نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}

          ░41▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَظِيمٌ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إلى {فَخُورٍ} {وَلاَ تُصَعِّرْ} [لقمان:12-18] الإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ) وهذه ستُّ آياتٍ في سورة لقمان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ} اختلفَ في لقمان، فقيل: كان حبشياً، وقيل: كان نوبياً. /
          والنُّوب، بالضم: جبلٌ من السودان، والنُّوبة، بالضم: بلادٌ واسعةٌ للسودان بجنوب الصَّعيد، منها بلالٌ الحبشي، واختُلِف أيضاً هل كان نبياً؟
          قال السُّهيلي: كان نوبياً من أهلِ أيلة، واسمُ أبيه عنقا بن سدون، رُوِيَ ذلك عن مقاتل، ويقال: ابن باران، بالموحدة وبالراء، حكاه السُّهيلي أيضاً عن ابن جرير والقَعنبي، والصَّحيح أنَّه اسم ابنه لا اسم أبيه.
          وقال ابن إسحاق: هو ابن باعور بن باخر بن تارخ، وهو آزر أبُّ إبراهيم ◙ فهو ابن ابن أخي إبراهيم ◙.
          وقال وهب بن منبِّه في «المبتدأ»: هو لقمانُ بن عَبْقر بن مَرْثد بن صادق بن التُّوت، من أهل أيلةَ، ولد على عشر سنين خلتْ من أيَّام داود ◙. وقال مقاتل: إنَّه كان ابنَ أخت أيُّوب ◙، وقيل: ابنَ خالته. وقال ابنُ إسحاق: عاش ألف سنة وأدركَ داود ◙ وأخذَ منه العلم، وكان يُفتي قبل مبعثِ داود ◙ فلمَّا بُعِثَ قطعَ الفتوى، فقيل له، فقال: ألا أَكْتفي إذا كُفِيت.
          وقد أخرج الطَّبري وغيره عن مجاهد أنَّه كان قاضياً على بني إسرائيل زمن داود ◙.
          وفي «المستدرك» بإسنادٍ صحيحٍ عن أنس ☺: «كان لقمان عند داود، وهو يسردُ الدِّرع، وقد ليَّن الله له الحديد كالطَّين، فجعلَ لقمان يتعجَّب ويريد أن يسألَه عن فائدتهِ فتمنعه حِكْمَتُه أن يسألَ فلمَّا أتمها لبسها، وقال: نِعْم لبوس الحرب أنْتِ، فقال: الصَّمت حكم؛ أي: حكمة وقليلٌ فاعلُه، فقال له داود ◙: بحقِّ ما سُمِّيت حَكيماً».
          وهذا صريحٌ في أنَّه عاصر داود ◙، وقد ذكرهُ ابن الجوزي في «التلقيح» بعد إبراهيم قبل إسماعيل وإسحاق ‰، والصَّحيح أنَّه كان في زمن داود ◙.
          وردَّ الحافظ العسقلاني قَول مَن قال: إنَّه عاش ألف سنة، بأنَّه غَلَطٌ ممَّن قاله، وكأنَّه اختلطَ عليه بلقمان بن عاد، وأغربَ الواقدي فزعم أنَّه كان بين عيسى ◙ ونبيِّنا صلعم . وروى الثَّوري في «تفسيره» عن أشعثَ، عن عكرمةَ، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «كان لُقمان عَبْداً حبشياً نجَّاراً». وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن / خالد بن ثابت الرَّبَعي أحد التابعين مثله. وحكى أبو عبيد البكري في «شرح الأمالي» أنَّه كان مولى لقوم من الأزد.
          وروى الطَّبري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيَّب: كان لقمانُ من سودان مصر ذا مشافرَ أعطاهُ الله الحكمةَ ومنعه النُّبوة.
          وحكى الثَّعلبي عن ابن المسيَّب أيضاً أنَّه كان عبداً أسود عظيم الشَّفتين مشقَّق القدمين من سودان مصر ذا مشافر، وكان خياطاً. وفي «الكشاف»: وعن مجاهد: كان عبداً أسودَ غليظَ الشَّفتين متشقِّق القدمين.
          وعنه أنَّه قال لرجلٍ ينظرُ إليه: إن كنتَ تراني غليظَ الشَّفتين فإنَّه يخرج من بينهما كلامٌ دقيقٌ وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض.
          هذا، وقال وهب بن منبِّه: وكان رجلاً صالحاً أبيضَ القلب، وليس يصطفي الله عبادَه على الحسن والجمال، وإنَّما يصطفيهم على ما يَعْلَمُ من غائِبِ أَمْرِهم.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «كان عَبْداً حَبَشِياً نجَّاراً»، وقيل: كان خيَّاطاً، وقيل: كان راعياً، وقيل: كان يحتطِبُ لمولاه حزمة حَطَبٍ، وروي أنَّه كان عبداً لقصابٍ.
          وقال الواقديُّ: كان قاضياً لبني إسرائيل، وكان يسكنُ ببلدةِ أيلة ومدين، وقال مقاتل: كان اسمُ أمِّه تارات. وروي أنَّ رجلاً وقف عليه في مجلسه فقال: ألستَ الذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال: بلى، قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدقُ الحديث، والصَّمت عمَّا لا يعنيني.
          وقال وهب بن مُنَبِّه: بينما كان لقمان يعظ الناس يوماً وهم مجتمعون عليه إذ مرَّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل فقال: ما هذه الجماعة؟ قيل له: هذه جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم، فأقبل إليه، فقال له: ألست عبدَ بني فلان؟ فقال: نعم، فقال: ما الَّذي بلغ بك ما أرى؟ قال: صدقُ الحديث، وأداء الأمانة، وتَرْكِي ما لا يعنيني، فانصرفَ عنه متعجِّباً.
          وأكثر الأقاويل أنَّه كان صالحاً حكيماً ولم يكن نبياً، قال شعبة: عن الحكم عن مجاهد: كان صالحاً ولم يكن نبياً.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكن كان راعياً أسود فرزقَه الله العتقَ ورضي قوله ووصيَّته، فقصَّ أمرَه في القرآن لتمسكوا بوصيته». وقيل: كان نبياً، أخرجه ابنُ أبي حاتم وابنُ جرير من طريق إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، وجابر هذا هو الجُعْفي، وهو ضعيف.
          وقيل: كان لرجل من بني إسرائيل فأعتقَه وأعطاه مالاً يتَّجر فيه. وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة: أنَّ لقمان / خُيِّر بين الحكمة والنُّبوة فاختار الحِكْمة، فسُئل عن ذلك، فقال: خِفْتُ أن أضعفَ عن حَمْلِ أعباء النُّبوة، وفي سعيد بن بَشير ضَعْفٌ.
          وقد روى سعيدُ بن أبي عَروبة عن قتادة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] قال: التَّفقه في الدين، ولم يكن نبياً.
          وعن سعيد بن المسيَّب أنَّه قال لأسود: لا تحزن، فإنَّه كان من خيرِ النَّاس ثلاثة من السُّودان: بلال، ومَهجع مولى عمر ☺، ولقمان. قال الواقديُّ والسُّدِّي: مات بأيلة، وقال قتادة: بالرَّملة، والله تعالى أعلم.
          الحكمة: والحكمةُ في عرف العلماء: استكمالُ النَّفس الإنسانيَّة باقتناء العلوم النَّظرية واكتسابِ الملكة التَّامة على الأفعال الفاضلةِ على قدر طاقتها، وقيل: هي العقلُ والعلم والعمل به، والإصابة في الأمور.
          وروي عن النَّبي صلعم أنه قال: ((ما زهدَ عبدٌ في الدُّنيا إلَّا أَنْبَتَ اللهُ تعالى الحِكْمةَ في قلبه، وأنطقَ بها لسانَه، وبصَّره عيوب الدُّنيا وعيوبَ نفسه، وإذا رأيتُم أخاكم قد زهدَ في الدُّنيا فاقتربوا إليه واستَمِعوا منه، فإنَّه يُلَقَّن الحِكْمَة)).
          ومن حكمتهِ أنَّ داود ◙ قال له يوماً: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ في يَدَيْ غَيْرِي.
          وروي أنَّه أَمَرَهُ مولاه بأن يذبحَ شاةً ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللِّسان والقلب، ثمَّ بعدَ أيَّام أمره بأن يأتي بأخبث مُضغتين منها فأتى بهما أيضاً، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيبُ شيءٍ إذا طابا، وأخبثُ شيءٍ إذا خَبُثا.
          {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] أن هي المفسِّرة؛ أي: قلنا له: أشكر لله؛ لأنَّ إيتاءَ الحكمة في معنى القول، وقد نبَّه الله سبحانه على أنَّ الحكمة الأصليَّة، والعِلْمَ الحقيقي هو العملُ بهما وعبادةُ الله والشُّكر له حيث فسدَ إيتاء الحكمة بالبعثِ على الشُّكر، أو المعنى لأنَّ الشُّكر لله.
          وقيل: هو بدلٌ من الحكمة {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ نفعَه عائدٌ إليها، وهو دوامُ النِّعمة واستحقاق مزيدها {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} لا يحتاج إلى الشُّكر {حَمِيدٌ} [لقمان:12] حقيقٌ بالحَمْد وإن لم يُحْمَد، أو محمودٌ نطق بحمده جميعُ مخلوقاته بلسان الحال.
          {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} [لقمان:13] قيل: كان اسمُ ابنه أنعم، وقال الكلبيُّ: أشكم، وقيل: ماثان، وقال السُّهيلي: باران، بموحدة وراء مهملة، وقيل: بالدال في أوله {وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ} تصغير إشفاق / {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] قيل: كان ابنه وامرأتُه كافرين، فما زالَ بهما حتى أسلما.
          وفي «تفسير أبي اللَّيث» ذكر القاسمُ بن عبَّاد بإسنادهِ عن عبد الله بن دينار: أنَّ لُقمان قَدِمَ من سَفَرٍ فَلَقِيَه غُلامُه، فقال: ما فعلَ أبي؟ قال: قد مات، قال: قد ملكتُ أمري، قال: وما فعلت أمِّي؟ قال: قد ماتت، قال: ذهب همِّي، قال: ما فعلت أختي؟ قال: قد ماتت، قال: سُترت عورتي، قال: فما فعلت امرأتي؟ قال: قد ماتت قال: جُدِّد فراشي، قال: فما فعل أخي؟ قال: مات قال: انقطعَ ظهري، ويروى: قال: انكسرَ جناحي ثمَّ قال: ما فعل ابني؟ قال: مات، قال: انصدعَ قلبي.
          ومن وقفَ على {لَا تُشْرِكْ} جَعَل بالله قسماً {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] لأنَّ التَّسوية بين من لا نعمة إلَّا منه ومن لا نعمةَ منه البتَّة ظلم لا يُكْتَنَه كُنهه {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] أي: ذات وهنٍ، أو تهِنُ وهناً على وهنٍ؛ أي: تضعفُ ضَعْفاً فوق ضَعْفٍ، فإنه لا يزال يتضاعفُ ضَعْفها ويتزايدُ؛ لأنَّ الحَمْل كلَّما ازدادَ وعظُم ازدادتْ ثِقَلاً وضَعْفاً، والجملةُ في موضع الحال، وهو كقولك: رجع عَوداً على بدءٍ بمعنى: يعودُ عوداً على بدء.
          {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] أي: وفِطَامه في انقضاءِ عامين، وكانت تُرْضعه في تلك المدَّة، وقال صاحب «الكشاف» فإن قلتَ: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟
          قلتُ: المعنى في توقيتهِ بهذه المدَّة أنَّها الغاية التي لا تُتَجاوزُ، والأمرُ فيما دون العامين مَوكول إلى اجتهاد الأمِّ إن علمتْ أنَّه يَقْوَى على الفطام فلها أن تفطمَه، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] وبه استشهدَ الشَّافعي على أنَّ مدَّة الرَّضاع سنتان لا تثبتُ حرمةُ الرَّضاع بعد انقضائهما، وهو مذهبُ أبي يوسف ومحمد.
          وأمَّا عند أبي حنيفة فمدَّة الرَّضاع ثلاثون شهراً، وعن أبي حنيفة: إن فطمتْه قبل العامين فاستغنَى بالطَّعام ثم أرضعتْه لم يكن رضاعاً، وإن أكلَ أكلاً ضعيفاً لم يُستَغْن به عن الرَّضاع، ثمَّ أرضعتْه فهو رَضاع مُحَرِّم.
          {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] تفسير لوصَّينا، أو علَّة له، أو بدل من والديهِ بدل الاشتمال، فإن قيل: قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} كيف اعترض به بين المفسِّر والمفسَّر؟ فالجواب: أنَّه لما وصى بالوالدين ذكر ما تُكَابده الأمُّ وتعانيه من المشاقِّ والمتاعبِ في حملهِ وفصالهِ هذه المدَّة المتطاولة إيجاباً للتَّوصية بالوالدة وتذكيراً بحقِّها / العظيم مفرداً، ومن ثمَّة قال رسول الله صلعم لمن قال له: من أُبرّ؟ ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك)).
          وعن بعض العرب أنَّه حملَ أمَّه إلى الحجِّ على ظهرهِ، وهو يقول في حدائهِ بنفسه:
أَحْمِلُ أَمِّي وَهِي الحَمَّالَةُ                     تُرْضِعُنِي الدِّرَّةَ وَالعُلَالَة
          وَلَا يُجَازَى وَالِدٌ فِعَالَه

          {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] فأحاسبك على شُكرك وكفرك {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] باستحقاقه الإشراك تقليداً لهما.
          وقال الزمخشريُّ: أراد بنفي العلم به نفيه؛ أي: لا تشرك بي ما ليس بشيءٍ، يريدُ الأصنام، كقوله تعالى: {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:42] {فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] صحاباً معروفاً، أو مصاحباً معروفاً حسناً بخُلُقٍ جَميلٍ وحِلْمٍ واحتمالٍ وبرٍّ وصلةٍ عمَّا يرتضيهِ الشَّرع ويقتضيه الكُرَمُ والمُروءةُ. وعن النَّبي صلعم : ((حسنُ المصاحبةِ أن تطعمَهمَا إذا جاعا وأن تكْسُوَهمَا إذا عريا)).
          {وَاتَّبِعْ} في الدين {سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} بالتَّوحيد والإخلاص في الطَّاعة؛ يعني: واتَّبع سبيلَ المؤمنين في دينك، ولا تتَّبع سبيلهما فيه، وإن كنت مأموراً بحُسن مُصاحبتهما في الدنيا {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} مَرجعك ومَرجعهما {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] بأن أُجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما.
          عُلِمَ بذلك حكمُ الدُّنيا وما يجبُ على الإنسان في صُحبتهما ومُعاشرتهما في مراعاة حقِّ الأبوَّة وتعظيمهِ وما لهما من المَواجبِ التي لا يسوغُ الإخلالُ بها ثمَّ بيَّن حكمهمَا وحالهما في الآخرة.
          ورُويَ: أنهما نزلتَا في سعدِ بن أبي وقاص ☺ وأمِّه، وفي القصَّة أنها مكثتْ لإسلامه ثلاثاً لا تطعم ولا تشربُ حتى شَجَرُوا؛ أي: فَتَحُوا فَاها بِعُودٍ.
          ورُوي أنَّه قال: لو كان لها سبعون نفساً فخرجتْ لما ارتدَّدت. قال القاضي: والآيتان معترضتان في تضاعيفِ وصيَّة لقمان تأكيداً لما فيهما من النَّهي عن الإشراك كأنَّه قال: وقد وصَّينا بمثل ما وصَّى به، وذِكْرُ الوالدين للمبالغةِ في ذلك فإنَّهما مع أنَّهما تلوُ الباري في استحقاقِ التَّعظيم / والطَّاعة لا يجوز أن يَسْتَحِقَّاه في الإِشْراك فما ظنُّك بغيرهما.
          {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان:16] أي: إن الخصلة والهنة (1) من الإساءة، أو من الإحسان إن تكن مثلاً في الصِّغر كحبَّةِ الخَرْدل. ورفع نافعٌ: (مثقالُ) على أنَّ الهاء ضمير القصَّة وكان تامَّة، وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة كقوله:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
          أو لأنَّ المراد به الحسنة أو السَّيئة.
          {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} أي: كانت مع صغرها في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرةٍ، أو حيث كانت في العالم العلويِّ كمُحَدَّب السَّموات، أو السُّفْلِيِّ كمُقَعَّرِ الأرض، وفي «الخطط»: في ذكر الصَّخرة إشارة إلى معنى الخفاء، وفي السَّماء والأرض إشارة إلى معنى السِّعة.
          {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يوم القيامة؛ أي: يحضرها فيحاسبُ بها عاملها {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} يصلُ علمُه إلى كلِّ خفي {خَبِيرٌ} [لقمان:16] عالم بُكنهه. وعن قتادة: لطيفٌ باستخراجِها خبيرٌ بمستقرِّها، ورُوي: أنَّ ابن لُقمان قال له: أرأيتَ الحبَّة تكون في مَقْلِ البَحْر؛ أي: في مَغَاصِه، يَعْلمها الله. وفي روايةٍ أنَّه قال لأبيه: يا أبتاه إنْ عَمِلْتُ بالخَطِيئة حيث لا يراني أحدٌ كيف يَعْلمُها الله؟ فقال: إنَّ الله يعلمُ أصغر الأشياء في أخفَى الأمكنة؛ لأنَّ الحبَّة في الصَّخرة أخفى منها في الماء.
          وقيل: الصَّخرة هي التي تحت الأرض، وهي السِّجين يكتب فيها أعمال الكفَّار.
          وقال الكلبي: السِّجِّين: الصخرة التي عليها الأرضون، ويقال: إنَّ تلك الصَّخرة أعظم من الأرضين، وهي مجوَّفة فيها أعمالُ الكفَّار وأرواحُهم فلا تُفتَحُ لهم أبواب السَّماء كما أنَّ أرواحَ المؤمنين في علِّيين، وهي فوقَ السماء السَّابعة. وقرئ في الشَّواذ: ▬فَتَكِنْ↨ بكسر الكاف، من وكنَ الطَّائرُ يكِن: إذا استقرَّ في وكنَتِه، وهي مَقَرُّه ليلاً.
          {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان:17] تكميلاً لنفسك {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} تكميلاً لغيرك {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} يجوز أن يكون عاماً في كلِّ ما يُصيبه من المحنِ وأن يكون خاصاً بما يُصيبه فيما أمرَ به من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ من أذى من يبعثهم على الخير، وينكر عليهم الشَّر، ففيه تنبيه على أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يصبرَ على ما يُصيبه في ذلك إن كان أمرُه ونهيُه لوجهِ الله تعالى؛ لأنَّه قد أصابَه ذلك في ذات الله تعالى.
          {إِنَّ ذَلِكَ} إشارة إلى الصَّبر، أو إلى كلِّ ما أمر به {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] ممَّا عزمه الله من الأمور؛ أيْ: قَطَعَه قَطْعَ إيجابٍ وإلزام، ومنه الحديث: ((لا صيامَ لمن لم يعزمِ الصِّيام من اللَّيل)) أي: لم يقطعْه بالنيِّة، ألا ترى إلى قوله: لمن لم يبيت الصِّيام. ومنه: ((إنَّ الله يحبُّ أن يؤخذَ برُخَصِه كما يُحِبُّ أن يؤخذَ بعزائمهِ)) وقولهم: عزمةً من عزماتِ ربِّنا، ومنه: عزمات الملوك، وذلك / أن يقولَ الملك لبعضِ من تحت يدهِ: عزمتُ عليكَ إلَّا فعلتَ كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدٌّ من فعلهِ، ولا مندوحةَ في تركه.
          وحقيقتُه أنَّه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من مغروماتِ الأمور؛ أي: مقطوعاتها ومفروضَاتُها. ويجوز أن يكون مصدراً في معنى الفاعل، أصله من: عَازِمَات الأُمور، من قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد:21] كقولك: جدَّ الأمرُ وصدقَ القتال.
          وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدمِ هذه الطَّاعات وأنَّها كانت مأموراً بها في سائر الأمم، وأنَّ الصَّلاة لم تزل عظيمةَ الشَّأن سابقةَ القِدَمِ على ما سواهَا مُوصى بها في الأديان كلِّها.
          {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أي: لا تُمِلْه ولا تُوَلِّهم صفحة وجهكَ، كما يفعلُه المتكبِّرون بل أَقْبِلْ على النَّاس بِوَجْهِك: تواضعاً، من الصَّعر، وهو الصَّيَدُ: داءً يَعتري البعيرَ فيلوي عُنقه، وقد فسَّره البخاريُّ بقوله: الإعراض بالوجه؛ يعني: أنَّ التَّصعير المستفاد من تُصَعِّر، هو بمعنى الإعراض بالوجه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (ولا تُصَاعر) وقرئ: (ولا تَصْعِر) والكلُّ واحد، يقال: أصعرَ خدَّه وصَعَره وصَاعَره، كقوله: أعلاه وعَلاه وعَالاه بمعنى.
          {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أي: فرحاً، مصدرٌ وقعَ موقع الحال، أو تمرح مَرَحاً، أو لأجل المَرَحِ، وهو البطرُ والأشرُ، والكلُّ بمعنى واحد، وهو شدَّة الفرح والنَّشاط، وأن يُعْجَبَ بنفسه؛ أي: لا يكن غرضُك في المشي البطالةَ والأشَرَ، كما يمشي كثيرٌ من الناس كذلك لا لكفايةِ مهمٍّ ديني أو دنيوي، ونحوه قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بَطَراً} [الأنفال:47].
          {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] علَّة للنَّهي، وتأخير الفخور، وهو مقابلٌ للمُصَعِّر خدَّه، والمختال للماشي مَرَحاً؛ لتوافق رؤوس الآي {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19] واعدل وتوسَّطْ فيه حتى يكون مشياً بين مشيتين لا تدبَّ دبيبَ المتماوت الذي يُرى أنَّه ميِّت ولا تَثبْ وثِيْبَ الشُّطَّار، قال رسول الله صلعم : ((سرعةُ المشي تُذْهِبُ بهاءَ المؤمن)) وأمَّا قولُ عائشة ♦: «كان إذا مَشى أسرعَ»، فإنما أرادت السُّرعة المرتفعة عن دبيبِ المتماوت. وقرئ: بقطع الهمزة، من أقصد الرَّامي إذا سدَّد سَهمه نحو الرَّمية؛ أي: سدِّد في مشيك.
          {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] وأنقص منه وأقصر، من قولك: فلان يغضُ عن فلان: / إذا وضع عنه، ويقال: واخفضْ صوتَك، و{مِنْ} صلة يعني: لا تكن صيتاً شديد الكلام، ورفعُ الصَّوت في غير الأذان غيرُ مندوبٍ، فإنَّ المندوب في غيره هو الاقتصاد، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].
          وقد روي: «أنَّ أبا بكر ☺ كان يخفِتُ ويقول: أناجِي ربي، وقد عَلِمَ حاجتي. وعمر ☺ كان يجهر ويقول: أطردُ الشَّيطانَ، وأُوْقِظُ الوسنان، فلمَّا نزلت أمرَ رسول الله صلعم أبا بكر ☺ أن يرفعَ قليلاً وعمرَ ☺ أن يخفضَ قليلاً».
          {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} [لقمان:19] أي: أوحشها من قولك: شيءٌ نُكْر إذا أنكرتْه النُّفوس واستوحشتْ منه ونفرت {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] والحِمَارُ مَثَلٌ في الذَّم البليغ والشَّتيمة، لا سيَّما نِهَاقُه، ومِنْ اسْتِفْحَاشِهم لِذِكْرِه مجرَّداً وتفاديهم من اسْمِه: أنَّهم يُكَنُّون عنه ويَرغبون عن التَّصريح فيقولون: الطَّويل الأذنين، كما يُكَنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجريَ ذِكْرُ الحِمارِ في مجلس قومٍ من أولي المروءة، ففي تشبيه الرَّافعين أصواتهم بالحميرِ وتمثيل أصواتهِم بالنَّهيق ثمَّ إخلاءِ الكلام من لفظ التَّشبيه، وإخراجِهِ مخرجَ الاستعارة وإن جُعلِوا حميراً وصوتَهم نهاقاً، مبالغةٌ شديدةٌ في الذَّم والتَّهجين وإفراطٍ في التَّثبيطِ والمَنْع عن رَفْعِ الصَّوت، وتنبيهٌ على أنَّه من كراهةِ الله بمكان.
          فإن قيل: لم وحَّد صوت ولم يَجْمَع؟ فالجواب: أنَّ ليس المراد أن يذكر صوت كلِّ واحدٍ من آحاد هذا الجنس حتى يُجْمَع، وإنما المراد أنَّ كلَّ جنس من الحيوان الناطق له صوتٌ وأنكرُ أصوات هذه الأجناس صوتُ هذا الجنس فوجبَ توحيدُه أو لأنَّه مصدرٌ في الأصل، وأمَّا جَمْع الحمير فقد قيل إنَّه للتَّتميم والمبالغة في النَّكير فإن الصَّوت إذا توافقت عليه الحُمُر كان أشد في النَّكير وقد يمنع كونه جمعاً بناء على أنَّ الزَّمخشري وغيرَه من المحقِّقين لم يذهبوا إلى أنَّه جَمْع، وقالوا: هو بمنزلة أسماء الأجناس، ويجوز أن يقال: الجَمْع المعرَّف باللام قد يزولُ عنه معنى الجمعيَّة، ويُراد به الجنس، وفي اختيارهِ على الحِمَار مُراعاة الفواصل، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: الهنة: كناية عن المعاني كفلان في الأشخاص.