نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا}

          ░8▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]) وتمام الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: أخلص نفسه لله لا يعرف لها ربًّا سواه. وقيل: بذلَ وجهه له في السُّجود، وفي هذا الاستفهام تنبيهٌ على أنَّ ذلك مُنتهى ما تبلغه القوَّة البشرية {وَهُوَ مُحْسِنٌ} عاملٌ للحسنات تارك للسَّيئات {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} المُوافِقةَ لدين الإسلام المتَّفق على صحَّتها {حَنِيفاً} مائلاً عن سائرِ الأديان، وهو حالٌ من المتبع، أو من الملَّة، أو من إبراهيم {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] اصطفاهُ وخصَّصه بكرامةٍ تُشْبِه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمرْ تفخيماً لشأنه، وتنصيصاً على أنَّه الممدوح.
          وإبراهيم بالسِّريانية معناه: أب رحيم؛ لرحمته الأطفال، ولذلك جُعِلَ هو وسارةُ كافِلَين لأطفالِ المؤمنين الذين يموتون إلى يوم القيامة، وسيأتي عن قَريبٍ. وقال الجواليقيُّ: إبراهيمُ إبرهم إبراهم إبراهام.
          والخليل: فعيل بمعنى فاعل، وهو من الخُلَّة، بالضم، وهي الصَّداقة والمحبَّة التي تخلَّلت القلب، فصارت خلِالَه. وهذا صحيحٌ بالنَّسبة إلى ما في قلبِ إبراهيم ◙ من حبّ الله تعالى، وأمَّا إطلاقه في حقِّ الله؛ فعلى سبيلِ المقابلةِ.
          ويقال: الخُلة أصلها: الاصطفاء، وسمي بذلك؛ لأنَّه يوالي ويُعادي في الله، وخُلَّة الله له: نصرُه وجَعْلُه إماماً، / وقيل: هو مشتقٌّ من الخلَّة، بفتح المعجمة، وهي الحاجة، سمِّي بذلك؛ لانقطاعهِ إلى ربه، وقصره حاجته عليه. وقيل: من الخَلَّة بمعنى الخصلة، فإنهما يتوافقان في الخصالِ. وقيل: من الخَلَل فإنَّ كلَّ واحدٍ من الخليلين يسدُّ خَلَلَ الآخر، أو من الخَلِّ بمعنى الطَّريق في الرَّمل، فإنهما يتوافقان في الطَّريقة، والجملةُ استئنافٌ جيءَ بها للترغيب في اتِّباع ملتهِ، والإيذان بأنَّه في نهاية من الحسن، وغاية من كمال البشرِ.
          وقد ذكر ابنُ جرير في «تفسيره» عن بعضهم: إنما سمَّاه الله خَليلاً؛ لأنَّه بعثَ إلى خليلٍ له من أهل الموصل، أو من أهل مصر في أزمة أصابت النَّاس يَمْتَارُ منه، فقال خليله: لو كان إبراهيمُ يريده لنفسهِ لفَعَلْتُ، ولكن إنما يريدُ للأضياف، وقد أصابنَا ما أصابَ الناس، فاجتازَ غلمانُه بطحاءَ لينةً ذاتَ رمالٍ، فملؤوا منها الغَرَائِرَ حَياءً من الناس، فلمَّا أخبروه ساءه الخبر، فغلبتْه عيناهُ فنام، وقامت سارة ♦ إلى غِرَارَةٍ منها، فأخرجت حُوَّارَى، واختبزتْ، فاستيقظ إبراهيم ◙ فاشتمَّ رائحة الخبز، فقال ◙: من أين هذا لكم؟ فقالت ♦: من خليلك المصري، أو الموصلي، فقال: بل من عند خليلي الله جل جلاله، فسمَّاه الله خليلاً. وقيل: إنما سُمِّي خليلاً؛ لشدَّة محبَّته لربِّه ╡، ومحبة ربه له، لما قام له من الطَّاعات التي يُحِبُّها ويرضاها. وقد جاء من طريق جُندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود ♥ عن النَّبي صلعم : ((إنَّ الله اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً)).
          وقال ابنُ أبي حاتم بإسناده إلى عَبْدِ بن عُمَير قال: كان إبراهيم ◙ يضيفُ الناس، فخرج يوماً يلتمسُ إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجعَ إلى داره، فوجدَ فيها رجلاً قائماً، فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذنٍ؟ قال: دخلتُها بإذن ربها، قال: ومن أنت؟ قال: مَلَكُ الموت، أرسلنِي ربي إلى عبدٍ من عبادِهِ أُبَشِّره بأنَّ اللهَ قد اتَّخذه خليلاً، قال: من هو؟ فوالله إنْ أخبرتني به، ثُمَّ كان بِأَقصى البلادِ لأتيتُه، ثمَّ لا أبرحُ له جاراً حتى يفرق بيننا الموتُ، قال: ذلك العبدُ أنت، قال: نعم، فبمَ اتَّخذني ربي / خليلاً؟ قال: إنَّك تُعطي النَّاس ولا تسألهم.
          واختُلِفَ في نَسَبِه: فقيل: إنَّه إبراهيم بن آزر، واسمه: تارَح، بمثناة وراء مفتوحة وآخره حاء مهملة، ابن ناحُور، بنون ومهملة مضمومة، ابن شارُوخ، بمعجمة وراء مضمومة وآخره خاء معجمة، ابن راغو، بغين معجمة، ابن فَالَخ، بفاء ولام مفتوحة بعدها معجمة، ابن عبير. ويقال: عابر، وهو بمهملة وموحدة، ابن شالخ، بمعجمتين، ابن إرفخشد بن سام بن نوح ◙، لا يختلف جمهورُ أهل النَّسب ولا أهل الكتاب في ذلك إلَّا في النُّطق ببعضِ هذه الأسماء. وقيل: هو إبراهيمُ بن تارَح بن ناحُور بن شارُوخ بن راغو بن عابر بن شالخ بن قينان بن إرفخشد بن سام بن نوح، حكاه السُّدي عن أشياخه، لكن قيل: إنَّه أسقط ذِكْرَ قينان من عمود النَّسب بسبب أنَّه كان ساحراً. وقيل: إبراهيم بن أَشْوع بن راغو بن فالخ بن شالخ بن إرفخشد بن سام بن نوح. وقيل: إبراهيم بن آزر بن الناجر بن سارغ بن والغ بن القاسم، الذي قسم الأرض، ابن عبير بن شالخ بن واقد بن فالخ، وهو سام. وقيل: آزر بن صاروح بن راغو بن فالخ بن إرفخشد.
          وقال الثعلبي: كان اسمُ أب إبراهيم ◙ الذي سمَّاه أبوه تارح، فلمَّا صار مع نمروذ قيماً على خزانة آلهته سمَّاه: آزر، وقيل: آزر: اسم صنم. وقال ابنُ إسحاق: آزر لقبٌ له، وعيبٌ به، ومعناه: معوج. وقيل: هو بالقبطية: الشيخ الهرم. وقال الجوهريُّ: آزر: اسم أعجمي. وقال البلاذري عن الشَّرفي بن الفَطَامي: أنَّ معنى آزر: السَّيد المعين. وقيل: آزر وتارح: اسمان عَلَمان له كإسرائيل ويعقوب. وقال وهب: اسمُ أمِّ إبراهيم ◙: نونا بنت كرنبا بن سام بن نوح.
          وقال ابنُ هشام: لم يكن بين نوحٍ وإبراهيم ♂ إلَّا هود وصالح ♂، وكان بين إبراهيم وهود ♂ ستمائة سنة وثلاثون سنة، وبين نوحٍ وإبراهيم ♂ ألف ومائة وثلاثة وأربعون سنة.
          وقال الثَّعلبي: وكان بين مولد إبراهيم وبين الطُّوفان ألف سنة ومائتا سنة / وثلاث وستون سنة. وذلك بعد خلقِ آدم ◙ بثلاثة آلاف سنة، وثلاثمائة سنة وسبع وثلاثين سنة. وكان مولدُ إبراهيم ◙ في زَمَنِ نمروذ بن كنعان، ولكن اختلفوا في أيِّ مكان وُلِدَ، فقيل: ببابل من أرضِ السَّواد مدينة نُمروذ، قاله ابن عبَّاس ☻ .
          وعن مجاهدٍ: بكُوْثَا محلة بكوفة. وعن عكرمة: بالسُّوس. وعن السُّدي: بين البصرة والكوفة. وعن الرَّبيع بن أنس: بكَسْكَر، ثمَّ نقله أبوه إلى كُوْثَا. وعن وهب: بحرَّان، والصَّحيح هو الأول. وقال محمَّد بن سعد في «الطبقات»: كنية إبراهيم ◙: أبو الأضياف، وقد سمَّاه الله بأسامي كثيرة:
          منها: الأواه، والحليم، والمنيب، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]. ومنها: الحنيف، وهو المائل إلى الدين الحقِّ. ومنها: القانتُ والشَّاكر إلى غير ذلك. وهذه أوصاف له في الحقيقة. ومات إبراهيمُ ◙ وهو ابنُ مائتي سنة، وهو الأصحُّ، ويقال: مائة وخمسة وسبعون، قاله الكلبي. وقال مقاتل: مائة وتسعون سنة، ودُفن في المفازة التي في حيرون، وهي الآن تسمَّى بمدينة الخليل.
          (وَقَوْلِهِ) ╡ عطف على قول الله ╡: ({إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل:120]) والآية في أواخر سورة النحل. قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} لكماله، واستجماعهِ فضائل لا تكاد توجد إلَّا متفرِّقة في أشخاص كثيرة كقوله:
وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ                     أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ
          وهو رئيسُ الموحدين، وقدوة المحقِّقين، جادلَ فِرَق المشركين، وأبطلَ مَذاهبهم الزَّائغة بالحججِ الدَّامغة، وقد كان وحده مؤمناً، وكان سائر الناس كفَّاراً {قَانِتاً لِلَّهِ} مطيعاً له قائماً بأمرهِ {حَنِيفاً} مائلاً عن الباطلِ إلى الحقِّ {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] كما زعموا، فإن قريشاً كانوا يزعمون أنَّهم على ملَّة إبراهيم {شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ} ذكر بلفظ القلَّة؛ للتَّنبيه على أنَّه كان لا يخلُّ بشكرِ النِّعم القليلة، فكيف بالكثيرة {اجْتَبَاهُ} للنُّبوة {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:121] في الدَّعوة إلى الله.
          (وَقَوْلِهِ ╡) هو عطف على المجرور أيضاً ({لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]) الأوَّاه: على وزن فعَّال للمبالغة فيمن يقول: آه، وأصله: أوه، بسكون / الواو والهاء.
          ويقال: أوَّه، بفتح الواو مع التشديد، وبعضهم يقول: أوَّاه؛ بالمد والتشديد وفتح الواو وسكون الهاء؛ لتطويلِ الصَّوت بالشِّكاية، ويقال: أَوْيَاه وآوياه. قال القاضي: لكثير التَّأوه، وهو كنايةٌ عن فرطِ ترحُّمه، ورقَّة قلبهِ، حليم: صبورٌ على الأذى. وقيل: معنى كون إبراهيم ◙ أواهاً أنَّه كان كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً، أو ذُكِرَ له شيءُ من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً واستعظاماً.
          (قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ) ضدُّ الميمنة، واسمه: عَمرو بن شرحبيل الهمداني الوادعِي الكوفي، كان فاضلاً عابداً سمع ابن مسعود ☺، وعنه أبو وائل شقيق بن سلمة (الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ) يعني: الأوَّاه. وهذا الأثر وصلَه وكيع في «تفسيره» من طريق أبي إسحاق، عن أبي مَيسرة عَمرو بن شرحبيل قال: الأوَّاه: الرَّحيم بلسان الحبشة.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق ابنِ مسعود بإسناد حسنٍ، قال: الأوَّاه الرَّحيم، ولم يقل بلسان الحبشة.
          ومن طريق عبدِ الله بن شدَّاد، أحدِ كبار التَّابعين قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الأوَّاه؟ قال: ((الخاشعُ المتضرِّع في الدُّعاء)). ومن طريق ابن عبَّاس قال: الأوَّاه الموقن. ومن طريق مجاهد قال: الأوَّاه الحفيظ: الرجل يذنب الذَّنب سراً، ثمَّ يتوب منه سراً. ومن وجه آخر عن مجاهد قال: الأوَّاه المُنِيب: الفقيه الموَقَّق. ومن طريق الشَّعبي قال: الأواه: المُسَبِّح. ومن طريق كعب الأحبار في قوله أوَّاه: كان إذا ذكر النار قال: أوَّاهُ من عذابِ الله. ومن طريق أبي ذرٍّ قال: كان رجلُ يطوفُ بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فقال النَّبي صلعم : ((إنَّه لأواه))، ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أنَّ فيه رجلاً مبهماً.
          وذكر أبو عبيد: أنَّه فعَّال من التَّأوه، ومعناه: متضرِّع مشفق ملازمٌ لطاعة ربِّه. وقيل: هو الكثيرُ البكاء، وقيل: هو الكثير الدُّعاء، وفي الحديث: ((اللَّهمَّ اجعلنِي لكَ مُخْبِتاً أواهاً مُنِيباً)).