نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً}

          ░30▒ (باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] الآيَةَ / ) لم يذكر البخاري في هذا الباب غير بعض تفسير ألفاظ تتعلَّق بقصَّة موسى ◙ التي وقعت في القرآن من قصصه ◙، والآية في سورة البقرة قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي: واذكر يا محمد حين قال موسى لقومه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وقصتها ما أوردها آدمُ بن أبي إياس في تفسيره قال: حدَّثنا أبو جعفر الرَّازي، عن الرَّبيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان رجلٌ من بني إسرائيل غنياً ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثٌ فقتله ليرثه، ثمَّ ألقاه على مَجْمَع الطَّريق، وأتى موسى ◙ فقال: إنَّ قريبي قُتِلَ وإني لا أجدُ أحداً يُبين لي قاتِلَه غيركَ يا نبيَّ الله، ونادى موسى في النَّاس: من كان عنده عِلْم من هذا فليبينه، فلم يكن عندهم عِلْمٌ فأوحى الله إليه قل لهم: فليذبحوا بقرةً، فعجبوا وقالوا: كيف يطلبُ معرفة من قَتَلَ هذا القتيل، فيؤمرُ بذبح بقرةٍ، وكان ما قصَّ الله.
          {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} يعني: لا هرمة ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] أي: نصف بين البكر والهرمة {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي: صاف {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجبهم {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:70] الآية {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} أي: لم يذلِّلها العمل.
          {تُثِيرُ الْأَرْضَ} يعني: ليست بذلولٍ فتثيرُ الأرض {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} ولا تعمل في الحرث {مُسَلَّمَةٌ} أي: من العيوب {لَا شِيَةَ فِيهَا} أي: لا بياض {قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] قال: ولو أنَّ القوم حين أُمِرُوا بِذَبْحِ بقرةٍ استعرضوا أيَّ بقرةٍ كانت لأجزأتْ عنهم، ولكن شدَّدوا فشدَّد عليهم، ولولا أنَّهم استثنوا، وقالوا: إن شاء الله لمُهتدون لما اهتدوا إليها أبداً، فبلغنا أنَّهم لم يجدوها إلَّا عند عجوز فأغلتْ عليهم في الثَّمن فقال لهم موسى ◙: أنتم شددتُم على أنفسكُم فأعطوها ما سألتْ فذبحوها فأخذوا عظماً منها فضربوا به القتيل فعاشَ فسمَّى اسم قاتله ثمَّ مات مكانه فأخذَ قاتله، وهو قريبُه الذي كان / يريد أن يرثَه فقتلَه الله على أسوأ عمله.
          وقد روي أنهم أعطوا صاحبَ البقرة وزنها عشر مرَّات ذهباً فضربوهُ بالبضعة التي بين الكتفين، وروى ابنُ أبي حاتم قال: حدَّثنا الحسنُ بن محمد بن الصَّباح:حدَّثنا يزيدُ بن هارون:حدَّثنا هشام بنُ حسان، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة بن عَمرو السَّلماني، أحد كبار التَّابعين قال: كان رجلٌ من بني إسرائيل عقيماً لا يُولد له وكان له مال كثيرٌ، وكان ابن أخيه وارثه فقتلَه، ثمَّ احتملَه ليلاً فوضَعه على باب رجلٍ منهم، ثمَّ أصبحَ يدَّعيه عليهم حتى تسلَّحوا وركبَ بعضُهم على بعضٍ فقال ذو الرأي منهم: عَلامَ يقتلُ بعضُكم بعضاً، وهذا رسولُ الله فيكم، فأتوا موسى ◙ فذكروا ذلك له. فقال: إنَّ الله يأمركُم أن تذبحوا بقرةً، قالوا: أتتَّخذنا هزواً، قال: أعوذُ بالله أن أكونَ من الجاهلين، قال: فلو لم يعترضوا لأجزأتْ عنهم أدنى بقرةٍ، ولكنَّهم شدَّدوا فشدَّد الله عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أُمِرُوا بذَبْحِها فوجدوها عند رجلٍ ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جِلدها ذهباً، فأخذوها بملءِ جلدهَا ذهباً.
          ويُرْوَى أن شيخاً صالحاً منهم كان له عجلة فأتى بها الغيضة، وقال: اللَّهمَّ إنِّي أستودعكها لابني حتى يكبر فشبت وكانت وحيدةً بالصِّفات المذكورة فساوموها اليتيم وأمَّه حتى اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، فذبحوها فضربُوه ببعضها، فقام فقالوا: من قتلك؟ قال: هذا، لابن أخيه، ثمَّ مال ميتاً؛ فلم يُعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعده.
          ورواهُ ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة بنحو ذلك.
          ورواه سُنيد من وجهٍ آخر عن محمد بن كعب القُرظي ومحمَّد بن قيس: أنَّ سبطاً من بني إسرائيل لما رأوا كثرةَ شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرورَ الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحداً منهم خارج المدينة إلَّا أدخلوه، وإذا أصبحوا قامَ رئيسهم فنظرَ وتشوف، فإذا لم ير شيئاً فتحَ المدينة، فكانوا مع النَّاس حتى يمسوا.
          قال: وكان رجلٌ من بني إسرائيل له مالٌ كثيرٌ ولم يكن له وارثٌ غير أخيه، فطالت عليه حياته فقتله ليرثه، ثمَّ حمله فوضعَه على باب المدينة، ثمَّ كمن هو وأصحابه.
          قال: فتشوَّف رئيسُ المدينة على باب المدينة فنظرَ فلم ير شيئاً ففتحَ الباب / فلمَّا رأى القتيلَ ردَّ الباب فناداه أخو المقتولِ وأصحابه: هيهات قتلتموه ثمَّ تردون الباب، وكاد أن يكون بين أخ المقتول وبين أهل المدينة قتالٌ حتى لبسوا السلاح، ثم كفَّ بعضهم عن بعض، فأتوا موسى ◙ فشكوا له شأنهم فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرةً، القصة.
          وقال ابنُ كثير: الرِّوايات فيها مختلفة، والظَّاهر أنها مأخوذةٌ من كتبِ بني إسرائيل، وهي ممَّا يجوزُ نَقْلُها، لكن لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب، فلهذا لا يعتمدُ عليها إلَّا ما وافق الحقَّ، والله تعالى أعلم.
          {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} أي: مكان هُزء؛ أي: مهزوءاً بنا، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعاداً لما قاله، واستخفافاً به {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] لأن الهزء في مثل ذلك جهلٌ وسَفَهٌ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له.
          {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] أي: ما حالها وصفاتها، وكان حقُّه أن يقال: أي بقرة هي، أو كيف هي؛ لأنَّ (ما) يُسْأَلُ بها عن الجنس غالباً، لكنَّهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته، ولم يروا مثله.
          {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} لا مسنَّة ولا فتية، يقال: فرضت البقرة فروضاً من الفرض، وهو القطع كأنَّها فرضت سنَّها؛ أي: قطعتها وبلغت آخرها وتركيبُ البكر للأوَّلية، ومنه البكرةُ والباكورة.
          {عَوَانٌ} أي: نصف {بَيْنَ ذَلِكَ} أي: بين ما ذكر من الفارض والبكر {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أي: ما تُؤْمَرُونه بمعنى تُؤْمَرون به من قوله: أمرتك الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به، أو أمركم بمعنى مأموركم.
          {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] الفقوع: نصوعُ الصُّفرة ولذلك يؤكد به، فيقال: أصفر فاقع، كما يقال: أسود حالك، وفي إسناده إلى اللون، وهي صفة {صَفْرَاءُ} لملابسة بها فضل تأكيدٍ كأنَّه قيل: صفراءُ شديدةُ الصُّفرة صفرتها / {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] تعجبهم، والسرور أصله لذَّةٌ في القلب عند حصول نفعٍ، أو توقُّعه من السر.
          {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:70] تكريرٌ للسُّؤال الأوَّل واستكشاف زائد، وقوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} اعتذارٌ عنه؛ أي: إنَّ البقر الموصوف بالتَّعوين والصُّفرة كثيرٌ فاشتبه علينا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] إلى المرادِ ذبحُها، أو إلى القاتل، وفي الحديث: ((لو لم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخِرَ الأبد)) {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] أي: لما تذلل للرُّكاب وسَقْي الحُروث، و{لَا ذَلُولٌ} صفة لبقرة بمعنى غير ذَلول، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأوَّل، والفعلان صفتا ذَلول كأنَّه قيل: لا ذلولٌ مثيرة وساقية.
          {مُسَلَّمَةٌ} سلَّمها الله من العيوب، أو أهلها من العمل، أو أخلصَ لونَها، من سَلِمَ له كذا إذا خَلُصَ له.
          {لَا شِيَةَ فِيهَا} لا لون فيها يخالفُ لون جلدها، وهي في الأصل مصدر وشاه وشْياً وشِيةً: إذا خَلَط بلونه لوناً آخر {قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بحقيقةِ وصف البقرةِ وحَقَّقْتَها لنا {فَذَبَحُوهَا} فيه اختصار والتقدير: فحصَّلوا البقرةَ المنعوتة فذبحوها {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم، أو لخوف الفضيحة في ظهورِ القاتل، أو لغلاء ثمنها، كما مرَّ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة:71] خطاب لجمع لوجود القتل فيهم {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي: اختصمتُم في شأنها، إذ المتخاصمون يدفع بعضُهم بعضاً، أو تدافعتُم بأن طرحَ كلٌّ قَتْلَها عن نفسهِ إلى صاحبه، وأصله: تدارأتُم، فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل.
          {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] مُظْهره لا محالةَ، وأعمل {مُخْرِجٌ} لأنه حكاية مستقبلٍ، كما أَعْمل باسطٌ ذراعيه؛ لأنَّه حكاية حالٍ ماضية {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} [البقرة:73] عطف على ادارأتُمْ، وما بينهما اعتراضٌ، والضَّمير للنَّفس، والتَّذكير على تأويل الشَّخص، أو القتيل {بِبَعْضِهَا} أيِّ بَعْضٍ كان، وقيل: بأصغريها؛ أي: القلب واللِّسان، وقيل: بلسانها، وقيل: بفخذها اليمنى، وقيل: بالأذن، وقيل: بالعجب، / وهو أصل الذنب، وهو أساسُ البدن، وأوَّل ما يُخْلَق وآخر ما يَبْلَى.
          {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يدلُّ على ما حذف، وهو: فضربُوه فحيي، والخطابُ مع من حضرَ حياةَ القتيل، أو نزول الآية {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ} دَلائِلَه على كمال قدرته {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] لكي تكمل عقولكم وتعلموا أنَّ من قدرَ على إحياء نفسٍ قدر على إحياء الأنفُس كلها، أو تعملون على قضيتهِ، ولعلَّه تعالى إنما لم يحييهِ ابتداء، وشرطَ فيه ما شرط لما فيه من التَّقرب وأداء الواجب ونفع اليتيم، والتَّنبيه على بركةِ التَّوكل والشَّفقة على الأولاد، كما في بعض الرِّوايات، وأنَّ من حقِّ الطَّالب: أن يقدم قربة، والمتقرب: أن يتحرَّى الأحسن، ويُغالي بثمنه، كما روي عن عمر ☺: أنَّه ضحَّى بنجيبة؛ أي: ناقةٍ كريمةٍ بثلاثمائة دينار، وأنَّ المؤثِّر في الحقيقة هو الله، والأسباب أمارات لا أثر لها.
          (قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) بالعين المهملة، رُفَيعُ بن مهران الرِّياحي، بالمثناة التحتية (الْعَوَانُ: النَّصَفُ) بفتح النون والصاد (بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ) يعني: أنَّه فسَّر العوان في قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ} [البقرة:68] بين ذلك بقوله: النَّصَفُ: بين البكر والهرمة. ورواه الطَّبراني، عن سلمة، عن أبي إسحاق، عن الزُّهري عنه قوله: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} يعني: لا هرمة ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي: نصف بين البكر والهرمة ({فَاقِعٌ} [البقرة:69] صَافٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}. وعن سعيد بن جبير: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ} صافية اللَّون. وعن قتادة والحسن نحوه.
          وقال العُوفي في «تفسيره» عن ابن عبَّاس ☻ : {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} «شديدُ الصُّفرة تكادُ صفرتُها تبيَضُّ». وعن ابن عمر ☻ : «كانت صفراء الظَّلف». وعن سعيد بن جُبير: كانت صفراء القرن والظَّلف. وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي:حدَّثنا نصر بن علي: أنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال: سوداء شديدة السَّواد. وهذا غريب.
          ({لاَ ذَلُولٌ} [البقرة:71] لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ، {تُثِيرُ الأَرْضَ}: لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ) / أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي: هذه لا ذلول يعني: ليست مُذَلَّلةً بالحرث، ولا معدَّةً للسَّقي في السَّانية، بل هي مُكرَّمةٌ حسناءُ صبيحة.
          وقوله: ((لم يُذِلَّها)) بضم الياء، من الإذلال، ويروى: <لم يذللها> من التَّذليل، والعملُ مرفوع به.
          ({مُسَلَّمَةٌ} مِنَ الْعُيُوبِ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} وفسرها بقوله: من العيوب. وقال عطاء الخراساني: مسلمة القوائم والخلق ({لاَ شِيَةَ}: بَيَاضٌ) فسر الشية: التي هي اللَّون بقوله: بياض؛ يعني: لا بياض فيها. قال أبو العالية والرَّبيع والحسن وقتادة: ليس فيها بياضٌ. وقال عطاءٌ الخراساني: لونها واحدٌ. ورُوي عن عطيَّة ووهب بن منبِّه نحو ذلك. وقال السُّدي: {لَا شِيَةَ فِيْهَا} [البقرة:71] من بياض ولا سواد ولا حمرة.
          ({صَفْرَاءُ} إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ، وَيُقَالُ صَفْرَاءُ، كَقَوْلِهِ {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33]) هذا قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] إن شئت سوداء، كقوله: {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} أي: سود. وغرضه من هذا الكلام: أنَّ الصُّفرة يمكن حملها على المعنى المشهور، وعلى معنى السَّواد، كما في قوله تعالى: {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} فإنَّها فُسِّرتْ بأنَّها صفرٌ تَضْرِبُ إلى سَواد؛ يعني: فاحمل على أيِّهما شئتَ.
          وقد رُوي عن الحسن: أنَّه أخذ أنَّها سوداء من قوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} حيث قال: صفراء فاقع؛ أي: سوداء شديدةُ السَّواد، ولعلَّه مستعارٌ من صفة الإبل؛ لأنَّ سواده يعلوهُ صفرةٌ. وقال العيني: وقوله: {جِمَالاَتٌ} جَمْع الجَمْع؛ لأنها جمع جِمَالة، والجِمَالة جَمْع جَمَل.
          وفسَّرها مجاهد: بسود، ويقال للجمل الأسود: أصفر؛ لأنَّه لا يوجد جمل أسود إلَّا وهو مشرب بصفرة.
          ({فَادَّارَأْتُمْ} اخْتَلَفْتُمْ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} وفسر قوله)ادَّارَأْتُمْ(بقوله: اختلفتم، وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد أنَّه قال في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}[البقرة:72] اختلفتُم. وقال عطاء الخراساني والضَّحَّاك: اختصمتُم فيها. وقال أبو عبيدة: هو من التَّدَارئِ، وهو التَّدافع.