نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله عز وجل: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر}

          ░6م▒ (وَقَوْلِ اللهِ ╡) بالجر عطفاً على مدخول الباب، وفي بعض الأصول: <باب قول الله ╡> بذكر الباب ({وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ}) وهو عطف على قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5-6] بالواقعة المجاوزة للحدِّ في الشِّدة، وهي الصَّيحة، أو الرَّجفة؛ لتكذيبهم بالقارعة؛ أي: بالحالة التي تَقْرَعُ الناس بالإفزاع، والأَجْرَامَ بالانْفِطار والانْتِشار.
          (شَدِيدَةٍ) تفسير للصرصر؛ أي: شديدَةِ الصَّوتِ، لها صرصرة، / أو شديدة البردِ من الصَّر، بالفتح، كأنها التي كُرِّر فيها البرد وكثُر فهي تحرق بشدَّة بردها، وتفسير الصَّرصر بالشِّديدة هو تفسير أبي عبيدة في ((المجاز)).
          ({عَاتِيَةٍ}) من عتا عتواً: إذا جاوز الحدَّ في الشَّيء، ومنه العاتي، وهو الَّذي جاوز الحدَّ في الاستكبار (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) أي: سفيان بن عُيينة في تفسير قوله {عَاتِيَةٍ}: (عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ) بضم الخاء جمع خازن، وهم الملائكة الموكلون بالرِّيح؛ يعني: عتت عليهم فلم تُطِعْهم، وجاوزت المقدار، وقيل: عتتْ على خُزَّانِها فخرجتْ بلا كَيْلٍ ولا وَزْنٍ.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : قال رسول الله صلعم : ((ما أرسلَ الله تعالى نسمةً من ريحٍ إلَّا بمكيالٍ، ولا قَطْرةٍ من مَطَرٍ إلَّا بمكيال، إلَّا يوم عادٍ ويوم نوحٍ طغت على الخزَّان، فلم يكن لهم عليها سبيل)).
          وفي رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن ابن عُيينة، عن غير واحدٍ في قوله {عَاتِيَةٍ} قال: عتت على الخزَّان، وما خرجَ منها إلَّا مقدار الخاتم. وجاء نحوه عن عليٍّ ☺، أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: «لم ينزل الله شيئاً من الريح إلَّا بوزنٍ على يدي ملك إلَّا يوم عادٍ، فإنَّه أذن لها دون الخُزَّان، فعتتْ على الخزَّان».
          ({سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} [الحاقة:7]) أي: سلَّطها عليهم وأدامها ({سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:7] مُتَتَابِعَةً) فسَّر البُخاري قوله: {حُسُوماً} بقوله: مُتتابعة، وكذا فسَّره أبو عبيدة قال: أي: ولاء متتابعة على أنَّه جمع حاسم، من حسمتُ الدَّابة: إذا تابعتَ بين كيِّها على الدَّاء مرَّةً بعد أُخرى حتَّى تنحسمَ. وقال الضَّحاك: كاملةً لم تفترْ عنهم حتى أفنتهُم. وقال عطيَّة: شؤماً كأنها حسمتْ عنهم كلَّ خيرٍ واستأصلته.
          وقال الخليل: قاطعات قطعتْ دابرهم، والحسمُ: القطعُ والمنع، ومنه حسم الرَّضاع. وقال النَّضر بنُ شميل: حسمهم فقطعَهم، فانتصاب {حُسُوماً} [الحاقة:7] على الحال. وقال الزَّمخشري: الحُسُوم إمَّا جمع حاسم كشُهُود جمع شاهد، وإمَّا مصدر كالكَفُور والشَّكور، فإن كان جَمْعاً يكون حالاً بمعنى حاسمة، وإن كان مصدراً يكون منصوباً بفعل مضمر؛ أي: تحسم حسوماً بمعنى تستأصلُ استئصالاً، أو يكون صفة / كقولك: ذات حُسوم، أو يكون مفعولاً له؛ أي: سخَّرها عليهم للاستئصال.
          وقرأ السُّدِّي: ▬حَسُوماً↨ بالفتح حالاً من الرِّيح؛ أي: سخَّرها عليهم مستأصلة. وقيل: هي أيَّام العجوز، وهي آخر الشِّتاء، وذلك أنَّ عجوزاً من عاد توارتْ في سرب؛ أي: بيت في الأرض فانتزعتْهَا الرِّيح في اليوم الثامن فأهلكتْهَا، ويقال لتلك الأيَّام أيضاً: أيَّام العَجُزِ؛ أي: أيام البرد العَجُز.
          ({فَتَرَى الْقَوْمَ}) إن كنت حاضرهم ({فِيهَا}) أي: في مهابها، أو في اللَّيالي والأيام ({صَرْعَى}) موتى جَمْعُ صَريع بمعنى ساقط ({كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] أُصُولُهَا) فسر الأعجاز بالأصول، وقد فسَّره أبو عبيدة أيضاً: بالأصول؛ أي: أصول النَّخل على أنَّ النَّخل مؤنث، وقد يذكَّر أيضاً كما في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]. وقد فسَّره بعضهم: بالجذوع.
          وعلى التَّفسير الأوَّل يُراد به: ما يبقى على المكان بعد قَطْع الجِذْعِ، وهذا كما فسَّره بعضُهم بقوله: هي التي لا رؤوس لها. روي أنَّ الرِّيح كانت تحمل الرَّجل فترفعه في الهواء، ثمَّ تلقيه، فتشدخ رأسَه، فتبقَى جثَّته بلا رأس. وقوله: {خَاوِيَةٍ} بمعنى متآكلة الأجواف؛ لأنَّ الرِّيحَ أخرجتْ ما في بطونهم. شبَّههم بأعجاز نَخْلٍ؛ لعِظَم أجسامِهم. قيل: كان طولهم اثني عشر ذراعاً. وقال أبو حمزة: طول كلِّ رجلٍ منهم كان سبعين ذراعاً. وعن ابن عبَّاس ☻ : «ثمانين ذراعاً». وقال ابنُ الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرُهم ستين ذراعاً. وقال وهبُ بن منبِّه: كان رأسُ أحدهم مثل القبَّة العظيمة، وكانت عين الرَّجل يفرخ فيها السِّباع، وكذلك مناخرهم.
          ({فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]: بَقِيةٍ) فسَّر الباقية: بالبقيَّة إشارةً إلى أنَّ الباقية اسم كالبقيَّة لا وصف، والتاء للنقل إلى الاسميَّة، وهو تفسيرُ أبي عبيدة أيضاً. وقيل: من نَفْسٍ باقية، وقيل: من بقاء، على أنَّه مصدرٌ كالطَّاغية من الطُّغيان والعاقبة.