نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {يعكفون على أصنام لهم}

          ░29▒ (باب {يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138]) إشارة إلى قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} ذكر تعالى ما أحدثَهُ بنو إسرائيل من الأمور الشَّنيعة بعد أن منَّ الله عليهم بالنِّعم الجسام وأراهُم من الآيات العظام تسليةً لرسول الله صلعم ممَّا رأى منهم، وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبةِ أنفسهم ومراقبة أحوالهم.
          وقد روي أنَّ موسى ◙ عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموا شكراً {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ} فمروا عليهم {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} يقيمون على عبادتها، قيل: كانت تماثيل بقر، وذلك أوَّل شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقةِ الذين أُمِرَ موسى ◙ بقتالهم، وقيل: قوم من الكنعانيين، وقيل: كانوا من لخمٍ.
          وقوله: {يَعْكُفُونَ} من عَكَف يَعْكُف عُكُوفاً، وهو الإقامة على الشَّيء والمكان ولزومهما، يقال: عَكَف يَعْكِف ويعكُف من باب نَصَر وضَرَبَ، وقد قرئ بهما في السَّبعة، / ومنه قيل لمن لازم المسجد وأقام على العبادة فيه: عاكفٌ ومعتكفٌ.
          {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} مثالاً نعبده {كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} يعبدونها، وما كافة للكاف {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] وصفهم بالجهل المطلق وأكَّده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكُبرى عن العقل {إِنَّ هَؤُلَاءِ} [الأعراف:139] إشارة إلى القوم {مُتَبَّرٌ} مكسَّر مدمَّر {مَا هُمْ فِيهِ} يعني: إنَّ الله يهدمُ دينهم الذي هم عليه ويحطِّم أصنامَهم ويجعلها رضاضاً {وَبَاطِلٌ} مضمحلٌّ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139] من عبادتها وإن قصدوا بها التَّقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغَ في هذا الكلام بإيقاع (هؤلاء) اسم إنَّ، والإخبار عمَّا هم عليه بالتَّبار، وعمَّا فعلوا بالبطلان، وتقديمُ الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لأنَّ؛ للتَّنبيه على أنَّ الدَّمار لاحقٌ لهم لما هم عليه لا محالةَ، وأنَّ الإحباط الكلِّيَّ لازبٌ لما مضى عنهم تنفيراً وتحذيراً عمَّا طلبوا.
          {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} أطلبُ لكم معبوداً {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140] والحال أنَّه خصَّكم بنِعَم لم يُعطها غيركم، وفيه تنبيهٌ على سوءِ مقابلتهم حين قابلوا تخصيصَ الله إيَّاهم من أمثالهم بما لم يستحقُّوه تفضلاً بأن قصدوا أن يشركوا به أخسَّ شيءٍ من مخلوقاته.
          واعلم أنَّ المؤلِّف ☼ لم يفسِّر من الآيات إلَّا قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} فقال: ({مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ) فسر قوله: {مُتَبَّرٌ} بقوله: خُسْرَانٌ، ومتبَّر اسم مفعول من التَّتبير، وهو الإهلاكُ، يقال: تبَّره تتبيراً؛ إذا كسره وأهلكهُ، ومنه التَّبار، وهو الهلاكُ. وقال الكرماني: قوله: {مُتَبَّرٌ} أي: خاسرٌ، وقد فسَّر المفعول بمعنى الفاعل، وهو بعيدٌ، وكذلك تفسير البخاري بالمصدر، وتفسيره الموجه: متبَّر: مهلك.
          ({وَلِيُتَبِّرُوا} [الإسراء:7]: يُدَمِّرُوا {مَا عَلَوْا} مَا غَلَبُوا) أشار به إلى مَا في قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:7] وفسَّر قوله: ({لِيُتَبِّرُوا}) بقوله: يُدَمِّروا، من التَّدمير من الدَّمار، وهو الهلاكُ، يقال: دمَّره تَدْميراً ودمَّر عليه بمعنى.
          وفسَّر قوله: ({مَا عَلَوْا}) بقوله: غَلَبُوا، / وذَكَرَ هذا بطريق الاستطراد، ثمَّ إنَّ هذا التَّفسير الذي ذكره البخاري أخرجه الطَّبراني من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ قال في قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} [الأعراف:139] قال: خسران، والخسران، تفسير التَّتبير الذي اشتقَّ منه المتبر، وأمَّا قوله: {وَلِيُتَبِّرُوا} يدمِّروا {مَا عَلَوْا} غلبوا، فقد أخرجه الطَّبري من طريق سعيد، عن قتادة قال في قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:7] ليدمِّروا ما غَلَبوا عليه تدميراً.