نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {إن قارون كان من قوم موسى} الآية

          ░33▒ (باب: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} الآيَةَ [القصص:76]) والآية في أواخر سورة القصص، قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ} هو اسم أعجمي مثل هارون غير منصرف للعلميَّة والعجمة، ولو كان وزنه فاعولاً لانصرف {كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي: من عشيرتهِ، وفي نسبهِ إلى موسى ◙ ثلاثة أقوال:
          أحدها: أنَّه كان ابنَ عمِّه، قاله سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس ☻ ، وروى ابنُ أبي حاتم بإسناد صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان ابنَ عمِّ موسى؛ يعني: أنَّه قارون بن يَصْهُر بن قاهث بن لاوي، وبه قال قتادة وإبراهيم النَّخعي وعبد الله بن الحارث وسماك بن حرب وابن جُريج.
          والثاني: أنَّه ابن خالته، رواه عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ .
          والثالث: أنَّه / عمُّ موسى ◙، قاله ابن إسحاق، والأوَّل أصح، وقيل: معنى كونه من قوم موسى أنَّه آمن به، وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة، ولكنَّه نافقَ كما نافق السَّامري قال: إذا كانت النُّبوة لموسى، والمذبح والقربان لهارون، ويروى: والحُبُورة لهارون، وأنا في غيرِ شيءٍ إلى متى أصبر.
          {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي: وطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أَمْرهِ، وعن قتادة أنَّه تكبَّر عليهم، وقيل: ظلمهُم حين ملكَه فرعون على بني إسرائيل، وقيل: حَسَدَهم. وقال الضَّحَّاك: بغيه عليهم كفرُه بالله، وقال عطاء: هو أنَّه زاد في طولِ شبابه شبراً، وقال ابن عبَّاس ☻ : «بغيُه هو قذفُه لموسى ◙ ببغيَّةٍ جعل لها جعلاً»، كما ستجيء قصَّته.
          {وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} من الأموال المدَّخرة {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} كلمة ما موصولة، والمراد بمفاتحه مفاتيح صناديقه، جمع مِفْتح، بالكسر، وهو ما يفتح به، وقيل: خزائنه، وقياس واحدها المفتح {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} وهو خبرُ إنَّ والجملة صلة ما، وهو ثاني مفعولي آتي واللام للتَّأكيد، وتنوءُ مضارع ناءَ نوءاً، يقال: ناءَ به الحِمْل: إذا أثقلَه حتى أمالَه، والعُصْبةُ والعِصَابة: الجماعة الكثيرة، وقيل: العُصْبَة: العَشَرة، وقيل: خمسةَ عشر، وقيل: أربعون، وقيل: من عشرة إلى أربعين.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : العصبة في هذا الموضع: أربعون رجلاً، واعْصَوْصَبوا واجتمعوا، والمعنى هنا لَتَعْجِزُ العصبةُ أولو القوَّة عن حمل مَفاتيح الخزائن، وقيل: معناه تميلُ بها العصبة إذا حَمَلَتْها من ثقلها، وقرئ ▬لينوء↨ بالياء، على إعطاء المضاف حُكم المضاف إليه.
          ورُوي: إنَّ مَفاتيح خزائنه كانت وقرَ ستين بغلاً غراً محجَّلة، لكلِّ خزانةٍ مفتاح، ولا يزيد المفتاح على أصبع، وكانت من جلود الإبل، ويقال: كانت من الحديد فثقلتْ عليه، فجعلها من خشب فثقلتْ عليه، فجعلَها من جلود البقر، وكانت خزائنُه تُحْمَلُ معه حيثما ذهب.
          قال أبو رزين: يكفِي الكوفة مفتاح؛ يعني: يَكفي الكوفة كنز واحدٌ من كنوزهِ مع كثرة أهل الكوفة، وهو بيان للكثرةِ، وفي رواية أخرى: إن قارون حصَّل أموالاً عظيمةً جداً حتى قيل: إنَّ مَفاتيحَ خزائنه كانت من جلود تحمل على أربعين بغلاً، وكان يَسْكُن تنِّيس، فحكيَ أنَّ عبد العزيز الجَرَوي ظَفِر ببعض كُنوز قارون، وهو أمير على تنِّيس، فلمَّا مات تأمَّر ابنه عليٌّ مكانه، وتورَّع ابنُه الحسن بن عبد العزيز عن ذلك، فيقال: إنَّ علياً كتب إلى أخيه الحسن: إني استطبتُ لكَ من مالِ أبيك مائة ألف دينارٍ فخذْها فقال: أنا تركتُ الكثير من ماله؛ لأنَّه لم يطبْ لي، وكيف آخذ هذا القليل.
          وقد روى البخاريُّ في هذا الصَّحيح عن الحسن بن عبد العزيز هذا، وقوله: {أُولِي الْقُوَّةِ} صفة {الْعُصْبَةِ} {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} كلمة {إِذْ} منصوب المحل بقوله: {لَتَنُوءُ} {لَا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: لا تبطر، وهو كقوله تعالى: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} [الحديد:23] وقول القائل:
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي                      ولا بجزوع حين ينكبني الدهر (1)
          وذلك أنَّه لا يفرح بالدُّنيا إلَّا من رضيَ بها واطمأنَّ إليها، وأمَّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنَّه مُفارق ما فيه عن قريبٍ لم يحدِّثه نفسه بالفرح.
          والحاصل: أنَّ الفرح بالدُّنيا مذمومٌ / مطلقاً؛ لأنَّه نتيجة حبِّها والرِّضا بها والذُّهول عن ذهابها؛ فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللَّذة مفارِقَةٌ لا محالةَ يوجب التَّرح، وما أحسن ما قال القائل:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ                     تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتَقَالاً
          ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} [الحديد:23] وعلَّل النَّهي هاهنا بكونه مانعاً من محبَّة الله تعالى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] أي: البطرين بزخارف الدُّنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ} [القصص:76] من الغِنى والثَّروة {الدَّارَ الْآَخِرَةَ} بأن تفعلَ فيه أفعالَ الخير من أصنافِ الواجب والمندوبِ، وتصرفُه إلى ما يُوجب لك الدَّار الآخرة، وتجعله زادكَ إلى الآخرة فإنَّ المقصود منه أن يكون وصلة إليها.
          {وَلَا تَنْسَ} أي: ولا تترك ترك المنسي {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تحصلَ بها آخرتَك، أو تأخذَ منه ما يكفيكَ ويصلحك {وَأَحْسِنْ} إلى عبادِ الله {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فيما أنعمَ عليك، أو أحسنْ بالشُّكر والطاعة لله كما أحسن الله تعالى إليك بالإنعام {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} بأمر يكون علَّة للظُّلم والبغي، وهو ما كان عليه من الظُّلم والبغي.
          {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] لسوءِ أفعالهم، وقيل: إنَّ القائل هو موسى ◙ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] أي: إنما أوتيتُ التَّفوق على النَّاس بالجاهِ والمال على استحقاقٍ واستيجابٍ لما في من العِلْم الذي فُضِّلْتُ به على النَّاس، وذلك أنَّه كان أعلم بني إسرائيل في التَّوراة، وعلى عِلْمٍ، في موضع الحال، وقيل: هو علمُ الكيمياء.
          وعن سعيد بن المسيَّب: كان موسى ◙ يعلمُ علم الكيمياء، فأفادَ يُوشع بن نون ثلثه، وكالبُ بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضافَ علمهما إلى علمهِ فكانَ يأخذُ الرَّصاص والنُّحاس فيجعلهما ذهباً. وقيل: عَلَّم الله موسى عِلْمَ الكيمياء، فعلَّمه موسى أختَه، فعلمتْه أختُه قارون، وقيل: هو تبصُّره بأنواع التِّجارة والدَّهقنة وسائر المكاسب، وقيل: علم بكنوز يوسف ◙ وعندي صفة له، وقيل: متعلِّق بقوله: {أُوتِيتُهُ} فمعنى عندِي: في ظني / كما تقول: الأمر عندي كذا؛ كأنَّه قال: إنما أوتيتُه على علم كقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} [الزمر:49] قال: إنما أُوتيته على علْمٍ، ثمَّ زاد: عندي؛ أي: هو في ظنِّي ورأيي هكذا.
          {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص:78] تعجيبٌ وتوبيخٌ على اغترارهِ بقوَّته وكثرة ماله مع علمهِ بذلك؛ لأنَّه قرأ في التَّوراة وأخبر به موسى ◙، وسَمِعَه من حفاظ التَّواريخ والأيام كأنَّه قيل: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} في جملةِ ما عنده من العِلْم هذا حتى لا يغترَّبكثرةِ مالِه وقوَّته، فيكون إثباتاً لعلمه وتعجيباً من أمرهِ وتوبيخاً له، ويجوزُ أن يكون ردّاً لادعائهِ العِلْمَ ونفياً لعِلْمهِ وتعظمه به؛ لأنَّه لما قال أُوتيته على عِلْمٍ عندي فتنفخ بالعلم وتعظم به. قيل: أعنده مثل هذا العلم الذي ادَّعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكلِّ نعمةٍ ولم يعلم هذا العلم النَّافع حتى يقي نفسَه مصارعَ الهالكين، وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي: للمال، أو جماعة وعدداً {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] أي: لا يسألون سؤالَ استعلامٍ فإنَّه تعالى مطَّلع عليها، أو سؤال معاتبة فإنهم يعذَّبون بها بغتةً، كأنَّه لما هدَّد قارونَ بذكر إهلاك من قبله ممَّن كانوا أقوى منه وأغنى أكد ذلك ببيان أنَّه لم يكن يخصُّهم، بل الله مطَّلع على ذنوب المجرمين كلِّهم لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم، وهو قادرٌ على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13] {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28]، وأمَّا قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93] فمعناه سؤال توبيخ وتقريع، كما قال الحسن: لا يُسألون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم، فليُتَأَمَّل.
          {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79] قال الحسن: في الحُمْرة والصُّفرة، وقيل: خرجَ على بغلةٍ شهباء (2) عليه الأرجوان، وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الدِّيباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهنَّ الحلي والدِّيباج، وقيل: في تسعين ألفاً عليهم الثِّياب المعصفرات، وهو أوَّل يوم رئي فيه المعُصَفْرَ، والله أعلم. /
          {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] كان المتمنون قوماً من المسلمين، وإنما تمنَّوه على سبيل الرَّغبة في اليسار، كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقرَّبوا به إلى الله وينفقوه في سُبل الخير، وقيل: كانوا قوماً كفَّاراً.
          الغابط: هو الذي يتمنَّى مثل نعمةِ صاحبه من غير أن تزولَ عنه، والحاسدُ: هو الذي يتمنَّى أن تكون نعمة صاحبه له دونَه، فمن الغبطةِ قوله تعالى: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، ومن الحسد قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]، وقيل لرسول الله صلعم : هل يضرُّ الغَبْط؟ فقال: لا، إلَّا كما يضرُّ العضاةَ الخبْطُ (3)، والحظَّ: الجد، وهو البخت والدَّولة، وصفوهُ بأنَّه رجلٌ مجدودٌ ومبخوتٌ، يقال: فلانٌ ذو حظٍّ وحظيظٍ ومحظوظٍ، وما الدُّنيا إلَّا أحاظ وجدود {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80] بأحوال الآخرة للمتمنِّين {وَيْلَكُمْ} ويلك: أصلُه الدُّعاء بالهلاك، ثمَّ استُعْمِلَ في الزَّجر والرَّدع والبَعْثِ على تَرْكِ ما لا يُرْتَضَى كما استُعْمِلَ: لا أبا لك، وأصله الدُّعاء بالإقرَافِ والتُّهْمَةِ في الحَثِّ على الفعل {ثَوَابُ اللَّهِ} في الآخرة {خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ممَّا أوتي قارون من الدُّنيا وما فيها.
          {وَلَا يُلَقَّاهَا} الضَّمير للكلمة التي تكلَّم بها العلماء، أو للثَّواب فإنَّه في معنى المثوبة، أو الجنَّة، أو للسِّيرة والطَّريقة، وهي الإيمانُ والعمل الصَّالح {إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] على الطَّاعات، وعلى ما قسمَ الله من القليل، وعن الشَّهوات والمعاصي والكثير من الدنيا.
          {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] روي أنَّ قارون كان يُؤذي موسى ◙ كل وقت، وهو يُداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلتِ الزكاة، فصالحه عن كلِّ ألف على واحد من الدَّراهم والدَّنانير فحسبه فاستكثرَه فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال: إنَّ موسى أرادكُم على كلِّ شيءٍ، وهو يريد أن يأخذَ أموالكم فقالوا: أنت كبيرُنا وسيدُنا، فمرْ بما شئت، قال: نبرطل (4) فلانةَ البغي حتى ترميه / بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها ألف دينار.
          وقيل: طشتاً من ذهبٍ مملوءة ذهباً، فلمَّا كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناهُ، ومن زنا وهو غيرُ محصن جلدناهُ، وإن أُحصن رجمناهُ، فقال قارون: وإن كنتَ أنت؟ قال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنَّك فجرت بفلانة، فأُحْضِرَتْ فناشدها موسى بالذي فلقَ البحر وأنزل التَّوراة أن تصدقَ فتداركها الله، فقالت: كذبوا بل جعلَ لي قارون جُعْلاً على أن أقذفك بنفسي فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال: يا رب إن كنتُ رسولك فاغضبْ لي فأُوْحِيَ إليه أن مُرِ الأرضَ بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين، ثم قال: يا أرضُ خذيهِم، فأخذتهم إلى الرُّكَب، ثم قال: خُذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خُذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرَّعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرَّحم، وموسى لا يلتفت إليهم لشدَّة غضبه، ثم قال: خذيهم فانطبقتْ عليهم، وأوحى الله إلى موسى: ما أفظَّك: استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزَّتي، لو إيَّاي دعوا مرَّة لوجدوني قريباً مجيباً، فأصبحت بنوا إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبدَّ بداره وكنوزهِ، فدعا اللهَ حتى خسفَ بداره وأموالهِ. وكذا روى ابنُ أبي حاتم بإسناد صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ .
          {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} أي: أعوان مشتقَّة من فاوتُ رأسَه إذا ميَّلتَه {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يدفعون عنه عذابَه {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] أي: الممتنعين منه، من قولهم: نصرَه من عدوِّه فانتصرَ: إذا منعَه فامتنعَ {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ} [القصص:82] أي: منزلته من الدُّنيا {بِالْأَمْسِ} / أي: منذ زمان قريبٍ، فإنَّه يذكر الأمسَ ولا يُراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريقِ الاستعارة.
          {يَقُولُونَ وَي كأنَّ اللَّهَ} وَيْ مفصولة عن كَأَنَّ، وهي كلمةُ تَنَبُّهٍ على الخطأ وتَنَدُّمٍ، ومعناه: أنَّ القوم قد تنبَّهوا على الخطأ في تمنيهم وقولهم: {يا ليتَ لنا مثلَ ما أُوتي قارون}[القصص:79] وتندموا، ثمَّ قال: كأن الله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82] والمعنى: ما أشبَه الأمر؛ ألم تعلم أنَّ الله يبسطُ ويَقْدِرُ بمقتضى مشيئته لا لكرامةٍ تقتضي البَسْط ولا لهوانٍ يُوجب القبضَ، وهو مذهبُ الخليل وسيبوبه، قال الشاعر:
سَألَتَانِي الطَّلَاقَ أَنْ رَأَتَانِي                     قَلَّ مَالِي قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ
وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْـ                     بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
          يقول: أمرأتاني سألتاني الطَّلاق حين رأتا قلَّة مالي، ما أشبَه الأمران، من يكن ذا مال يكون محبوباً، ومن يفتقر يعيش في ضر.
          وحكى الفراء: أنَّ أعرابية قالت لزوجها: أين ابنُك؟ فقال: وي كأنَّه وراء البيت؛ يعني: أما ترينَه وراء البيت.
          وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ويك ألم تعلم أنَّ الله، ويجوز أن تكون الكافُ كافُ الخطاب مضمومةً إلى وي اسم فعل بمعنى أعجب، كقوله:
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَذْهَبَ سُقْمَهَا                     قِيْلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
          أصله: عنترة؛ فُرخِّم في النِّداء؛ أي: يا عنترةُ أَقْدِم؛ يعني: قَدِّم نفسَك، وتقدَّم [قول] الخليل (5)، و«أنَّه» بمعنى: لأنَّه؛ أي: أعجب لأنه، واللام المحذوفة لبيان المقول لأجله هذا القول، وهو ويك، أو التَّقدير: لأنَّ الله يبسطُ الرِّزق لمن يشاء ويقدرُ كان ما كان، ومن الناس من يقف على {وَيْ} ويبتدئ {كَأَنَّهُ} [القصص:82] ومنهم من يقف على: (ويك).
          {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} فلم يُعْطِنا ما تمنينا {لَخَسَفَ بِنَا} لتوليده فينا ما ولد فيه، فخسف بنا لأجله، وعن الأعمش: لولا مَنُّ الله علينا {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] أي: ما أشبه الأمر، فإنَّ الكافرين لا ينالون الفلاح، أو: ويلك ألم تعلم أنَّه لا يفلحُ الكافرون، أو: ويك لأنَّه لا يفلحُ الكافرون كان ذلك، وهو الخسفُ بقارون، والمرادُ / الكافرون لنعمةِ الله، أو المكذبون برسلهِ وبما وعدوهم من ثواب الآخرة.
          {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ} [القصص:83] تلك تعظيمٌ لها، وتفخيمٌ لشأنها، كأنَّه قال: تلك التي سمعتَ بِذِكْرِها، وبلَغَكَ وصفُها، والدَّار صفة والخبر قوله: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} غلبةً وقهراً {وَلَا فَسَاداً} ظلماً على الناس. ولم يعلِّق الموعد بترك العلوِّ والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود:113] فعلَّق الوعيد بالركون.
          وعن عليٍّ كرَّم الله وجهه: إنَّ الرَّجل ليعجبه أن يكون شراكُ نعلهِ أجودَ من شراكِ نعلِ صاحبهِ، فيدخل تحتها. وعن الفضيل: أنَّه قرأها ثمَّ قال: ذهبتِ الأماني هاهنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنَّه كان يردِّدُها حتى قُبِضَ، ومنهم من يَجْعَلُ العلوَّ لفرعون، والفسادَ لقارون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص:4] {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ويقول: مَنْ لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدَّار الآخرة. وقال الزمخشريُّ: لم يتدبَّر من قال ذلك قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] كما تدبَّره عليٌّ والفضيل وعُمر، ولك أن تقول: يجوز أن يكون المراد: مَن اتَّقى مِنْ مِثْلِ عَمَلِ فرعون وقارون، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ إنَّ المؤلف ☼ لم يذكر في قصَّة هارون الآثار التي ستجيءُ، وهي ثابتةٌ في رواية المُسْتمليِّ والكُشْمِيْهَني فقط.
          قال: ({لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ) إشارة إلى ما في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}[القصص:76] وفسَّره بقوله: لتثقلُ، وهو تفسيرُ ابن عبَّاس ☻ ، أوردَه ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} يقول: تثقلُ، وقد ذكرناه سابقاً.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {أُولِي الْقُوَّةِ} لاَ يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في تفسيرِ {أُولِي الْقوَّة} لا يرفعها العصابة من الرِّجال، وقد مرَّ هو أيضاً (يُقَالُ: {الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] بأنَّ معناه المَرِحين، وهو تفسير ابن عبَّاس، وأورده ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، والمعنى: أنَّهم يبطرون فلا يشكرون الله على نعمهِ.
          ({وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82] مِثْلُ: أَلَمْ تَرَ / أَنَّ اللَّهَ) هو قول أبي عبيدة، واستشهدَ بقول الشاعر:
وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ
          البيت، والمعنى: ألم تعلم أن الله...إلى آخره، وتحقيقه قد مرَّ في تفسير الآية فيما قبل في الحديث نفسه.
          وذهبَ قطرب إلى أنَّ وي كلمةُ تفجُّعٍ، وكأنَّ حرف تشبيه استُعْمِل في مقام حرف التَّحقيق؛ للإيماء إلى أنَّ الظَّنَّ كافٍ في هذا الباب، وقد مرّت أقوال النُّحاة في هذه الكلمة فيما مرَّ.
          ({يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36] وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وذكرها فإن فيها مثل ما في الآية الأولى؛ أعني: قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]، ثمَّ فسر قوله: {يَبْسُطُ} و{يَقْدِرُ} بقوله: يوسع عليه ويضيِّق، فقوله: يوسع، تفسير قوله: {يَبْسُطُ}. وقوله: ويضيِّق، تفسير قوله: {وَيَقْدِرُ}.
          قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ:39] يوسِّع ويكثر، وفي قوله: {وَيَقْدِرُ} هو مثل قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]؛ أي: ضاقَ، ويقال: قَدَرَ على عِيَاله قَدراً، مثل: قتَّرَ، وقَدَر على الإنسانِ رِزْقَه قَدْراً مثل قتَّر أيضاً.


[1] كذا قال المؤلف وفي كتب التفسير المتعددة
~ولست بمفراح إذا الدهر سرّني                     ولا جازع من صرفه المتقلّب
انظر الثعلبي وزاد المسير والبحر المحيط وروح المعاني.
[2] في هامش الأصل: الشهبة: في الألوان البياض الذي غلب على السواد.
[3] في هامش الأصل: الخبط: ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها.
[4] في هامش الأصل: أي: نعطيها الرشوة.
[5] في تفسير الزجاج أن سيبويه سأل الخليل عنها فزعم أنها «وي» مفصولة من «كأن» وكذا في المحتسب وتفسير ابن عادل