نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون} إلى قوله: {مسرف كذاب}

          ░21م▒ (بَابُ {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]) هكذا وقعت في التَّرجمة بغير حديث، فكأنَّه أخلى بياضاً في الأصل ليذكر فيها حديثاً ولم يظفرْ به على شرطه، فبقيت هكذا، ووقع في رواية النَّسفي هذا مضموماً إليه ما في الباب الذي بعده، وهو غيرُ متَّجه. والآية في سورة المُؤمِن. قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} من أقاربه، وقيل: من متعلق بقوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] والرجل قد اختُلِفَ في اسمه، فقيل: هو يوشع بن نون، وبه جزم ابن التِّين، وهو بعيدٌ؛ لأن يوشع من ذرِّية يوسف ◙، ولم يكن من آل فرعون، والصَّحيح أنَّ المؤمن المذكور من آل فرعون.
          وقد استدل الطَّبري بأنه لو كان من بني إسرائيل لم يُصْغِ فرعونُ إلى كلامه ولم يستمع منه، وقيل: اسمه شمعان بالشين المعجمة. قال الدَّارقطني في «المؤتلف»: لا يعرف شمعان، بالشين المعجمة، إلَّا هذا. وقيل: حابوت، قيل: وهو الذي التقطه إذ كان في التَّابوت، وعن الطَّبري: حبر. وقيل: خرقيل، وعليه أكثر العلماء. وعن ابن إسحاق: حبيب، وهو ابنُ عمِّ فرعون، أخرجه عبد بن حُميد.
          وقال مقاتل: كان قبطياً يكتمُ إيمانه من فرعون / مائة سنة، وكان له الملك بعد فرعون، وكان على بقيَّةٍ من دين إبراهيم ◙. وقال ابنُ خالويه: لم يؤمن من أهل مصر إلَّا أربعة: آسية، وحزقيل مؤمن آل فرعون، ومريم بنت لاموس الملك، التي دلت على عظام يوسف ◙، والماشطة.
          {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} أي: أتقصدون قتله، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري {أَنْ يَقُولَ} أي: لأن يقول أو وقت أن يقولَ من غير رؤيةٍ، أو تأمل في أمره {رَبِّيَ اللَّهُ} وحدَه، وهو في الدَّلالة على الحصر، مثل صديقي زيد في كون الطَّرفين معرفة {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} المتكثرة على صدقه من المعجزات والاستدلالات {مِنْ رَبِّكُمْ} أضافه إليهم بعد ذكر البيِّنات احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم إلى الاعتراف به، ثمَّ أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط، فقال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطَّاه وبالُ كذبه، فيحتاج في دفعه إلى قتله {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: فلا أقل من أن يصيبكُم بعضه، وفيه مبالغةٌ في التَّحذير وإظهارٌ للإنْصَافِ وعَدَمِ التَّعَصُّب، ولذلك قدم كونه كاذباً، أو يُصيبكم ما يعدكُم من عذاب الدنيا، وهو بعض مواعيده كأنَّه خوَّفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم.
          {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} بإظهار الفساد في الأرض، كما زعم فرعون {كَذَّابٌ} [غافر:28] احتجاج ثالث ذو وجهين: أحدهما أنَّه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداهُ الله إلى البينات، ولما عضدهُ بتلك المعجزات، وثانيهما: أنَّ من خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعلَّه أراد به المعنى الأول، وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتُهم، وعرض به لفرعون بأنَّه مسرفٌ كذَّاب، لا يهديه الله سبيل الصَّواب وسبيل النَّجاة.