر، والصفون لا يكاد يكون في الهُجْنِ، وإنما هو في العِرَابِ الخُلَّص.
          ({الْجِيَادُ} السِّرَاعُ) وصلَه الفريابي من طريق مجاهد أيضاً. والسِّراع، بكسر السين المهملة، جمع سريع، وهو جمع: جواد أو جود، وهو الذي يسرع في جريه، وقيل: جمع جيِّد، كما تقدَّم جمع لها بين وصفين محمودين.
          وروى ابنُ جرير من طريق إبراهيم التَّيمي أنها كانت عشرين فرساً ذوات أجنحة.
          ({جَسَداً} شَيْطَاناً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} وفسَّر قوله: {جَسَداً} بقوله: شيطاناً.
          قال الفريابي: حدَّثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص:34] قال: شيطاناً يقال له: آصف، قال له سليمان ◙: كيف تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرُك فأعطاهُ فنبذَه آصف في البحر فساخَ، فذهب مُلْكُ / سليمان ◙ وقعدَ آصف على كرسيِّه، ومنعه الله نساءَ سليمان، فلم يقربهنَّ فأنكرته أم سليمان، وكان سليمان ◙ يستطعمُ ويعرِّفهم بنفسه فيُكذبوه حتى أعطتْه امرأة حوتاً فطَيَّب بطنَه فوجدَ خاتمَه في بطنهِ فردَّ الله إليه مُلكه، وفرَّ آصف فدخل البحر.
          ورواه ابنُ جرير من وجه آخر عن مجاهد أنَّ اسمه: آصر، آخره راء. ومن طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : أن اسم الجني: صخر. ومن طريق السُّدي كذلك، وأخرج القصة من طريق مطولة، والمشهور أن آصف اسم الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب.
          قال العيني: إنَّه يبعدُ من سليمان أن يناولَ خاتمه لغيرهِ ليراه مع عِلْمِه أنَّ مُلْكَه قائم به، وأنَّه لا يليق أن يقعدَ شيطان على كرسيِّ نبي مرسل أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ غيرُه من الملك العظيم، وأنَّ آصف، بالفاء في آخره، هو معَلِّمُ سليمان وكاتِبُه في أيَّامِ مُلْكِه.
          وقال القاضي في «تفسيره» وأظهرُ ما قيل فيه ما روي مرفوعاً أنَّه قال: لأطوفنَّ اللَّيل على سبعين امرأة تأتي كلَّ واحدةٍ بفارس يجاهدُ في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله، فطافَ عليهنَّ، فلم تحمل إلَّا امرأة جاءتْ بشقِّ، رجلٍ فوالذي نفس محمَّد بيده لو قال: إن شاءَ الله، لجاهدوا فرساناً.
          وقيل: إنَّه غزا صيدون من الجزائر فقتلَ مَلِكَها فأصابَ ابنته جرادة، واصطفاها لنفسه فأحبَّها وكان لا يرقأ دمعها جزعاً على أبيها فأمر الشَّياطين فمثَّلوا لها صورة أبيها، وكان سليمان إذا خرجَ من بيتها كانت هي وجواريها يعبدون هذه الصُّورة ويسجدون لها كعادتهنَّ في مُلْكِه حتى أتى على ذلك أربعون يوماً، / وبلغ ذلك آصف بن برخيا، فعتبَ على سليمان بسببِ ذلك فعندَ ذلك سقط الخاتمُ من يده وكان كلَّما أعاده يسقط، فقال له آصف: إنَّك مفتون ففرَّ إلى الله تائباً من ذلك، وأنا أقومُ مقامك وأسير في عيالك وأهل بيتك بسيرك إلى أن يتوبَ الله عليك، ويردَّك إلى مُلكك ففرَّ سليمان ◙ هارباً إلى الله تعالى.
          ويُروى أنَّه كَسَرَ الصُّورةَ وضربَ المرأة وخرجَ إلى الفلاة باكياً متضرِّعاً، وأخذَ آصفُ الخاتمَ فوضعَه في يدهِ فثبتَ وغاب سليمان ◙ مدَّة أربعين يوماً، ثمَّ إنَّ الله تعالى لما قبل توبتَه رجعَ إلى منزله فردَّ الله إليه مُلكه وأعادَ الخاتم في يده.
          ويروى: أنَّه كانت له أم ولدٍ اسمها أمينة إذا دخل للطَّهارة أعطاها خاتمهُ وكان ملكه فيه فأعطاها يوماً فتمثَّل لها بصورتهِ شيطان اسمه: صخر، وأخذ الخاتم فتختَّم به وجلس على كرسيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفذَ حُكمه في كلِّ شيءٍ إلَّا في نسائه، وغير سليمان ◙ عن هيئته فأتاها لطلب الخاتم فطردته، فعرف أنَّ الخطيئة قد أدركتْه، فكان يدورُ على البيوت يتكفَّف حتى مضى أربعون يوماً عدد ما عُبِدَتِ الصُّورة في بيته فطارَ الشَّيطان وقذفَ الخاتم في البحر فابتلعتْه سمكةٌ فوقعت في يدهِ فبقرَ بطنها فوجد الخاتم فتختَّم به وخر ساجداً وعاد إليه الملك، فعلى هذا، الجَسَدُ: صَخْرُ سُمِّي به، وهو جسمٌ لا روح فيه؛ لأنَّه كان متمثِّلاً بما لم يكن كذلك، والخطيئة: تغافُلُه عن حال أهلهِ؛ لأنَّ اتِّخاذ التَّماثيل كان جائزاً حينئذٍ، وسجودُ الصُّورةِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لا يَضُرَّه.
          وقيل: المراد من الجسد ابنه، وذلك أنَّه لما ولد له ولد قالت الشَّياطين: نقتلُه وإلَّا لا نعيش معه بعده؛ لأنَّه لا ينفكُّ من تسخيرنا أيضاً، ولمّا عَلِمَ سليمان بذلك أمر السَّحاب حتى حمل ابنه، وغذي في السَّحاب خوفاً من مضرَّة الشيطان، فعاتبه الله لذلك إذ لم يتوكَّل على الله، ومات الولدُ فألقي ميتاً / على كرسيهِ فهو الجسد الذي قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص:34].
          قال العيني: وهذا هو الأنسبُ والأليق.
          فائدة: وكان الخاتم من ياقوتة خضراء، أتاهُ بها جبريلُ ◙ من الجنَّة مكتوبٌ عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو الخاتمُ الذي ألبسه الله تعالى آدم ◙ في الجنَّة.
          {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] قد مرَّ تفسيره فيما سبق في هذه الترجمة بذاتها.
          ({رُخَاءً} طَيِّبَةً {حَيْثُ أَصَابَ} حَيْثُ شَاءَ) أشار إلى ما في قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] وفسر قوله: {رُخَاءً} بقوله: طيِّبة، ويروى: <طيباً> بالتذكير، وهي رواية الكُشْمِيْهَني، وفسر قوله: {حَيْثُ أَصَابَ} بقوله: حيث شاء، وهي لغة حمير، وقد وصل الفريابي التَّفسيرين المذكورين من طريق مجاهد المذكور.
          قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيْحَ} أي: فذلَّلناها لطاعتهِ إجابة لدعوته حيث قال: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} ليِّنة من الرَّخاوة لا تزعزع؛ أي: لا تحرك، أو لا تخالف إرادته كالمأمورِ المنقاد، فقد يُعَبَّر عن الانقياد باللِّين يقال: فلان ليِّن الجانب. وفي آية أخرى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء:81] ؛ أي: شديدة الهبوب من حيث إنَّها تَبْعُدُ بكرسيِّه في مدَّة يسيرة كما قال: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] وكانت رخاء في نفسها طيبة. وقيل: كانت رخاء تارةً وعاصفةً أخرى بحسب إرادتهِ.
          {حَيْثُ أَصَابَ} أراد من قولهم: أصاب: الصواب، فأخطأ الجواب {وَالشَّيَاطِينَ} عطف على الريح {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37] بدل منه قال تعالى في آية أخرى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء:82]؛ أي: في البحارِ ويُخْرِجون من نفائسهِ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82] ويتجاوزونَ ذلك إلى أعمال أُخر كبناء المدن والقصور، واختراعِ الصَّنائع الغريبة من المحاريب والتَّماثيل.
          {وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص:38] عطف على {كُلّ} [ص:37] كأنَّه فصل الشياطين إلى: عَمَلَةٍ استعملهم في الأعمال الشَّاقة كالبِنَاء والغَوْص، ومَرَدَةٍ قَرَنَ بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسل؛ ليكفوا عن الشَّرِّ، ولعلَّ أجسامَهم شفافةٌ صلبة فلا تُرى ويمكن تَقييدها.
          هذا، والأقرب أنَّ المرادَ تمثيلُ كفِّهم عن الشُّرور بالإقران في الصفد، وهو القيدُ وسمِّي به العطاء؛ لأنَّه يرتبطُ بالمنعَم عليه وفرَّقوا بين فعليهما، فقالوا: صَفَّده: قيَّده، وأصْفدَه: أعطاه، عكس: وَعَد وأوعد، / وفي ذلك نكتةٌ لطيفةٌ، وهي أنَّ زيادة المبنى تدلُّ على زيادة المعنى، وقلَّته على قلَّته؛ ففي تقليل حروف الوعدِ إشارة إلى أنه ينبغي تقليلُ زمنه؛ لأنَّ أهنأ البرِّ عاجلُه، بخلاف الإيعاد فإن الذي ينبغي فيه هو التَّنفيس والتأخير، بل قيل: الخلف عن الوعيد كرمٌ، ويمكن مثل ذلك الاعتبار في الصَّفد والأصفاد؛ فإن المناسب لجانب المضرَّة هو التَّقليل بخلاف جانب النَّفع، والله أعلم.
          ({فَامْنُنْ} أَعْطِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِغَيْرِ حَرَجٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] وفسَّر قوله: {فَامْنُنْ} بقوله: أعط، والعرب تقول: مَنَّ عليَّ برغيفٍ؛ أي: أَعْطَانِيه، وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بقوله: بغير حَرَجٍ، وقد وصلَه الفريابيُّ من طريق مجاهد كذلك، وقال أبو عبيدة في قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير ثوابٍ ولا جزاء، أو بغير مِنَّة ولا قلَّة، قال الله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا} أي: هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة والتَّسلط على ما لم يسلِّط به غيرك عطاؤنا.
          {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} فأعط مَنْ شِئْتَ وامْنَعْ مَن شئت {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من المستكن في الأمر؛ أي: غير محاسب على منِّه وإمساكه؛ لتفويض التَّصرف فيه إليك، أو من العطاء، أو صلة له وما بينهما اعتراضٌ والمعنى: عطاء جمٌّ لا يكادُ يمكن حصره، وقيل: الإشارة إلى تسخير الشَّياطين، والمراد بالمنِّ والإمساك إطلاقهم وإبقاؤهم في القيد.
          وقال الحسنُ البصري: إنَّ الله لم يُعط أحداً ما أعطاهُ إلَّا جعل فيه حساباً إلَّا سليمان ◙ فإنَّ الله تعالى أعطاهُ عطاء هنيئاً، فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: إن أعطى أُجِر وإن لم يُعْطِ لم يكن عَلَيه تَبِعَة.
          وقال مقاتل: هو في أمر الشَّياطين؛ أي: حلَّ مَن شئت منهم وأَوثق من شئت في وثاقك، ولا تَبِعَة عليك فيما تتعاطاهُ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} في الآخرة مع ما له من المُلك العظيم في الدنيا {وَحُسْنَ مَآَبٍ} [ص:40] هو الجنَّة.


[1] في هامش الأصل: السنبك: طرف مقدم الحافر.