نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله عز وجل: {وهل أتاك حديث موسى. إذ رأى نارًا}

          ░22▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ ╡) وقد سقط لفظ: <باب> عند أبي ذرٍّ وكريمة ({وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً} إِلَى قَوْلِهِ: {بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:9-12]) والآية في سورة طه. قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طـه:9] استفهام بمعنى التَّقرير؛ أي: قد أتاك، ففي تمهيد نبوَّته صلعم قصَّة موسى ◙ ليؤتمَّ به في تحمل أعباء النُّبوة وتبليغ الرِّسالة والصَّبر على مقاساة الشَّدائد، فإنَّ هذه السورة من أوائل ما نزلَ {إِذْ رَأَى نَاراً} ظرف للحديث؛ لأنَّه حدث أو مفعول لاذْكُر.
          وعن وهب: استأذنَ موسى شعيباً ♂ في الرُّجوع إلى أمِّه، وخرج بأهله من مدين إلى مصر، فلمَّا وافى وادي طوى، وفيه الطُّور وُلِدَ له ابنٌ في ليلةٍ شاتيةٍ مُظْلمة مُثْلجة، وكانت ليلةَ الجمعة فحادَ موسى عن الطَّريق مخافة من ملوك الشام، فألجأه المسير إلى جانب الطُّور الغربي وتفرَّقت ماشيته، وقدح النار فلم تور المقدحة شيئاً، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر ناراً من بعيد / عن يسار الطَّريق من جانب الطُّور.
          {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} أي: قال موسى لزوجتهِ ومَن معها: أقيموا مكانكُم {إِنِّي آَنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها إبصاراً لا شبهة فيه، وقيل: الإيناسُ: إبصارُ ما يؤنس به {لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا} أي: من النار {بِقَبَسٍ} بشعلة من النَّار، والقَبَس: النار المقتبسة من رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما، وقيل: جَمْرة {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طـه:10] أي: هادياً يدلُّني على الطَّريق أو يهديني أبواب الدِّين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كلِّ ما تعن لهم، ولما كان حصولهما مترقباً بَنَى الأمرَ فيهما على الرَّجاء؛ بخلاف الإيناس فإنَّه كان متحقَّقاً، ولذلك حقَّقه لهم بأنْ يُوَطِّنوا أنفُسَهم عليه، ومعنى الاستعلاء في {عَلَى النَّارِ} لأن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريبَ منها، كما قال سيبويه في مررتُ بزيد: إنَّه لُصُوقٌ بمكانٍ قَريبٍ منه.
          {فَلَمَّا أَتَاهَا} أي: أتى موسى ◙ النارَ رأى شجرةً خضراءَ من أسفلها إلى أعلاها كأنَّها نار بيضاء تتقدُ، وسمعَ تسبيح الملائكة، ورأى نوراً عظيماً فخافَ، فأُلْقِيتْ عليه السَّكينةُ وكانت الشَّجرةُ عوسجةً. وروي: كلَّما دنى أو بعد لم يختلِفْ ما كان يسمعُ من الصَّوت، وعن أبي إسحاق: أنَّه لما دنا استأخرتْ عنه فلمَّا رأى ذلك رَجَعَ وأوجسَ في نفسه خيفةً، فلمَّا أراد الرَّجعة دنت منه ثمَّ كُلِّم ونُودي.
          {نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طـه:11-12] فتحه ابنُ كثير وأبو عَمرو؛ أي: بأني، وكسر الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، وتكرير الضَّمير للتَّوكيد والتَّحقيق، قيل: إنَّه لما نُودي، قال: من المتكلِّم؟ قال: إني أنا الله، فوسوس إليه إبليسُ لعلَّك تسمعُ كلام شيطان، فقال: أنا عرفت أنَّه كلام الله، فإني أسمعه من جميع الجهات وبجميعِ الأعضاء، وهو إشارة إلى أنَّه ◙ تلقَّى من ربِّه كلامه تلقياً روحانياً، ثمَّ تمثَّل ذلك الكلام لبدنه وانتقلَ إلى الحسِّ المشترك، فانتعشَ به من غير اختصاصٍ بعضوٍ وجهة.
          {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أمره بذلك؛ لأنَّ الحفوة تواضعٌ وأدب، ولذلك طاف السَّلف حافين، وقيل: لأنهما كانتا من جلد حمارٍ ميِّت غير مدبوغ، فخلعَ موسى نعليهِ وألقاهما من وراءِ الوادي، وقيل: معناه فِّرغْ قلْبَكَ من الأهل والمال / {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} تعليلٌ للأمر باحترام البقعةِ، والمقدَّس: المطهَّر من الشِّرك، قال الحسنُ: سمِّي الوادي المقدَّس؛ لأنَّه قُدِّس وبُرِّك مرَّتين، وقيل: المُقَدَّس: المبارك {طُوًى} [طـه:12] عطف بيان للوادي، ونوَّنه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان، وقيل: هو كثَنَى من الطَّي مصدر لنُودي أو المقدَّس؛ أي: نودي نِدائين أو قُدِّس مرتين، وقال ابن عبَّاس ☻ : طُوى: اسمُ الوادي، وإنما سمِّي الوادي طُوى؛ لأنَّه قد طواها الأنبياء إلى مسيرهم فيها.
          ({آنَسْتُ} [طه:10]: أَبْصَرْتُ) يعني: أنَّ معنى آنستُ: أبصرت من الإيناس، وهو الإبصارُ البيِّن الذي لا شبهةَ فيه، ومنه إنسان العين؛ لأنَّه يتبين به الشَّيء، والأنس لظهورهم، وقيل: الإيناس: إبصارُ ما يؤنس به (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : الْمُقَدَّسُ: الْمُبَارَكُ، {طُوًى}: اسْمُ الْوَادِي) وقع هذا من قول ابن عبَّاس ☻ إلى آخر ما ذكره من تفسير الألفاظ المذكورة في رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتملي والكُشْمِيْهَني خاصَّة، ولم يذكره جميع رواة البخاري هنا، وإنما ذكروا بعضَه في تفسير سورة طه.
          وقال الكِرماني: وذِكْرُ أمثالِ هذا في هذا الكتاب اشتغالٌ بما لا يعنيهِ، وقول ابن عبَّاس ☻ هذا وَصَلَه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وروى هو والطَّبري من وجه آخر عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّه سمِّي طوى؛ لأنَّ موسى ◙ طواهُ ليلاً».
          قال الطَّبري: فعلى هذا، فالمعنى إنَّك بالواد المقدَّس طويته، وهو مصدر أُخْرِجَ من غير لفظه، كأنَّه قال: طويتُ الوادي المقدَّس طُوى. وعن سعيد بن جُبير قال: قيل له: طوى؛ أي: طِأ الأرضَ حافياً. وروى الطَّبري عن مجاهد مثله. وعن عكرمة: أي: طِأ الوادي. من وجه آخر عنه عن ابن عبَّاس ☻ كذلك.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق مبشِّر بن عُبيد، والطَّبري من طريق الحسن قال: قيل له: طوى؛ لأنَّه قُدِّس مرَّتين، وقال الطَّبري: وقال آخرون: معنى قوله: طُوى؛ أي: ثُنَىَ؛ أي: ناداه ربُّه مرَّتين {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}.
          وقال أبو عبيدة: / ومن جَعَلَ طوى اسم أرضٍ لم ينوِّنه، ومن جَعَلَه اسم الوادي صرفَه، ومن جَعَلَه مصدراً بمعنى: نودِي مرَّتين صَرَفَه، تقول: ناديته ثُنَى وطوى مرَّة بعد مرَّة.
          ({سِيرَتَهَا} [طه:21] حَالَتَهَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طـه:21]، وفسر السيرة بالحالة، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} يقول: حالتها الأولى، ورواه ابنُ جرير كذلك. ومن طريق مجاهد وقتادة سيرتها: هيئتها.
          (وَ{النُّهَى} التُّقَى) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طـه:128] وفسَّرَ النُّهى بالتُّقى، وصله الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طـه:128] قال: لأولي التُّقى. ومن طريق سعيدٍ، عن قتادة: لأولي النُّهى: لأولي الوَرَع. وقال الطَّبري: خَصَّ أولي النُّهى؛ لأنَّهم أهل التَّفكُّر والاعتبار.
          ({بِمَلْكِنَا} [طه:87] بِأَمْرِنَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طـه:87] وفسَّره بقوله: بأمرنا، وصله ابنُ أبي حاتم والطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يقول: بأمرنا. ومن طريق سعيدٍ، عن قتادة: {بِمَلْكِنَا} أي: بطاقتنا وكذا قال السُّدي. ومن طريق ابن زيد: بهوانا. واختَلَفَ القُراء في ميم مَلْكنا، فَقَرَؤا بالضم والفتح والكسر، ويمكن تخريج هذه التَّأويلات على هذه القراءات.
          ({هَوَى} [طه:81] شَقِيَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] وفسَّره بقوله: شَقِيَ، وكذا أخرجه الطَّبري ({فَارِغاً} إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [القصص:10] ثمَّ فسَّره بقوله: إلَّا من ذِكْرِ موسى؛ يعني: لم يخل قلبها عن ذِكْرهِ، وصله سعيدُ بن عبد الرَّحمن المخزومي في تفسير ابن عُيينة من طريق عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} قال: من كُلِّ شيء إلَّا من ذكر موسى.
          وأخرج الطَّبري / من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس ☻ نحوه. ومن طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : «فارغاً إلَّا بذكر موسى». ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه. ومن طريق الحسن البصري: أصبح فارغاً من العهد الذي عَهِدَ إليها أنَّه سيرد عليها.
          وقال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {فَارِغاً} أي: من الحزن لعلمها أنَّه لم يغرق. ورد ذلك الطَّبري، وقال: إنَّه مخالفٌ لجميع أقوال أهل التَّأويل.
          ({رِدْءاً} كَيْ يُصَدِّقَنِي) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، ثمَّ أشار إلى أن التَّقدير في قوله: {يُصَدِّقُنِي} كي يصدقني، وصله ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ ، وروى الطَّبري من طريق السُّدي قال: كيما يصدقني، ومن طريق مجاهد وقتادة: {رِدْءاً} أي: عوناً.
          (وَيُقَالُ: مُغِيثاً أَوْ مُعِيناً) أي: يقال في تفسير {رِدْءاً}: مغيثاً، بالغين المعجمة والثاء المثلثة، من الإغاثة، أو معيناً، بالمهملة والنون، من الإعانة، وهي المساعدة. قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أي: معيناً، يقال فيه: أردأتُ فلاناً على عدوِّه؛ أي: أكنَفْتُه وأعَنْتُه وصِرْتُ له كَنَفاً.
          {يَبْطُشُ} {وَيَبْطِشُ} أشار به إلى أن لفظ يبطشُ فيه لغتان: أحدهما كسر الطاء، وهي قراءة السبعة، والأخرى ضمها، وهي قراءة أبي جعفر والحسن. قال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19] بالطاء مكسورة ومضمومة لغتان، والكسر هي القراءة المشهورة هنا، وفي قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16].
          ({يَأْتَمِرُونَ}: يَتَشَاوَرُونَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] وفسَّره بقوله: يتشاورون. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي: يهمون بك ويتآمرون ويتشاورون. ومنه قول الشاعر:
أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيْمَةً                     وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤتَمَرُ
          وقال ابن قُتيبة: معناه يأمرُ بعضهم بعضاً كقوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6].
          (وَالْجِذْوَةُ: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} [القصص:29] ثم فسَّرها بما ذكر، قال أبو عبيدة / في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي: قطعة غليظةٍ من الحَطَب ليس فيها لهب، قال الشاعر:
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا                     جَزْلَ الجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلَا دَعِرِ
          والجذوة: مثلثة الجيم.
          ({سَنَشُدُّ}: سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئاً فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُداً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص:35] وفسَّره بقوله: سنعينُك، وفسَّره أبو عبيدة بقوله: سنقوِّيك به ونعينُك، تقول: شدَّ فلان عضدَ فلان: إذا أعانهِ، وهو من عاضدته على أمره؛ أي: عاونته، وقوله: كلَّما عَزَّزتَ شيئاً فقد جعلتَ له عَضُداً من بقيَّة تفسير {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} وهو ظاهر.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ (كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ، أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ، أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهْيَ عُقْدَةٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طـه:25-27] وهذا قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} العُقْدَة في اللِّسان ما لم ينطق بحرف، أو كانت فيه مسكة من تمتمة أو فأفأة.
          وروى الطَّبري بإسناده من طريق السُّدي قال: لما تحرَّك موسى أخذتْه آسيةُ امرأة فرعون ترقِّصه، ثمَّ ناولته لفرعون فأخذَ موسى بلحيتهِ فنتفها فاستدعى فرعون الذَّبَّاحين فقالت آسية: إنَّه صبيٌّ لا يعقلُ فوضعتْ له جمراً وياقوتاً، وقالت: إن أخذَ الياقوت فاذبحهُ، وإن أخذَ الجمر فاعرف أنَّه لا يعقل، فجاء جبريلُ ◙ فطرحَ في يده جمرةً فطرحَها في فيه فاحترقتْ لسانه فصارتْ في لسانه عقدة من يومئذٍ.
          ومن طريق مجاهد وسعيد بن جُبير نحو ذلك، وقيل: لما وضع فرعون موسى في حجره تناولَ لحيته ومدَّها ونتفَ منها، وكانت لحيتُه طويلة سبعة أشبار، وكان هو قصيراً ويقال: لطمَ وجهه وكان يلعبُ بين يديه، ويقال: كان بيده قضيب صغيرٌ يلعبُ به فضربَ رأسه، فعند ذلك غضبَ غضباً شديداً وتطير منه، وقال: هذا عدوِّي المطلوب، ثمَّ جرى ما ذُكِرَ.
          فإن قيل: كيف لم تحْرِقْه النار / يوم التَّنور التي ألقي فيها وأحرقت لسانه في هذا اليوم؟
          فالجواب: أنَّه قال يوماً لفرعون: يا بابا فعُوقِبَ لسانهُ ولم تُعَاقَبْ يده؛ لأنها مُدَّتْ إلى لحية فرعون، ولهذا ظهرت المعجزةُ في اليد دون اللِّسان، فإنَّه روي أنَّه كان آدم شديد الأُدْمة فأدخلَ يدَه في جيبهِ أو تحت إبطهِ ثمَّ نزعها فإذا هي بيضاءُ نورانيَّة غلبَ شعاعها شعاع الشَّمس. وقيل: لم تحترق في التَّنور ليدوم له الأنس بينه وبين النَّار ليلة التَّكليم. وقيل: إنما لم تحترقْ يده ليجاهد بها فرعون بحمل العصا، والتَّمتمةُ هي التَّردُّدُ في النُّطْق بالتاء المثناة الفوقية، والفأفأةُ هي التَّردُّد في النُّطق بالفاء.
          ({أَزْرِي}: ظَهْرِي) أشار به إلى ما في قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طـه:31-32] وفسر الأَزْرَ بالظَّهر، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي: ظَهْري، ويقال: قد أَزَرَني؛ أي: كان لي ظهراً ومعيناً. وأورد الطَّبري بإسناد ليِّن عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قال: ظَهْري.
          ({فَيُسْحِتَكُمْ} فَيُهْلِكَكُمْ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طـه:61] وفسَّر يُسحتكم بقوله: يُهلككم، ووصله الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ ، وهو قولُ أبي عبيدة قال: وتقول: سَحَته وأَسْحَته بمعنى.
          قال الطَّبري: سَحَتَ أكثرُ من أَسْحَتَ. وروى من طريق قتادة في قوله: {فَيُسْحِتَكُمْ} أي: يستأصلُكم، والخطاب للسَّحرة، ويقال: إنَّ اسم رؤسائهم: عادور، وسابور، وحطحط، والصَّفي.
          ({الْمُثْلَى}: تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ، يَقُولُ: بِدِينِكُمْ، يُقَالُ: خُذِ الْمُثْلَى خُذِ الأَمْثَلَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] ومثلى على وزن فُعْلَى تأنيث الأمثل، وقوله: بدينكم تفسير لقوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يعني: يريد موسى وهارون أن يذهبا بطريقتكُم ودينكُم المستقيم. وقال أبو عبيدة: في قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ} أي: بسنَّتكم ودينكم وما أنتم عليه. وقيل: أرادوا أهلَ طريقتكُم المثلى، وهم بنو إسرائيل لقول موسى ◙: {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17] وقيل: الطَّريقة: اسم / لوجوه النَّاس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم، فيقال: هم طريقة قومهم. وقال الشعبي: معناه: ويصرفا وجوه النَّاس إليهما.
          وقال الزَّجاج: يعني المثلى والأمثل ذو الفضل الذي به يستحقُّ أن يقال: هذا أمثل قومه. والحاصل: أن المراد بالمُثْلَى: الفُضْلَى.
          ({ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً}) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طـه:64] الخطاب لقوم فرعون من السَّحرة؛ يعني: ائتوا جميعاً، وقيل: صفوفاً؛ لأنَّه أَهْيَب في صدور الرائين. روي أنَّ السَّحرة كانوا سبعين ألفاً مع كلِّ واحدٍ منهم حَبْل وعصا، وقد أقبلوا إقبالةً واحدةً، وقد لطخوها بالزِّئبق فلما ضربت عليها الشَّمسُ اضطربت فخيِّل إليه أنها تتحرَّك، وذلك قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طـه:66] قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} أي: صفوفاً.
          وله معنى آخر ذكره البخاري بقوله: (يُقَالُ: هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ، يَعْنِي: الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ) وقائل هذا أيضاً أبو عبيدة فإنَّه قال أيضاً: المراد من قوله: {صَفّاً} المصلى والمجتمع، وعن بعض العرب الفصحاء: ما استطعتُ أن آتي الصَّف أمس؛ يعني: المصلى، ووجه صحَّته أن يجعلَ صفاً عَلَماً لمصلى بعينه، فأُمِرُوا بأن يأتوه، أو يُراد: ائتوا مُصَلىً من المُصَلَّيات.
          ({فَأَوْجَسَ}: أَضْمَرَ خَوْفاً، فَذَهَبَتِ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طـه:67] وفسَّر أوجس بقوله: أضمر، والخِيْفَة: الخَوْف، وهذا أيضاً تفسير أبي عبيدة، وقوله: فذهبت الواو من خِيفة لكسرة الخاء؛ يعني: أنَّ أصل خِيفة خَوْفة فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها.
          ({فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}: عَلَى جُذُوعِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طـه:71] وأشار بقوله: على جذوع، أنَّ كلمة {في} بمعنى: على للاستعلاء، وهذا قول أبي عبيدة أيضاً. واستشهد بقول الشاعر:
هُم صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ (1)
          وقال: إنما جاء على موضع في إشارةٍ إلى بيان شدَّة التَّمكن في الظرفية.
          ({خَطْبُكَ}: بَالُكَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95] وفسَّر {خَطْبُكَ} بقوله: بالك، قال أبو عبيدة: في قوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي: ما بالك وشأنك. قال الشاعر:
يَا عَجَباً مَا خَطْبُه وخَطْبِي
          وروى الطَّبري من طريق السُّدي / في قوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكَ} قال: ما لك يا سامري. وقصَّته مشهورةٌ. ومُلَخَّصُها: أنَّ موسى ◙ أقبل على السَّامري واسمُه: موسى بنُ ظَفر الذي أخرجَ لهم عِجْلاً جَسَداً له خوارٌ، وكان من قومٍ يعبدون البقرَ، فقال: هذا إلهكمُ وإله موسى، قال له: ما خطبُك؟ أي: ما شأنُك وحالك الذي دعاكَ وحَمَلَك على ما صنعتَ.
          ({مِسَاسَ}: مَصْدَر مَاسَهُ مِسَاساً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} [طـه:97] أي: قال موسى للسَّامري: فاذهبْ من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} أي: ما دمت حياً {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ}.
          قال الفرَّاء: أي: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ، والمراد أنَّ موسى أَمَرَهم أن لا يُواكلوه ولا يُخَالطوه، عاقبه الله في الدنيا بالعقوبة التي لا شيءَ أشدَّ منها ولا أوحش حيث مُنِعَ من مخالطةِ الناس مَنْعاً كلِّياً، وحَرَّمَ عليهم ملاقاته ومكالمتَه ومُواجهَتَه، وإذا اتَّفق أن يماسَّ أحداً رجلاً أو امرأةً حُمَّ الماسُّ والممسوس، فتحامى الناسَ وتحامَوه وكان يصيحُ: لا مِسَاس. وعن قتادة: أنَّ بقاياهم اليوم يقولون: لا مِسَاس. وقرئ: (لا مَساس) بفتح الميم وهي لغة فاشية.
          وقال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {لَا مِسَاسَ} إذا كسرت الميم جاز النصب والرفع والجر بالتنوين، وجاءت هنا منفيَّة ففتحت بغير تنوين، قال النابغة: فأصبح من ذاك كالسَّامري؛ إذ قال له موسى: إنَّه لا مِساساً، قال: والممَّاسة المخالطة، قال: ومنهم من جعلها اسماً فكسر آخرها بغير تنوين. قال الشاعر:
تَمِيْمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ
          وقوله:
أَلَا لَا مُرِيدَ السَّامِرِيِّ مِسَاسِ                     أَجْرَاهَا مَجْرَى قِطَامٍ وَحِزَام
          وقد قرىء: (لا مساس) كفَجَارِ وهو علم للمسَّة، وأشار البخاري إلى أنَّه مصدر ماسَّه.
          ({لَنَنْسِفَنَّهُ}: لَنُذْرِيَنَّهُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طـه:97] وفسر قوله: {لَنَنْسِفَنَّهُ} بقوله: لنُذْرِيَنَّه من التَّذرية في اليم، وقد وصله الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} يقول: لنُذْرِينَّه في البحر. حُكِيَ أنَّ موسى ◙ أَخَذَ العِجْل، فذبحه فسال منه الدم؛ لأنَّه قد كان صار / لحْماً ودَمَاً، ثمَّ أحرقه بالنَّار وذَرَاهُ في اليم.
          (الضَّحَى: الْحَرُّ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طـه:119] وفسر الضَّحى بالحرِّ. قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} لا شمس فتجد الحر. وروى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : «لا يُصِيْبُك فيها عَطَشٌ ولا حَرٌّ».
          قال المفسِّرون: والخطاب لآدم ◙ ومعنى {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} أي: في الجنة {وَلَا تَضْحَى} أي: ولا تشرق للشَّمس فيؤذيك حرَّها، وقيل: لا يصيبك حرَّ الشمس، إذ لا شمس فيها، وذِكْرُ هذا هنا غيرُ مناسب؛ لأنَّه في قصة آدم ◙، ولا تَعَلُّقَ له بقِصّة مُوسى ◙، قاله العيني.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وهذا الموضع وقع استطراداً، وإلَّا فلا تعلُّق له بقصَّة موسى ◙.
          أقول: كأنَّه ذكره هنا لوقوعه عقيب الفراغ من قصَّة موسى ◙.
          ({قُصِّيهِ} [القصص:11] اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ تَقُصَّ الْكَلاَمَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف:3]) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] وفسر {قُصِّيهِ} بقوله: اتَّبعي أثره، وهو قول مجاهد والسُّدي وغيرهما، أخرجه ابنُ جرير، وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتَّبعي أَثَرَه تقول: قَصَصْتُ آثار القوم، وهكذا فسَّره أهل التفسير، ويقال معناه: استَعْلِمي خبَرَه وهو خطابٌ لأخت موسى من أمها، واسم أخته: مريم بنت عمران، وافقها في ذلك مريم بنت عمران أم عيسى ♂.
          وقوله: وقد يكون... إلى آخره، تفسير من البخاري؛ أي: قد يكون معنى القصِّ من قصِّ الكلام كما في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3].
          ({عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11] عَنْ بُعْدٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:11] وفسَّر قوله: {عَنْ جُنُبٍ} بقوله: عن بعد؛ أي: بَصُرَتْ أختُ موسى بموسى عن بُعْدٍ، والحال أنَّ قومَ فرعون لا يَعْلَمون بها (وَعَنْ جَنَابَةٍ وَعَنِ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ) أشار به إلى أنَّ معنى {عَنْ جُنُبٍ} وعن جنابة وعن اجتناب واحدٍ، فيقال: ما يأتينا / إلا عن جنابةٍ واجتنابٍ، وأصل معنى هذه المادة يدلُّ على البُعْد. ومنه الجُنُب؛ لبعدهِ عن الصَّلاة وعن قراءة القرآن.
          وروى الطَّبري من طريق مُجَاهدٍ في قوله تعالى: {عَنْ جُنُبٍ} قال: عن بُعْدٍ. وقال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي: عن بُعْدٍ وتجنُّبٍ، ويقال: ما يأتينا إلا عن جنابةٍ وعن جُنُب. قال الشاعر:
فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ                     فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ
          وفي حديث القنوت الطَّويل عن ابن عبَّاس ☻ : «الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشَّيء البعيد وهو إلى جنبه لم يشعر».
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَلَى قَدَرٍ} عَلَى مَوْعِدٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طـه:40] وفسَّر قوله: {عَلَى قَدَرٍ} بقوله: على مَوْعِد، وقيل: على قَدَر؛ أي: جئت لميقاتٍ قدرتُه لمجيئك قبل خَلْقِك، وكان موسى ◙ مَكَثَ عند شعيب ◙ في مدين ثمانياً وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر امرأته: صفور بنت شعيب، ثم أقام بعده ثمان عشرة سنة عنده حتى ولد له في مدين، ثمَّ جاء على قَدَرٍ وكانت مدين على ثماني مراحلَ من مصر.
          روي أنَّه حين أتى مدين كان ابن اثنتي عشرة سنة؛ فيكون الجميعُ أربعين سنة، قيل: وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي: على قَدَر قدرتُه لِأَنْ أُكَلِّمَكَ وأستنبِئَك غيرَ مُستَقْدِمِ وقتَه المعينَ ولا مستأخِراً، أو على مقدار من السن قد يوحى فيه إلى الأنبياء ‰. هذا، وقد وصله عن مجاهد الفريابي من طريق ابن أبي نَجيح عنه قال: {عَلَى قَدَرٍ} على مَوْعِد.
          وروى الطَّبري من طريق العوفي، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي: «على ميقات».
          ({لاَ تَنِيَا}: لَا تَضْعُفَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طـه:42-43] وفسر قوله: {لَا تَنِيَا} بقوله: لا تضْعُفا؛ يعني: لا تفترا من ونى يني ونياً وهو الضَّعْفُ والفُتُور، وصله الفريابي عن مجاهد.
          وروى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال: لا تُبْطِئا، والخطابُ فيه لموسى وهارون. وروي أنَّه تعالى أوحى إلى هارون أن قد استنُبأَ موسى وأُرسلَ إلى فرعون وقومه، وأنَّه جعلك وزيراً له وشريكاً في رسالته، فإذا كان يوم السبت لغرة / ذي الحجَّة فاخرج قبل طلوع الشَّمس إلى شط النِّيل فإنها السَّاعة التي تلتقيان أنت وأخوك فيها، فأقبلَ موسى في ذلك الوقت وخرج هارون من عسكر بني إسرائيل حتى التقيا على شطِّ النيل، فقيل لهما: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طـه:42-43].
          ({مَكَاناً سُوًى} [طه:58] مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى} [طـه:58] وفسر قوله: {مَكَاناً سُوًى} بقوله: مَنْصَفٌ بينهم؛ أي: مُنْتَصَفٌ بين الفريقين؛ أي: يستوي مسافته بينهما فيكون مسافة كل فريق إليه كمسافةِ الفريق الآخر. وقد وصله الفريابيُّ عن مجاهد، وقوله: {مَكَاناً} منصوب بِفِعْلٍ دلَّ عليه المصدر؛ أعني: قوله: {مَوْعِداً} لا بِهِ؛ لأنه موصوفٌ، والمصدرُ الموصوفُ لا يَعْمل فيما بَعْد وصفه لئلا يلزمَ الفصلُ بينه وبين معمولِه بالوصف. وقد قرئ في السبعة: {سِوَى} بضم السين وكسرها، وقال أبو عبيدة: يُضَمُّ أوّلُه ويُكْسَر كعُدَى وعِدَى والمعنى النصف والوسط.
          ({يَبَساً}: يَابِساً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى} [طـه:77] وفسر قوله: {يَبَساً} بقوله: يابساً. وفي ((تفسير النسفي)): {يَبَساً} مصدر وصف به يقال: يَبِسَ يَيْبَس يَبَسَاً ويُبْسَاً كالعدم والعدم، ومن ثمة وصف به المؤنث، فقيل: شاتنا يَبَس، وناقتنا يَبَس: إذا جَفَّ لبنُها، وقوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً} أي: فاجعلْ لهم؛ من قولهم: ضَرَبَ له من ماله سَهْماً، أو فاتَّخذْ؛ من ضَرَبَ اللَّبِن؛ إذا عمله.
          وقوله: {لَا تَخَافُ دَرَكاً} حال من المأمور؛ أي: آمِناً من أن يُدرككم العدوّ، وقوله: {وَلَا تَخْشَى} [طـه:77] عطف عليه. وقد وصله الفريابيُّ من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد.
          ({مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}: الْحُلِيِّ الَّذِي اسْتَعَارُوه مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طـه:87] وفسَّر {زِينَةِ الْقَوْمِ} بقوله: الحلي الذي استعاروه من آل فرعون، وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} / أي: الحلي الذي استعاروا من آل فرعون، وهي الأثقال؛ أي: الأوزار.
          وروى الطَّبري من طريق ابنِ زيد قال: الأوزارُ: الأثقال، وهي الحليُّ الذي استعاروه من آل فرعون، وليس المراد بها الذُّنوب، وقال القاضي: أحمالاً من حُلِيِّ القبط التي استعاروها منهم حين همُّوا بالخروج من مصر باسم العرس.
          وفي ((تفسير النَّسفي)): آثاماً؛ أي: حملنا آثاماً من حُلِيِّ القوم؛ لأنهم استعاروها ليتزيَّنوا في عيدٍ كان لهم، ثمَّ لم يردُّوها عليهم عند خروجهم من مصر مخافةَ أن يعلموا بخروجهم، فحملوها، وقيل: هي ما ألقاهُ البحر على السَّاحل بعد إغراقهم فأخذوه، ولعلَّهم سمَّوها أوزاراً؛ لأنها آثام؛ فإنَّ الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذَ مال الحربي.
          وروى الطَّبري من طريق قتادة قال: كان الله وقت لموسى ◙ ثلاثين ليلة ثمَّ أتمها بعشر، فلمَّا مضت الثلاثون قال السَّامري لبني إسرائيل: إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم، وكانوا قد استعاروا ذلك من آل فرعون، فساروا وهي معهم فقذفوها إلى السَّامري فصورها صورة بقرة، وكان قد صرَّ في ثوبه قبضة من أثر حافر فرسِ جبريل ◙، فقذفها مع الحليِّ في النَّار فأخرج عجلاً يخورُ.
          (فَقَذَفْتُهَا أَلْقَيْتُهَا) فسَّر قوله: فقذفتها بقوله: ألقيتها، وفي رواية الكُشْمِيْهني: <{فَقَذَفْنَاهَا} [طـه:87] ألقيناها> وهو المطابق للقرآن. قال الحافظُ العسقلاني: وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طـه:96] فقذفناها: قال: ألقيناها. انتهى. هذا سهو والصَّواب: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} [طه:87]، وأمَّا قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} فوقع بعده: {فَنَبَذْتُهَا} دون: {فَقَذَفْنَاهَا}.
          ({أَلْقَى} [طه:87] صَنَعَ) يعني ألقى السامري ما كان معه من الحليِّ، وقيل: ما كان معه من تراب حافر فرسِ جبريل ◙ حين أُرْسِلَ إليه ليذهب به إلى الطُّور، وأراد بقوله: صنع {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طـه:88] قاله العيني، فليُتَأمل. وكان ذلك التراب لا يخالطه شيءٌ إلَّا غيره، وهو من الكرامة التي خصَّها الله بروح القدس وعند إلقاء التراب قال: كن عجلاً جسداً له خوار، وكان ممن يعبدون البقر.
          ({فَنَسِيَ}: مُوسَى، هُمْ يَقُولُونَهُ: أَخْطَأَ الرَّبَّ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طـه:88] وصله الفريابي، / عن مجاهد كذلك.
          وقوله: هم يقولون؛ أي: السَّامري ومن معه يقولون: أخطأ موسى الربَّ حيث تَرَكَه هنا وذَهَبَ إلى الطُّورِ يطلبه.
          وروى الطَّبري من طريق السُّدي قال: لما خَرَجَ العِجْلُ وخَارَ، قال لهم السَّامري: هذا إلهُكم وإله موسى فنَسي؛ أي: فنسيَ موسى وضلَّ، ومن طريق قتادة نحوه قال: نسيَ موسى ربَّه، ومن طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس ☻ : {فَنَسِيَ} أي: السَّامري؛ نسيَ ما كان عليه من الإسلام، وتَرَكَ ما كان عليه من إظهار الإيمان، وكان ذلك من الشَّيطان، وقيل: فنسي موسى أن يخبركُم أن هذا إلهه.
          ({أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}: فِي الْعِجْلِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} [طـه:89] أي: أفلا يعلمون؛ أي: السَّامري وأتباعه أنَّه لا يرجع إليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} [طـه:89] أي: ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم، وقوله في العجل؛ يعني: بذلك أن ضمير لا يرجع، إلى العجل.
          تنبيه: لمح المصنِّف ☼ بهذه التَّفاسير بما جرى لموسى ◙ في خروجه إلى مدين، ثمَّ في رجوعه إلى مصر، ثمَّ في أخباره مع فرعون، ثمَّ في غرق فرعون، ثمَّ في ذهابه إلى الطُّور، ثمَّ في عبادة بني إسرائيل العجل وكأنَّه لم يثبت عنده في ذلك من المرفوعات ما هو على شرطه، والله تعالى أعلم.


[1] البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري وتمامه:
~هم صليوا العبدي في جذع نخلة                     فلا عطست شيبان إلا بأجدعا