نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك}

          ░45▒ (باب: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} الآية إِلَى قَوْلِهِ: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}[آل عمران:42-44]) أي: اقرأ / الآية إلى قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قال الله تعالى: {وَإِذَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} إن شئتَ جَعَلْتَه معطوفاً على الظَّرف قبله، وهو قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ}[آل عمران:35] وإن شئت جعلته منصوباً بالبدل، وهذا إخبار من الله تعالى بما خاطبَتْ به الملائكةُ مريمَ، من أمر الله لهم بذلك. قال أهل التَّفسير: المراد بالملائكة هاهنا: جبريل ◙.
          قال الإمام: والقول بأنَّ القائل هو جبريل، وإن كان عدولاً عن الظَّاهر، إلَّا أنه يجب المصير إليه؛ لأنَّ سورة مريم دلَّت على أنَّ المتكلِّم مع مريم هو جبريل ◙، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} هذا الاصطفاء: تقبُّلُها من اسمها ولم تُقْبَلْ قَبْلَها أنثى، وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنَّة عن الكسب {وَطَهَّرَكِ} أي: عمَّا يستقذر من النِّساء {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42] وهذا الاصطفاء: هدايتُها وإرسالُ الملائكة إليها، وتخصيصُها بالكرامة (1) السنيَّة كالولادةِ من غير أبٍ، وتبرئتُها ممَّا قذفتها اليهود بإنطاق الطِّفل، وجعلُها وابنَها آية للعالمين، قال القاضي: كلَّموها شفاهاً كرامة لها.
          ومن [أنكر] الكرامة زَعْمَ أنَّ ذلك كانت معجزةَ زكريا، أو إرهاصاً لنبوَّة عيسى، فإنَّ الإجماع على أنَّه تعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [النحل:43] انتهى، وفيه كلام {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] أُمِرتْ بالصَّلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها، وذلك؛ لأنَّ كل واحد من القنوت، وهو طول القيام والسُّجود والرُّكوع من أركان الصَّلاة، وتسميةُ الشَّيء باسمِ أشرفِ أجزائه مجازٌ مشهورٌ فتكون الأجزاء الثلاثة، وهي: القيام والرُّكوع والسُّجود مجازاً عن الصَّلاة، فيكون مع الرَّاكعين، مجازاً عن المصلِّين، واعتَبر أركانها الثلاثة في جعل الرُّكن مجازاً عن الكلِّ مبالغة في المحافظة على أركانها، وقدَّم السُّجود على الرُّكوع إمَّا لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتَّنبيه على أن الواو لا توجب التَّرتيب، أو ليقترن اركعي / بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلِّين، وقيل: المراد بالقنوت: إدامة الطَّاعة؛ كقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] وبالسُّجود: الصَّلاة لقوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40] وبالرُّكوع: الخضوع والإخبات {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:44] أي: ما ذكرنا من القصص من حديث حنَّة وزكريَّا ويحيى ومريم وعيسى من أخبار الغيب لا يمكنك أن تعلمه إلَّا بالوحي {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران:44] أي: أقداحهم للاقتراع، وقيل: اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التَّوراة تبركاً {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} متعلق بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم؛ أي: يلقونها ليعلموا، أو يقولوا: أيُّهم يكفل مريم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] تنافساً في كفالة مريم. فإن قيل: لِمَ نُفِيَتِ المشاهدةُ، وانتفاؤها معلومٌ بغير شبهة، وترك نفي استماعِ الأَنباءِ من حُفَّاظِها، وهو مَوهوم؟
          فالجواب: أنَّه كان معلوماً عندهم عِلْماً يقينياً أنَّه صلعم ليس من أهل السَّماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلَّا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة فنُفِيتْ على سبيل التهكُّم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنَّه لا سماع له ولا قراءة.
          والحاصل: أنَّ طرقَ العلم منحصرةٌ في المشاهدة والاستماع من أهل العلم، وقراءةِ أسفارهم والوحي، وما عدا الوحي من طرق العلم منتفٍ، فتعيَّن أنه صلعم إنما أخبر بتلك الأنباء بالوحي، وأنَّه نبيٌّ حقاً فيكون ذلك تقرير كونه وحياً وأنَّه نبي حقاً.
          (يُقَالُ: يَكْفُلُ: يَضُمُّ، كَفَلَهَا: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَةً لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا) أشار بها إلى ما في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وإلى قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37-44] قال أبو عبيد في قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} يقال: كَفِلَّها، بفتح الفاء وكسرها (2) ؛ أي: ضَمَّها، وفي قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي: يَضُمُّ، انتهى؛ أي: ضم زكريا / مريم إلى نفسه، وما ذاك إلَّا أنها يتيمة، قاله ابنُ إسحاق. وقال غيره: إنَّ بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك، ولا منافاةَ بين القولين. وقوله: مخففة؛ أي: حال كون كلمة {كَفَلَهَا} بتخفيف الفاء، وهي قراءة أكثر القرَّاء. وقرأ الكوفيون بالتشديد؛ أي: كفَّلها الله زكريا، وفي قراءتهم زكريا بالقصر إلَّا أن أبا بكر راوي عاصم قرأه بالمد وفتح الهمزة.
          قال العيني: وفي قوله: ليس من كفالة الدُّيون وشبهها، نظرٌ؛ لأنَّ في كفالة الدُّيون أيضاً بمعنى الضَّمِّ؛ لأنَّ الكفالة: ضَمُّ الذِّمة إلى الذِّمة في المطالبة.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: بالكرامات.
[2] في هامش الأصل: وبالكسر قرأ بعض التابعين.