نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها}

          ░48▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم:16]) هذه التَّرجمة قد تقدَّمت قبل هذا الباب ببابين، لكن هذه معقودة لأخبار عيسى ◙، والأبواب التي قبلها لأخبار أمِّه مريم، قاله الحافظُ العسقلاني.
          قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} أي: في القرآن {مَرْيَمَ} يعني: قصتها {إِذِ انْتَبَذَتْ} أي: اعتزلت وانفردت وتخلَّت للعبادة، بدل من مريم بدل الاشتمال؛ لأنَّ الأحيان مشتملة على ما فيها، وفيه أنَّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصَّة العجيبة فيه أو بدل الكل؛ لأنَّ المراد بمريم قصَّتها، وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد، أو ظرف لمضاف مقدر؛ أي: قصَّة مريم وقت كذا، وقيل: إذ بمعنى أن المصدريَّة كقولك: أكرمتك إذ لم تكرمني، فيكون بدل اشتمال لا محالة، والمعنى: واذكُرْ مريمَ انتباذَها.
          {مِنْ أَهْلِهَا} متعلِّق بانتبذت {مَكَانَاً شَرْقِيًّا} [مريم:16] أي: في مكان ما يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها، ولذلك اتَّخذ النَّصارى المشرق قبلة، فقوله: {مَكَانَاً} ظرف، ويجوز أن يكون مفعولاً لانتبذتْ متضمِّنة معنى أتت {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً} [مريم:17] ستراً تستتر به منهم، يعني: ضربتْ وأرختْ من دونهم حجاباً {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم:17]، قيل: قعدت في مشرقة للاغتسالِ من الحيض محتجَّبة بحائط أو شيءٍ يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوَّلت إلى بيت خالتها أم يحيى ◙، فإذا طَهُرت عادت إلى المسجد، / فبينا هي في مغتسلها أتاها المَلَك في صورة آدمي شابٍّ أمرد وضيءِ الوجه، جَعْد الشَّعر، سوياً سوي الخلق، لم ينتقص من صورة الآدميَّة شيئاً، أو حسن الصُّورة مستوي الخلق، وإنَّما مُثِّلَ لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصُّورة المَلَكِيَّة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه.
          وأغرب القاضي حيث قال: ولعلَّه لتهييجِ شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها، وتعقَّب عليه الإمام السُّيوطي بأنَّه في غنية عن هذا الكلام الفاسد، ولكن هذا ثمرةُ التوغُّل في الفلسفة، هذا، ولقد أصاب في ذلك التَّعقب، فإن ما قاله القاضي لا يليق بشأن مريم وكمالِ عِفَّتها، كما سيجيء ما يدلُّ عليها، ثم إنَّهم تكلَّموا في كيفية تمثله، فقال إمام الحرمين: أَفْنَى الله تعالى الزَّائدَ من خلقه، أو أزاله عنه ثمَّ يعيدُه إليه، يعني: له أجزاء أصلية وأجزاء زائدة، كما في الإنسان، وجزمَ ابن عبد السَّلام بالإزالة دون الفناء.
          وقال البُلقيني: يجوز أن ينضمَّ، ويتكاثفُ جميع أجزائه فيصيرَ على قدر هيئة الإنسان، ثمَّ يعودَ على هيئته. وقال ابنُ حجر: إن القدر الزَّائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفيه الله تعالى على الرَّائي فقط، وهو على كلِّ شيء قدير.
          {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم:18] دلَّ ذلك على كمال عَفافِها وَوَرَعِها، فإنها تعوَّذت بالله من تلك الصُّورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصِّفة ابتلاءً لها وسَبْراً لعفَّتها {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] أرادت إنْ كان يرجى منك أن تتَّقي الله وتخشاه وتحتفلَ بالاستعاذة به، وجواب الشَّرط محذوف دلَّ عليه ما قبله؛ أي: فإني عائذةٌ به منك، أو فتتعظ بتعويذي، أو فلا تتعرض لي. قيل: وإنَّما قالت: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} لأن التَّقي إذا وُعِظَ بالله تعالى، فإنه يَتَّعِظ ويخافُ، والفاسقُ يُخَوَّفُ بالسُّلطان، والمنافقُ يُخَوَّفُ بالنَّاس، ويجوز أن يكون للمبالغة؛ أي: إن كنت تقيًّا متورِّعاً، فإني أعوذُ منك فكيف إذا لم تكن كذلك، وقيل: كانت في منزل زوج أختها (1) زكريا، ولها محرابٌ على حِدَةٍ تَسْكُنُه، وكان زكريا إذا خرجَ أغلق عليها الباب، فتمنَّت أن تجدَ خلوة في الجبل لتفلي رأسها، فانفرجَ السَّقف لها / فخرجت فجلست في المَشْرَقة (2) وراء الجبل فأتاها الملك، وقيل: قام بين يديها في صورة تِرْبٍ لها اسمه: يوسف، مِنْ خَدَمِ بيتِ المقدس.
          ثمَّ المراد بالرُّوح جبريل ◙؛ لأنَّ الدِّين يحيى به وبوحيه، أو سمَّاه الله روحَه على المجاز محبَّة له وتقريباً، كما تقول لحبيبك: أنت روحي، وقيل: هو روح عيسى ◙ تمثَّل على صورة أمرد وجاء إلى أمِّه ودخل في جوفها، ثمَّ خرج بإذن الله، فهو من جملة قدرة الله تعالى، نقله القرطبي. وقرأ أبو حيوة: ▬رَوْحنا↨ بالفتح لأنه سبب لما فيه روحُ العباد، وإصَابَةُ الرُّوح عند الله الذي هو عِدَّة المقربين في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة:88-89]، أو لأنه من المقرَّبين وهم الموعودون بالرَّوْحِ؛ أي: مُقَرَّبَنا وذا رَوْحِنَا.
          {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:19] الذي استعذتِ به {لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً} أي: لأكون سبباً في هبة الغلام بالنَّفخ في الدِّرع، ويجوز أن يكون حكاية لقول الله سبحانه، ويؤيِّده قراءة أبي عَمرو وورش عن نافع، وكذا قالون عنه بخلف ويعقوب بالياء، وفي بعض المصاحف: ▬إنما أنا رسول ربك أمرني أن أهب لك↨ {زَكِيّاً} [مريم:19] طاهراً من الذُّنوب أو نامياً على الخير؛ أي: مترقياً من سنٍّ إلى سنٍّ على الخير والصَّلاح {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:20] أي: ولم يباشرني رجل بالحلال؛ جَعَلَتْ المسَّ عبارةً عن النِّكاح الحلال؛ لأنه كناية عنه كقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، وأمَّا الزِّنا فليس كذلك إنما يقال فيه فجَرَ بها وخَبَثَ بها، وما أشبه ذلك وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] البغي: الفاجرة التي تبغي الرِّجال، وهو فعولٌ عند المبرد أصله: بغوي فأدغمت الواو في الياء ثم كُسِرتِ الغين إتباعاً ولذلك لم تلحقْه التاء.
          وقال ابن جنِّي في كتاب «التَّمام»: هو فعيل، ولو كانت فعولاً لقيل: بَغُوٌّ، كما قيل: فلان نَهُوٌّ عن المنكر، وإنَّما لم تلحقه التاء؛ / لأنَّه للمبالغة، أو للنَّسبة كطالق {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] الكلام في إعرابه كالكلام في ما قبله من قوله: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ} [مريم:9].
          {وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: ونفعل ذلك، أو لنبين به قدرتنا {وَلِنَجْعَلَهُ} فعلى الأوَّل هو تعليلٌ مُعَلَّلُه محذوف، وعلى الثَّاني هو معطوف على تعليلٍ مُضْمَرٍ هو لنبين به قدرتنا، وهو متعلِّق لقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إذ هو متضمنٌ لمعنى نخلقه، وقيل: عطف على {لِيَهَبَ} [مريم:19] على طريقة الالتفات، فتَأَمَّل.
          وقوله: {آَيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: علامةً وعبرةً لهم وبرهاناً على كمال قدرتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا} على العباد يهتدون بإرشاده، وقال الزَّمخشري: والمراد بالرَّحمة: الشَّرائع والألطاف، وما كان سبباً في قوَّة الاعتقاد والتوصُّل إلى الطَّاعة والعمل الصَّالح فهو جدير بالتَّكوين.
          {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] أي: كان خلق عيسى ◙ على هذا المنوال أمراً تعلق به قضاء الله في الأزل، أو قدِّر وسُطِّر في اللَّوح، أو كان أمراً حقيقاً بأن يُقضى ويُفعل لكونه آية ورحمة {فَحَمَلَتْهُ} [مريم:22] عن ابن عبَّاس ☻ : «فاطمأنَّت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النَّفخة إلى بطنها فحملت»، قيل: كانت مدَّة حملها ستة أشهر، وعن عطاء وأبي العالية: سبعة أشهر، وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره فتلك آية، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة، ووضعتْه في ساعةٍ حين زالت الشَّمس من يومها.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «كانت مدَّةُ الحَمْلِ ساعةً واحدة، كَمَا حَمَلَتْه نَبَذَتْه، وسنها ثلاث عشرة سنة»، وقيل: بنت عشر وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحملَ، وقالوا: ما من مولودٍ إلَّا يَسْتَهِلُّ غيرُه.
          {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أي: اعتزلت وهو في بطنها، والجار والمجرور في موضع الحال {مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] بعيداً من أهلها وراء الجبل، والقَصِيُّ: أشدُّ بعداً من القاصي، وقيل: أقصى الدُّور {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] أي: فألجأها، وهو في الأصل منقول مِن جَاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، إلا تراك لا تقول: جئتُ المكان / وأجاءنِيْه زيد كما تقول: بَلَغْتُه وأبْلَغَنِيه، ونظيره آَتَى حيث لم يستعمل إلَّا في الإعطاء، ولم يقل أتيتُ المكان وآَتَانِيه فلانٌ، وقرئ: ▬المِخاض↨ بكسر الميم أيضاً وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج.
          {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} طلبت الجذع لتستتر به وتعتمدُ عليه عند الولادة، وهو ما بين العِرق والغُصن، وكانت نخلةً يابسةً في الصَّحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خُضرة، وكان الوقت شتاءً، والتَّعريف لا يخلو إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النَّجم والصَّعق كأنَّ تلك الصَّحراء كان فيها جذع نخلة متعالم؛ أي: مشهور معلوم عندهم، فإذا قيل: جذع النَّخلة فُهِمَ منه ذلك دون غيره من جُذوع النَّخل، وإمَّا أن يكون تعريفَ الجنس؛ أي: جذع هذه الشَّجرة خاصَّة، ولعلَّه تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما تسكن روعتها، ويطعمها الرُّطب الذي هو خرسة (3) النفساء الموافقة لها، ولأن النَّخلة أقل شيء صبراً على البَرْد، وثمارُها إنما هي من جمارها؛ أي: شحمها فهي موافقة لها، فلذلك اختارها لها وألجأها إليها.
          {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} استحياء من النَّاس ومخافةَ لومهم، أو خوفاً على النَّاس أن يعصوا الله بسببه، وقرئ: {مُـِتُّ} بالضم والكسر من مات يموت ومات يمات {وَكُنْتُ نَسْياً} أي: ما من حقِّه أن يطرحَ ويُنْسَى كخرقة الطَّامث ونحوها كالذِّبْحِ اسم ما من شأنه أن يُذْبَحَ في قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]. وعن يونس: العرب إذا ارتحلوا عن الدَّار قالوا: انظُروا أَنْساءكُم؛ أي: الشَّيء اليسير نحو العصا والقَدَح، تمنَّت لو كانت شيئاً تافهاً لا يُؤبه له، من شأنه وحقِّه أن يُنْسَى في العادة، وقد نُسِيَ وطُرِحَ، فوجد فيه النِّسيان الذي هو حقُّه، وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه، أو مصدر سمِّي به، وقرئ به وبالهمز، وهو الحليب المخلوط بالماء لما ينسأه أهله لِقِلَّته ونَزَارته.
          {مَنْسِيّاً} [مريم:23] منسيُّ الذِّكر بحيث لا يخطرُ ببالهم، وقال قتادة: يعني: لا أُعْرَفُ ولا يُدْرَى مَنْ أنا، وقرأ الأعمش بكسر الميم على الاتباع كالمغيرة والمنخر {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} / هو جبريل ◙، قيل: كان يقبِّل الولد كالقابلة، وقيل: هو عيسى ◙، وقيل: تحتها أسفل من مكانها كقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر:20]، وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ورَوْح: {مِنْ تَحْتِها} [مريم:24] بالكسر والجر على أنَّ في نادى ضمير أحدهما، وعن قتادة: الضَّمير في تحتها للنَّخلة، وقرأ زر وعلقمة: ▬فخاطبها من تحتها↨.
          {أَلَّا تَحْزَنِي} أي: فصاح بها: لا تحزني، أو بأن لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} أي: بحيال قدَمَيْكِ {سَرِيّاً} [مريم:24] جدولاً، سُئل النَّبي صلعم عن السَّري فقال: ((هو الجدول)) أي: النَّهر الصَّغير، وقيل: سيِّداً من السروِّ، وهو الرِّفعة، ومنه: رجلٌ سَرِيٌّ؛ أي: شريف وهو عيسى ◙، وعن الحسن: كان والله عبداً سَرِيّاً.
          {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أي: وأميليه إليك والباء مزيدة للتأكيد، كما في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، أو على معنى افعَلى الهزَّ والإمالةَ به كقوله:
يَجْرَح في عَرَاقيبها نَصْلِي
          أو هُزِّي الثَّمرةَ بِهَزِّه، والهز: التَّحريك بجذب ودفع {تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ} أصله: تتساقط، فأُدْغِمَت التاء في السين وحذفها حمزة، وقرأ حفص: {تُسَاقِط} من ساقطت بمعنى أسقطت، وقرأ يعقوب: {يسَّاقط} بالياء وتشديد السين، وقرئ: ▬تتساقط↨، و▬تسقط↨ و▬يسقط↨ فالتاء النَّخلة، والياء الجذع.
          {رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] أي: غضًّا طريًّا: تمييز أو مفعول على حسب القراءة، فإنْ قُرِئ بفتح التاء أو الياء يكون تمييزاً، كقولك: تصبَّبَ الفرس عرقاً، وإذا قرئ بالضم يكون مفعولاً به؛ أي: تساقط النَّخلة رطباً، فإن قيل: ما كان حزنها لفقد الطَّعام والشَّراب حتَّى تُسَلَّى بالسَّري والرُّطب.
          فالجواب: أنَّه لم تقع التَّسلية بهما من حيث إنَّهما طعام وشراب، بل من حيث إنَّهما معجزتان تُرِيَان النَّاسَ أنَّها من أهل العِصْمَة والبُعْدِ من الرِّيبة، فإنَّه روي أنها كانت نخلةً يابسةً لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاءً فهزَّتها فجَعَلَ اللهُ تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، فدلَّ ذلك على براءةِ ساحتها، فإنَّ مِثْلَها لا يُتَصوَّر لِمَن يَرْتَكِبُ الفواحش، ونبَّه لمن رآها عليه على أن من قَدِرَ أن يثمرَ النَّخلة اليابسةَ في الشِّتاء قَدِرَ أن يُحْبِلَها / من غير فَحْلٍ، وأنَّه ليس ببدعٍ من شأنها، مع ما فيه من الشَّراب والطَّعام، ولذلك رتَّب عليه الأمرين فقال: {فَكُلِي وَاشْرَبِي} [مريم:26] أي: من الرُّطب وماء السَّري، أو من الرُّطب وعصيره، قالوا: التَّمر للنُّفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التَّحنيك، وقالوا: كان من العجوة، وقيل: (4) ما للنفساء خير من الرُّطب، ولا للمريض خيرٌ من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرُّطب.
          فالحاصل: أنَّه تعالى جَمَعَ لها في السَّري والرُّطب فائدتين: إحداهما الأكل والشُّرب، والثَّانية سلوة الصَّدر لكونهما معجزتين، وهذا معنى قوله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي} {وَقَرِّي عَيْناً} أي: وطِيْبِي نفساً، وارفضِي عنك ما أحزنك وأهمك، وقرئ: ▬وقِري↨ بالكسر، وهو لغة نجد واشتقاقه من القرار، فإنَّ العين إذا رأت ما يسر النَّفسَ سكنَتْ إليه من النَّظر إلى غيره، أو من القَر؛ فإنَّ دمعة السُّرور باردة، ودمعةَ الحزن حارَّة، ولذلك يقال: قرَّة العين وسخنتها للمحبوبِ والمكروه.
          {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} أي: فإن تري آدمياً، وقرئ: ▬ترئن↨ بالهمزة على لغة من يقول: لبَّأْتُ بالحجِّ؛ أي: لبَّيْتُ لتآخٍ بين الهمزة وحرف اللين في الإبدال {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي: صمتاً، وفي مصحف عبد الله: ▬صَمْتاً↨، وعن أنس بن مالك مثله، وقيل: صياماً إلَّا أنَّهم كانوا لا يتكلَّمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلعم عن صوم الصَّمت؛ لأنَّه نُسِخَ في أمَّته.
          {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] بعد أن أخبرتكم بنذري، وإنَّما أكلِّم الملائكة وأُناجي ربي، وقيل: أَخْبرَتْهُم بنذرها بالإشارة، إنَّما أمرها الله بأن تنذرَ الصَّوم والله أعلم لئلَّا تُسْرِعَ مع البَشَر المتَّهِمين لها في الكلام لمعنيين:
          إحداهما: أنَّ عيسى ◙ يكفيها الكلام بما يُبَرِّئ به ساحتها.
          والثاني: كراهة مجادلة السُّفهاء ومناقلتهم، وفيه أن السُّكوت عن السَّفيه واجب، ومن أذلِّ النَّاسِ سفيهٌ لم يجدْ مُسَافِهاً.
          {فَأَتَتْ بِهِ} مع ولدها {قَوْمَهَا} [مريم:27] راجعة إليهم بعدما طهرت من النفاس {تَحْمِلُهُ} / حاملة إيَّاه {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] بديعاً منكراً وهو من فرى الجلد إذا قطعَه {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قيل: كان أخاها من أبيها من أمثل بني إسرائيل، وقيل: هو أخو موسى ◙.
          وعن النَّبي صلعم : إنَّما عنوا هارون النَّبي، وكانت من أعقابهِ في طبقة الأخوَّة وبينها وبينه ألف سنة وأكثر.
          وعن السُّدي: كانت من أولاده، وإنما قيل: أخت هارون كما يقال: يا أخا همدان؛ أي: يا واحداً منهم، وقيل: رجل صالح أو طالح كان في زمانهم شبَّهوها به؛ أي: كنت عندنا مثله في الصَّلاح، أو شتموها به ولم ترد أخوَّة النَّسب ذُكِرَ أنَّ هارون الصَّالح تَبِعَ جنازتَه أربعون ألفاً كلُّهم يسمَّى هارون تبرُّكاً به وباسمه، فقالوا: كنَّا نشبِّهك بهارون هذا.
          {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] أي: فاجرةً؛ تقريرٌ لأنَّ ما جاءت به فَري، وتنبيه على أنَّ الفواحش من أولاد الصَّالحين أفحش، وقيل: احتمل يوسف النجَّار مريم وابنها إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوماً حتَّى تعلَّت من نفاسها، ثمَّ جاءت تحمله فكلَّمها عيسى في الطَّريق فقال: يا أمَّاه، أبشري فإنِّي عبد الله ومسيحه، فلمَّا دخلت به على قومها وهم أهلُ بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك، وقيل: همُّوا برجمها حتَّى تكلَّم عيسى ◙ فتركوها.
          {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] أي: إلى عيسى؛ أي: كلِّموه ليجيبكم، فإنَّه هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وعن السديِّ: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لَسُخريتُها أشدُّ علينا من فِعْلها {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:29] ولم نعهد صبيًّا في المهد كلَّمه عاقل، و{كَانَ} زائدة والظرف صلة {مَنْ}، و{صَبِيّاً} [مريم:29] حال من المستكن فيه أو تامَّة أو دائمة كقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] أو بمعنى صار.
          وروي: أنَّه كان يرضع فلمَّا سمع ذلك ترك الرِّضاع وأقبل عليهم بوجهه واتَّكأ على يساره وأشار بسبابته {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] أنطقه الله أوَّلاً بأنه / عبد الله؛ لأنَّه أوَّل المقامات، وللردِّ على من زعم بربوبيَّته {آَتَانِيَ الْكِتَابَ} هو الإنجيل {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} [مريم:30-31] نفاعاً معلماً للخير، والتَّعبير بلفظ المضيِّ إما باعتبار ما سَبَقَ في قضائه، أو بجعل المُحَقَّق وقوعُه الآتي لا محالة كالواقِع الذي وُجِدَ، وقيل: أكملَ اللهُ عقلَه واستنبأه طفلاً نظراً في ظاهر الآية.
          {أَيْنَ مَا كُنْتُ} حيث كنت {‎وَأَوْصَانِي} وأمرني {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} زكاة المال إن ملكته أو تطهير النَّفس عن الرَّذائل {مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} [مريم:31-32] وباراً بها عطف على مباركاً، وقرئ بالكسر على أنَّه مصدر وصف به جعل ذاته براً لفرطِ بره، أو منصوب بفعل دلَّ عليه أوصاني؛ أي: وكلَّفني براً؛ لأنَّ أوصاني بالصَّلاة وكلَّفنيها واحد، ويؤيد القراءة بالكسر والجرِّ عطفاً على الصَّلاة.
          {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:32] عند الله، من فَرْط تَكَبُّرِه أو لم يخذلني بمخالفته، قيل: الشَّقي من يذنب ولا يتوب {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33] قيل: أدخل لام التعريف لِتَعَرُّفِه بِالذِّكْرِ قَبْلَه، والمعنى: وذلك السَّلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثَّلاثة موجَّه إلي، والأظهر أنَّه للجنس تعريضاً باللَّعنة على متَّهِمِي مريمَ ♀ وأعدائِها من اليهود، فإنَّه لما جعل جنس السَّلام على نفسه عرَّضَ بأن ضِدَّه عليهم كقوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طـه:47] فإنَّه تعريض بأنَّ العذابَ على من كذَّب وتولى، وكان المقامُ مَقَامَ مُنَاكَرَةٍ وعِنَادٍ فهو مَئِنَّةٌ لِنَحْوِ هذا من التَّعريض والله تعالى أعلم، والتَّفويض إليه أسلم، وقيل: كلَّمهم بذلك ثمَّ لم يتكلَّم حتَّى بلغ مَبْلَغاً يَتَكَلَّمُ فيه الصِّبيان.
          وفي «الكشف»: أنَّ عيسى ◙ عاش في الدُّنيا ثلاثة وثلاثين سنة، فاجتهدَ في العبوديَّة ليكون عارياً عن العوائق، وصَعَد إلى السَّماء.
          (نَبَذْنَاهُ: أَلْقَيْنَاهُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى في قصَّة يونس ◙ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات:145]. وقد روى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {فَنَبَذْنَاهُ} قال: ألقيناه.
          قال العيني: وليس لذكره هاهنا / مناسبة؛ لأنَّ المذكور في قصَّة مريم لفظ: {انْتَبَذَتْ} [مريم:16]، ومعنى {انْتَبَذَتْ} غير معنى نبذناه، أقول: نعم إلَّا أنه يمكن أن يكون إشارة إلى أنَّ انتبذتْ ونبذناه من أصل واحد.
          (فَاعْتَزَلَتْ {شَرْقِيّاً} مِمَّا يَلِي المشرقَ) أشار به إلى أنَّ معنى قوله: {انْتَبَذَتْ} اعتزلت؛ أي: تنحَّت وانفردت وتخلَّت للعبادة، قال أبو عبيدة في قوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ} أي: اعتزلت وتنحَّت، وقوله: ممَّا يلي الشَّرق إشارة إلى معنى قوله: {مَكَاناً شَرْقِيّاً} أي: في مكانٍ شرقيٍّ ممَّا يلي شرقي بيت المقدس، أو في مكانٍ شرقي من دارها، قال أبو عبيد: في قوله: {مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:16] ممَّا يلي المشرق، وهو عند العرب غير الغربي الذي يلي المغرب.
          ({فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ: أَلْجَأَهَا: اضْطَرَّهَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] وأشار بقوله: أَفْعَلْتُ من جِئْتُ، إلى أن لفظ: أجاء، مزيد جاء، تقول: جئتُ إذا أخبرتَ عن نفسك، ثمَّ إذا أردت أن تعدي به إلى غيرك، تقول: أجأتُ زيداً، وهنا كذلك بالتعدية؛ لأنَّ الضَّمير في أَجَاءَها يرجعُ إلى مريم، وفاعل أجاء هو قوله: {الْمَخَاضُ} وهو الطَلْق. قال أبو عبيدة: في قوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أفعلها من جاءت وأجاءها غيرها. قال زهير:
وجارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إِلَيْكُم                     أَجَاءَتْهُ المَخَافةُ وَالرَّجَاءُ
          وقال الزَّمخشري: إنَّ أجاء منقولٌ من جاء إلَّا أنَّ استعمالَه تغيَّر بعد النَّقل إلى الإلجاء، وقد مرَّ.
          ({تُسَاقِطْ}: تُسْقِطْ) هو قول أبي عبيدة، وضبط تُسقط بضم أوله من الرباعي، والفاعل النَّخلة عند من قرأها بالمثناة، أو الجذع عند من قرأها بالتحتانية، وقد مرَّ تفصيله أيضاً في نفس شرح هذه الترجمة ({قَصِيّاً}: قَاصِياً) أشار به إلى تفسير قوله: {قَصِيّاً} وهكذا فسَّره مجاهد، أخرجه الطَّبري عنه، وقال أبو عبيدة: {قَصِيّاً} أي: بعيداً.
          وقال ابن عبَّاس ☻ : أقصى وادٍ؛ فراراً من قَومها أن يعيِّروا ولادتها من غير زوج. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: / ▬قاصِيَاً↨ وقال الفرَّاء: القاصي والقَصي بمعنى، وأصله من القُصُوِّ وهو البُعد، والأقصى: الأبعد.
          ({فَرِيّاً}: عَظِيماً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:27] وفسَّر قوله: فرياً بقوله: عظيماً، وهو تفسيرُ مجاهد، أخرجه الطَّبري من طريق ابنِ أبي نَجيح عنه، ومن طريق سعيدٍ عن قتادة كذلك، وقال أبو عبيدة: كلُّ فائقٍ من عَجَبٍ أو عَمَلٍ فهو فَرِيٌّ، وقيل: الفَرِيُّ: الولد من الزِّنا كالشَّيء المفترى. وقال قُطرب: الفَرِيُّ: الجِلْد الجديد من الأسقية؛ أي: جئتِ بأمرٍ عجيبٍ أو أمرٍ جديدٍ لم تُسْبَقِي إليه.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {نِسْياً}: لَمْ أَكُنْ شَيْئاً. وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ: الْحَقِيرُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى حكاية عن مريم: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23]، وفسَّر ابن عبَّاس ☻ قوله: {نَسْياً} بقوله: لم أكن شيئاً.
          وروى الطَّبري من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {نَسْياً مَنْسِيّاً} أي: لم أُخْلَق ولم أَكُن شيئاً، وقال غيره:؛ أي: غير ابن عبَّاس ☻ : النِّسي: الحقير، وهو قول السُّدي، وقيل: هو ما سقط في منازل المرتحلين من رذالة أمتعتهم، وروى الطَّبري من طريق سعيد عن قتادة قال: في قوله: {وَكُنْتُ نِسْياً} أي: شيئاً لا يُذْكر، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم بفتح النون قيل: وهما لغتان.
          وقال أبو علي الفارسي: الكسر أعلى اللُّغتين، وقال ابن الأنباري: من كَسَرَ النون قال: النِّسي: اسمٌ لما يُنْسَى بمنزلة النِّقض اسم لما يُنْقَض، والنَّسي، بالفتح: اسمٌ لما يُنْسَى أيضاً، على أنَّه مصدر ناب عن الاسم، وقيل: نسياً: لم أُذْكَر فيما مَضى، ومَنسياً: لا أُذْكَر فيما بَقي.
          (وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ) هو: شقيقُ بن سلمة (عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}) وصله عبد بن حميد من طريق عاصم قال: قرأ أبو وائل: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] قال: لقد علمت مريم أن التَّقيَّ ذو نُهية، قيل: وإنَّما قالت مريم هذا حين رأت جبريل ◙ تعني: إن كنت تقياً فانته عني. /
          وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان في زمانها رجل يقال له: تَقِيٌّ وكان فاجراً فظنَّته إيَّاه.
          قال الحافظ العسقلاني: وأغربَ مَن قال: إنَّه اسم رجل يقال له: تقي كان مشهوراً بالفساد فاستعاذتْ منه، وقيل: كان تقيٌّ رجلاً من أمثل النَّاس في ذلك الزَّمان، فقالت: إن كنت في الصَّلاح مثل تقي، فإنِّي أعوذ بالرَّحمن منك، كيف يكون رجلٌ أجنبيٌّ وامرأةٌ أجنبية في حِجَابٍ واحد.
          والنُّهْية، بضم النون وسكون الهاء، وقد تفتح النون، وهي العقل؛ لأنه يَنْهى صاحِبَه عن القبيح، وقوله ذو نُهْية؛ أي: ذو عقل وانتهاءٍ عن فِعْلِ القبيح.
          (وَقَالَ وَكِيعٌ) هو: ابنُ الجراح الرَّواسي الكوفي (عَنْ إِسْرَائِيلَ) هو: ابنُ يونس بن أبي إسحاق (عَنْ) جدِّه (أَبِي إِسْحَاقَ) السَّبيعي، واسمه: عَمرو (عَنِ الْبَرَاءِ) أي: ابن عازب ☺ أنَّه قال: ({سَرِيّاً}) أي: في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24].
          (نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ) يعني: أنَّ السري بالسريانية هو النَّهر الصَّغير، وكذا رواه الحاكم في «المستدرك» وابن أبي حاتم من طريق الثَّوري والطَّبري من طريق شعيب كلاهما، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق آدم، عن إسرائيل به، لكن لم يقل بالسريانيَّة، وإنما قال البراء: السَّري: الجدول وهو النَّهر الصَّغير. وقد ذكر أبو عبيدة: أنَّ السري: النَّهر الصَّغير بالعربيَّة أيضاً. وروى الطَّبري من طريق حصين، عن عَمرو بن ميمون قال: السَّري: الجَدْول. ومن طريق الحسن البصري قال: السَّري: هو عيسى ◙.
          قال الحافظ العسقلاني: وهو شاذٌّ، وقد روى ابن مَردويه في «تفسيره» من حديث ابن عمر ☻ مرفوعاً: ((السَّري في هذه الآية: نهرٌ أخرجَه الله لمريم لتشرب منه)) والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: صوابه خالتها.
[2] في هامش الأصل: المشرقة، بتثليث الراء: موضع القعود في الشمس بالشتاء. ((قاموس)).
[3] في هامش الأصل: الخرسة: الطعام.
[4] في هامش الأصل: القائل: هو الربيع بن خيثم.