نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قصة يأجوج ومأجوج

          ░7▒ (بابُ قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هما اسما رجلين ابني يافث بن نوح ◙، كذا ذكره القاضي عياض مشتقَّان من تأجج النَّار، وهي حرارتها واشتعالها، سموا بذلك؛ لكثرتهم وشدَّتهم، وهذا على قراءة مَنْ هَمَز، وقيل أيضاً: من الأُجاج، وهو الماء الشَّديد الملوحة، وقيل: هما اسمان أعجميان غير مشتقَّين. وفي «المنتهى»: مَنْ هَمَزَهما جَعَل وَزْنَ يأجوج يفعولاً من أجيج النَّار، أو الظَّليم، ومن لا يهمزهما يجعلهما أعجميين. وقال الأخفشُ: من همزهما جعل همزتهما أصلية، ومن لم يهمزْهما جعل الألفين زائدتين بجعل ياجوج فاعولا من يججت، وماجوج فاعولا من مججتُ الشيء من فمي.
          وقال الزَّمخشري: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان بدليل منع الصَّرف للعجمةِ والعلمية، وهم من ذريَّة آدم بلا خلاف، ولكن اختلفوا: فقيل: إنهم من ولد يافث بن نوح ◙، قاله مجاهد، وقيل: إنهم جيل من الترك، قاله الضَّحَّاك، وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوجُ من الجِيْل والدَّيْلَم، ذكره الزَّمخشري، وقيل: هم من الترك مثل المغول، وهم أشدُّ بأساً / وأكثر فساداً من هؤلاء، وقيل: هم من بني آدم، ولكن من غير حوَّاء؛ لأنَّ آدم نام فاحتلمَ، فامتزجتْ نطفته بالتراب، فلمَّا انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرجَ منه، فخلقَ الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، وهم متعلِّقون بنا من جهة الأب دون الأم، حكاه الثَّعلبي عن كعب الأحبار. وحكاه النَّووي أيضاً في «شرح مسلم» وغيره، ولكن العلماء ضعَّفوه.
          وقال ابنُ كثير: وهو جديرٌ بذلك، إذ لا دليلَ عليه، بل هو مخالفٌ لما ذكروا من أن جميعَ النَّاس اليوم من ذريَّة نوح ◙ بنصِّ القرآن. وقد جاء في الحديث أيضاً: امتناع الاحتلام على الأنبياء ‰.
          وقال نُعيم بن حماد: حدَّثنا يحيى بن سعيد: حدَّثني سليمان بن عيسى، قال: بلغني أنهم عشرون أمَّة: يأجوج، ومأجوج، ويأجيج، وأجيج، والغيلانين، والغسلين، والقرانين، والقوطئين، وهو الذي يلتحف أذنه، والقريطين، والكنعانين، والدفرائين، والحاجونين، والأنطار، واليعاسين، ورؤوسهم رؤوس الكلاب.
          وعن عبد الله بن عمر ☻ بإسنادٍ جيدٍ: الإنس عشرة أجزاء، تسعة يأجوج ومأجوج، وسائر النَّاس جزءٌ واحدٌ. وعن عطيَّة بن حسان: أنهم أمَّتان في كلِّ أمة أربعمائة ألف أمَّة، ليس فيها أمة تشبه الأخرى. وذكر القرطبيُّ مرفوعاً: ((يأجوجُ أمَّة لها أربعمائة أمير، وكذلك مأجوج صنفٌ منهم، طوله مائة وعشرون ذراعاً)). قال: ويروى: أنَّهم يأكلون جميع حشراتِ الأرض من الحيَّات والعقارب، وكلِّ ذي روح من الطَّير وغيره، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، يتداعون تداعيَ الحمام، ويعوون عواءَ الكلاب، ومنهم من له قرنٌ وذنبٌ وأنيابٌ بارزة، يأكلون اللُّحوم النيَّة.
          وقال ابن عبد البر في كتاب «الأمم»: هم أمَّة لا يقدر أحدٌ على استقصاء ذكرهم لكثرتهم، ومقدار الربع العامر مائة وعشرون سنة، وإنَّ تسعين منها ليأجوج ومأجوج، وهم أربعون أمة مختلفو الخلق والقدود، في كلِّ أمة ملك ولغة، ومنهم من مَشْيُه وَثْبٌ، وبعضُهم يُغيرُ على بَعْضٍ، ومنهم من لا يتكلَّم إلَّا همهمةً، ومنهم مشوَّهون، وفيهم شدَّة وبأسٌ، / وأكثر طعامهم الصَّيد، وربما أكلَ بعضهم بعضاً.
          وذكر الباجي عن عبد الرَّحمن بن ثابت قال: الأرض خمسمائة عام منها ثلاثمائة بحور، ومائة وتسعون ليأجوج ومأجوج، وسبع للحبشة، وثلاث لسائر النَّاس. وروى ابنُ مَرْدويه في «تفسيره»: عن أحمد بن كامل:حدَّثنا محمَّد بن سعد العوفي: حدَّثنا أبي: حدَّثنا عمِّي:حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عبَّاس، عن أبي سعيد الخدري ♥ قال: قال نبي الله صلعم وذكر يأجوج ومأجوج: ((لا يموت الرَّجل منهم حتى يولدَ لصلبه ألف رجل)). وبإسنادِهِ عن حذيفة ☺ مرفوعاً: ((يأجوج ومأجوج أمم كثيرة كلُّ أمة أربعمائة ألف رجلٍ، لا يموت أحدُهم حتى ينظرَ إلى ألف رجلٍ من صُلْبِه، كُلُّهم قد حملوا السِّلاح)) الحديث.
          وذكر أبو نُعيم: أنَّ صنفاً منهم أربعة أذرع طولاً، وأربعة أذرع عرضاً، يأكلون مشائم نسائهم. وعن عليٍّ ☺: صنف منهم في طول شبرٍ، له مخاليبٌ وأنيابُ السِّباع، وتداعي الحمام، وعواء الذِّئب، وشعور تقيهم الحرَّ والبرد، وآذان عظام أحدهما وبرة يُشَتُّون فيها، والأخرى جلدةٌ يُصَيِّفون فيها.
          وفي «التذكرة»: وصنفٌ منهم كالأرز طوله مائة وعشرون ذراعاً، وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، ويأكلون من مات منهم.
          وعن كعب الأحبار: أنَّ التِّنين إذا آذى أهل الأرض نقلَه الله إلى يأجوج ومأجوج، فجعلَه رزقاً لهم، فيجزرونها كما تجزرون الإبل والبقر، ذكره نُعيم بن حماد في كتاب «الفتن». وروى مقاتل بن حيَّان عن عكرمة مرفوعاً: ((بعثني الله ليلة أُسري بي إلى يأجوج ومأجوج، فدعوتُهُم إلى دين الله تعالى، فأبوا أن يجيبوني، فهم في النَّار، ومن عصى من ولد آدمَ وولدِ إبليس)).
          (وَقَوْلِ اللهِ ╡) بالجرِّ عطفاً على مدخول الباب، وفي بعض النسخ: <باب قول الله ╡> من غير ذِكْرِ قصة يأجوج ومأجوج ({قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِن يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الكهف:94]) وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) هو أيضاً عطف على ما قبله، وفي أكثر الأصول: وقع هكذا: <باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] إلى آخره> / من غير ذكر قصة يأجوج ومأجوج، وقول الله ╡: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}.
          ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {سَبَبَاً} [الكهف:83-92]) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وساق غيره الآية، ثمَّ اتَّفقوا في قوله: (طَرِيْقَاً) هو قول أبي عبيدة في «المجاز»، وقد سقط قوله: <طريقاً> في بعض نسخ البخاري (إِلَى قَوْلِهِ {ائْتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96]) والآيات في أواخر سورة الكهف، قال الله تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} السَّائلون هم اليهود سألوا النَّبي صلعم على جهةِ الامتحان. وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه، وليس ذو القرنين المذكور في القرآن هو الإسكندر اليُوناني الذي بنى الإسكندرية؛ لأنَّه كان وزيره ومعلِّمه أرسططاليس، وكان يأْتَمْرُ بِأَمْرِه، وهو من الكفَّار بلا شك.
          وذو القرنين المذكور في القرآن عبدٌ صالحٌ مَلَكَ الأرضَ شرقاً وغرباً. قال الزَّمخشري: ذو القرنين: هو الإسكندر الذي ملك الدنيا، قيل: ملكها مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمروذ وبخت نصر. واختلف فيه فقيل: كان عبداً صالحاً ملَّكه الله الأرض، وأعطاهُ العِلْمَ والحِكْمَةَ، وألبسه الهيبة، وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه، وقيل: كان نبياً، قاله الضحاك وعبد الله بن عمرو أيضاً، وعليه ظاهر القرآن.
          وروى الحاكم من حديث أبي هريرة ☺ مرفوعاً: ((ما أدري أكان ذو القرنين نبيًّا أم لا))، وقيل: كان رسولاً. وقال الثَّعلبي: والصَّحيح إن شاء الله تعالى: كان نبياً مرسلاً، ووزيره الخضر ◙، وقيل: كان ملكاً من الملائكة. وعن عمر ☺: أنَّه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللَّهمَّ غفراً، أما رضيتُم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسمَّيتم بأسماء الملائكة؟
          وعن علي ☺: سُخِّر له السَّحاب، ومُدَّت له الأسباب، وبُسط له النُّور، وسئل عنه فقال: أحب الله فأحبه.
          وأغرب الجاحظ في «الحيوان» فحكى أنَّ أمه كانت من بني آدم، وأنَّ أباه كان من الملائكة، قال: واسم أبيه: فَيْرَى، واسم أمِّه: غَيْرَى، والله أعلم بصحَّته، وممَّا يدلُّ على أنَّه ليس الإسكندر اليوناني ما روى الفاكهي من طريق عبيد بن عُمير: أنَّ ذا القرنين حجَّ ماشياً، فسمع به إبراهيم ◙
          فتلقَّاه. /
          ومن طريق عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّ ذا القرنين دخل المسجد الحرام، فسلَّم على إبراهيم ◙ وصافحه»، ويقال: أنَّه أوَّل من صافح.
          ومن طريق عثمان بن ساج: أنَّ ذا القرنين سأل إبراهيم ◙ أن يدعو له، فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري؟ فقال: لم يكن ذلك عن أمري، يعني: أنَّ بعض الجند فعل ذلك بغير علمه.
          وذكر ابنُ هشام في «التيجان»: أنَّ إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في شيءٍ، فحكم له.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق علياء بن أحمد: أنَّ ذا القرنين قدم مكَّة فوجد إبراهيم وإسماعيل ♂ يبنيان الكعبة، فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال: من يشهد لكما، فقامت خمسة أكبش فشهدتْ، فقال: صدقتُما.
          قال الحافظُ العسقلاني: الأكبش المذكورة: حجارة، ويحتمل أن تكون غنماً، فهذه الآثار يشدُّ بعضها بعضاً، ويَدُلُّ على قِدَمِ عَهْدِ ذي القرنين، وممَّا يدلُّ عليه أيضاً: أنَّه كان ذو القرنين من العرب، وأمَّا الإسكندر اليوناني فهو من اليونان، والعرب كلها من ولد سام بن نوح ◙ بالاتفاق، واليونان من ولد يافث بن نوح ◙، فافترقا.
          وفي إيراد المصنِّف قصَّة ذي القرنين قبل قصَّة إبراهيم ◙: إشارة إلى توهين قول من زعم: أنَّه الإسكندر اليوناني؛ لأنَّه كان قريباً من زمن عيسى ◙، وبين زمن إبراهيم وعيسى ♂ أكثر من ألفي سنة، وقيل: إنَّه الإسكندر اليوناني، وإليه ذهب الزَّمخشري، وتبعه القاضي. واختلف في زمانه: فقيل: في القرن الأوَّل من ولد يافث بن نوح ◙، روي ذلك عن علي ☺، وأنَّه ولد بأرض الرُّوم، وقيل: كان بعد نمروذ، روي ذلك عن الحسن، وقيل: إنَّه من ولد إسحاق من ذرِّية العِيْصِ، روي ذلك عن مقاتل، وقيل: كان ذلك في زمان الفترة بين موسى وعيسى ♂، وقيل: في زمان الفترةِ بين عيسى ومحمَّد ╨.
          والأصحُّ: أنه من ولد سام بن نوح ◙، وأنه كان في أيام إبراهيم الخليل ◙، واجتمع به بالشام، وقيل: بمكة، كما تقدم.
          وأمَّا ما أخرجه الطَّبري ومحمَّد بن الربيع من حديث عقبة بن عامر ☺ بإسناد فيه ابن لهيعة: / أنَّ رجلاً سأل النَّبي صلعم عن ذي القرنين فقال: ((كان من الروم فأعطي ملكاً، فصار إلى مصر وبَنَى الإسكندرية، فلمَّا فرغَ أتاه مَلَكٌ فعرجَ به، فقال: انظرْ ما تحتك، قال: أرى مدينة واحدةً، قال: تلك الأرض كلها، وإنما أرادَ الله أن يريك، وقد جعل لك في الأرض سلطاناً، فسر فيها، وعَلِّم الجاهِل، وثبِّت العالِم))، فقد ضعَّفه الحفاظ، والله تعالى أعلم.
          وقال الحافظُ العسقلاني: والذي يظهرُ: أنَّ الإسكندر المتأخر يلقَّب بذي القرنين تشبيهاً بالمتقدِّم؛ لسعة مُلكه، وغلبته على البلاد الكثيرة، أو لأنَّه لما غلب على الفرس، وقتل مَلِكَهم انتظمَ له مُلْكُ المَمْلَكَتين الواسِعَتين: الرُّوم والفرس، فلُقِّب بذي القرنين لذلك.
          والحقُّ: أنَّ الذي قصَّ الله نبأهُ في القرآن هو المتقدِّم.
          ثمِّ إنِّه قد اختلف في اسمه: فروى ابن مَرْدويه من حديث ابن عبَّاس ☻ : أنَّه عبد الله بن الضَّحَّاك بن معد بن عدنان، وإسنادُهُ ضعيفٌ جداً، وهو مباين لما تقدَّم أنَّه كان في زمن إبراهيم ◙، فكيف يكون من ذرِّيته، لاسيَّما على قول من قال: كان بين عدنان وإبراهيم ◙ أربعون أباً. وقيل: اسمه الهَمَيْسَع، ذكره الهمداني، قال: وكنيتُه أبو الصَّعب بن عَمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قفان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان، وقيل: بإسقاط عبد الله الأول، وقيل: اسمه الصَّعب، وبه جزم كعب الأحبار.
          وذكره ابنُ هشام في «التيجان» عن ابن عبَّاس ☻ أيضاً، وأصحُّ ما قيل في أسمائه: الصَّعب؛ لكثرة القائلين به، ولورودهِ في كثير من أشعار العرب.
          قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
وَالصَّعْبُ ذُو القَرْنَينِ أَمْسَى ثَاوِياً                     بِالحِنْوِ فِي جَدَثٍ هُنَاكَ مُقِيمُ
          والحِنْو، بكسر المهملة وسكون النون: في ناحية العراق.
          وقال الرَّبيع بن ضُبيع:
وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَمَّرَ مُلْكَهُ                     أَلْفَيْنِ أَمْسَى بَعْدَ ذَاكَ رَمِيمًا
          وقال قُسُّ بن ساعدة:
وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا                     بِاللَّحْدِ بَيْنَ مَلَاعِبِ الْأَرْيَاحِ
          ووقع أيضاً مثله في شعر امرئ القيس، وأوس بن حجر، وطرفة بن العبد، وغيرهم، وقد اختلف في اسم أبيه أيضاً: فقال كعب: هو أبو مراثد، وقال الهمداني: هو / مالك بن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن سبأ، وقيل: مصعب بن عبد الله فينان، وقيل: مرزبه، وقيل: مرزبان بن مردبه، الابن بزاي والأب بدال، وقيل: هو هرمسُ بن هردس، وهذا ليس من أسماء العرب، ولا الذي قبله.
          وحكى القرطبي: أنَّه قيل فيه: أفريدون الذي قتل الضَّحَّاك الجبار.
          وفيه يقول الشاعر:
فَكَأنَّه الضَّحَّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ                     بِالعَالَمِينَ وَأَنتَ أَفْرِيدُونَا
          وللضَّحَّاك قصَّة طويلة ذكرها الطَّبري وغيره.
          وأمَّا أَفْرِيدون فذكروه في ملوك الفرس الأُول، والأقوى: أنَّ ذا القرنين مضن العرب، كما تقدَّم، ويدلُّ على ذلك قول تُبَّع:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِيَ مُسْلِمًا                     مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَحْشُدُ
مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ عَمَّتِي                     مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الْهُدْهُدُ
          وقال الحارثُ يفتخرُ بكون ذي القرنين من العرب يخاطبُ قوماً من مضر:
سَمُّوا لَنَا وَاحِدًا مِنْكُمْ فَنَعْرِفُهُ                     فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِاسْمِ الْمَلْكِ مُحْتَمِلاً
كَالتُّبَّعَيْنِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ يَقْبَلُهُ                     أَهْلُ الْحِجَى وَأَحَقُّ الْقَوْلِ مَا قُبِلاَ
          وقال النُّعمان بن بشير:
وَمَنْ ذَا يُعَادِينَا مِنَ النَّاسِ مَعْشَرٌ                     كِرَامٌ وَذُو الْقَرْنَيْنِ مِنَّا وَحَاتِمُ
          وقد جاء في حديث: أنَّه من حِمْيَر وأمُّه رومية، وأنَّه كان يقال له: ابن الفيلسوف؛ لعقله، وذكر ابنُ هشام: أنَّه أوَّل التبائعة، وذكر مقاتل: أنَّه من حِمْيَر وفد أبوه إلى الرُّوم، فتزوَّج امرأة من غسَّان، فولدت له ذا القرنين.
          وقال وهبُ بن منبِّه: وسمِّي الإسكندر، ومن هنا تشارك هو والإسكندر اليوناني في الاسم، وكثير من النَّاس يخطئون في هذا، ويزعمون أنَّ الإسكندر المذكور في القرآن هو الإسكندرُ اليوناني، وهو زعمٌ فاسدٌ على ما تقدَّم، ثمَّ إنَّه قد اختلفَ في سبب تسميتهِ ذا القرنين: فقيل: لأنَّه بلغ المشرق والمغرب؛ قُطْرَي الأرض، وقيل: لأنَّه ملكهما. فعن النَّبي صلعم : سمِّي ذا القرنين لأنَّه طاف قرني الدُّنيا. يعني: جانبيها شرقاً وغرباً. وقيل: كان له قرنان؛ أي: ضفيرتان تواريهما العمامة، والعربُ تسمِّي الخصلة من الشَّعر قرناً، وقرون الناس: ضفائرهم، ومنه في حديث أمِّ عطيَّة في غَسْلِ ابنَتِه: ((وأَمَرَنا / أن نجعلَ رأسها ثلاثة قُرُون)). ومنه قول جميل:
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذاً بِقُرُونِهَا
          وقيل: كانت له غديرتان من شعرٍ يطأُ عليهما، وقيل: كان صفحتا رأسهِ من نحاسٍ، روي ذلك عن مجاهد، وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: لأنَّه عمر حتى انقرضَ في زمانه قرنان من الناس، وقيل: كان في رأسه ما يشبهُ القرنين، وقيل: رأى أنَّه قبض على قرني الشَّمس، وقيل: لأنَّ قرني الشَّيطان عند مطلع الشَّمس، وقد بلغه.
          وعن وهب: لأنَّه ملك الروم والفارس، وروي: الروم والترك، وقيل: لأنَّه كان كريم الطَّرفين الأب والأم كانا من بيوت شرف، وقيل: لأنَّه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركائبه جميعاً.
          وسأل ابنُ الكواء علياً ☺: ما ذو القرنين أمَلَكٌ أم نبيٌّ؟ فقال: ليس بمَلَكٍ ولا نبيٍّ، ولكنْ كان عبداً صالحاً، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثمَّ بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله، فسمِّي ذا القرنين. يعني: أنَّه دعا قومه إلى التَّوحيد فضربوه على قرنه فمات، ثمَّ بُعِثَ فضربوه على قرنه الآخر، فمات ثمَّ بُعِثَ، وقيل: لأنَّه أُعْطِيَ عِلْمَ الظَّاهر والباطن، حكاه الثَّعلبي، وقيل: لأنَّه دخل أرض النُّور، وأرض الظُّلمة مع وزيره الخضر، وفاته عين الحياة، وحظي بها الخضر، فاغتمَّ لذلك غمًّا شديداً، فأيقنَ بالموت، فمات بدومةِ الجندل، وكان منزله، روي هكذا عن عليٍّ ☺، وقيل: بشهرزور، وقيل: بأرض بابل، وكان قد ترك الدُّنيا وتزهَّد، وهو الأصح، وقيل: مات بالقدس، ذكره أبو بكر الواسطي الخطيب في «فضائل القدس»، قيل: وكان عدد ما سار في الأرض في البلاد منذ يوم بعثه الله تعالى إلى أن قُبض خمسمائة عام.
          وقال مجاهد: عاشَ ألف سنة مثل آدم ◙، وقيل: كان مدَّة ملكه ألفي سنة، وكان في دين الخليل ◙، وقيل: عاش إلى أن أدركَه سيل العَرِمِ. وقال ابنُ عبَّاس ☻ : بلغني: أنَّه عاش ستاً وثلاثين سنة، وقيل: ثنتين وثلاثين سنة، والله تعالى أعلم.
          {قُلْ} خطاب للنَّبي صلعم {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} [الكهف:83] قال الزَّمخشري: الخطاب لأحد الفريقين {مِنْهُ ذِكْراً} أي: من أخباره وقصصه {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من أسباب كلِّ شيءٍ؛ أي: أَرَادَهُ من أغراضه ومقاصده في ملكه {سَبَباً} طريقاً موصلاً إليه، والسبب: / ما يتوصَّل به إلى المقصود من عِلْمٍ، أو قُدْرةٍ، أو آلةٍ، فأراد: بلغ المغرب.
          {فَأَتْبَعَ سَبَباً} يوصله إليه حتى بلغَ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً، وأراد بلوغ السدين، فأتبع سبباً، ويقال: سهَّلنا عليه الأمر في السير في الأرض حتى بلغ مشارقها ومغاربها. قال عليٌّ ☺: سخَّر الله له السَّحاب، فحُمِلَ عليه وبَسَطَ له النُّور، فكان اللَّيلُ والنَّهارُ عليه سواء.
          وقال ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} أي: علماً يتسبَّب به إلى ما يريد. وقيل: علماً بالطُّرق والمَسالك، فسخَّرنا له أقطار الأرض كما سَخَّر الريحَ لسليمان ◙، وقيل: جَعَلَ له في كلِّ أمَّة سلطاناً وهيبةً، وقيل: ما يستعينُ به على لقاء العدو.
          {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي: ذات حمأة، من حَمِئَتِ البئُر: إذا صارت فيها الحمأة، ومن قرأ: (حامية)، فقيل: معناه مثل الأولى، وقيل: حارة، ويجوز أن تكون حارَّة وذات حمأة.
          وعن أبي ذرٍّ ☺: كنت رديفَ رسول الله صلعم على جَمَلٍ، فرأى الشَّمس حين غابت فقال: ((أتدرِي يا أبا ذرٍّ أين تغربُ هذه؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّها تغربُ في عين حامية)). وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عمر وابن عَمرو بن العاص والحسن، وكذا قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة. وقرأ ابن عبَّاس ☻ : {حَمِئَةٍ} وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وحفص.
          {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً} أي: وجد عند العين، أو عند نهاية العِمَارة قوماً لباسُهم جلود السِّباع، وليس لهم طعام إلَّا ما أحرقتْه الشَّمس من الدَّواب إذا غربت نحوها، وما لفَظَتِ العَيْنُ من الحيتان إذا وَقَعَتْ. وعن ابن السَّائب: هناك قوم مؤمنون وقوم كافرون.
          {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} من قال: إنَّه نبي قال: هذا القولُ وحْيٌ، ومن منع ذلك قال: إنَّه إلهام، أو على لسان نبيٍّ {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} أي: بالقتل على كفرهم {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي: بالإرشاد وتعليم الشَّرائع. قال الزَّمخشري: كانوا كفرةً فخيره الله بين أن يعذِّبهم بالقتل، وأن يدعوهُم إلى الإسلام، فاختار الدَّعوة، / وقيل: خيَّره بين القتل والأسر، وسمَّاه إحساناً في مقابلة القتل، ويؤيِّد الأوَّل قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} يعني: إمَّا من دعوته، فظلمَ نفسه بالإصرار على كُفْره، واستمرَّ على ظُلمه العظيم الذي هو الشِّرك فنعذِّبه أنا ومن معي في الدُّنيا بالقَتْل، ثمَّ يعذِّبه الله في الآخرة عذاباً منكراً لم يعهد مثله. وعن قتادة: كان يَطْبُخُ من كَفَرَ في القُدُور، وهو العذاب النُّكر.
          {وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} وهو ما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ} في الدَّارين (جَزَاءُ الْحُسْنَى) أي: جزاء فعلته الحسنى، وقرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب: {جَزَاءً} منوناً منصوباً على الحال؛ أي: فله المثوبة الحسنى؛ أي: الجنة مجزياً بها، أو على المصدر لفعله المقدر حالاً؛ أي: يجزى بها جزاء. وعن قتادة: ومن آمن أعطاه وكساه.
          {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا} أي: ممَّا نأمر به {يُسْراً} سهلاً متيسراً غير شاق، وتقديره: ذا يسر؛ أي: لا نأمره بالصَّعب الشَّاق، ولكن بالسَّهل المتيسِّر من الزكاة والخراج وغير ذلك {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي: ثمَّ أتبع طريقاً يوصله إلى المشرق {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي: الموضع الذي تطلعُ الشمس عليه أولاً من مَعْمُورة الأرض. وقرئ: بفتح اللام على إضمار مضاف؛ أي: مكان مطلع الشَّمس، فإنَّه مصدر.
          {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} قيل: هم الزِّنج {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا} أي: من دون الشَّمس وإمامها {سِتْراً} من اللِّباس. وعن مجاهد: مَنْ لا يلبس الثِّياب من السُّودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض، وقيل: من البناء. وعن كعب الأحبار: أنَّ أرضهم لا تمسك الأبنية، ولا تَستقِرُّ عليها الأبنية، وقد اتخذوا أسراباً، فإذا طلعت الشَّمس دخلوها، فإذا ارتفعَ النَّهار خرجوا إلى معايشهم وحُروثهم.
          وعن الحسن: كانت أرضهم على شاطئ البحرِ على الماء لا تحتملُ البناء، فإذا طلعت عليهم الشَّمس دخلوا في الماء، وإذا ارتفعتْ عنهم خرجوا. وعن بعضهم: خرجتُ حتى جاوزتُ الصِّين، فسألتُ عن هؤلاء، فقيل: بينك وبينهم مسيرةَ يوم وليلة فبلغتهم، فإذا أحدُهم يفرش أذنَه، ويلبسُ الأخرى، / ومعي صاحبٌ يَعْرِفُ لسانَهم، فقالوا له: جئتنَا تنظرُ كيف تطلعُ الشَّمس؟ قال: فبينا نحن كذلك، إذ سَمِعْنا كهيئةِ الصَّلْصَلة فغشي علي، ثمَّ أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن، فلما طلعت الشَّمس على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سرباً لهم، فلمَّا ارتفع النَّهار خرجوا إلى البحر، فجعلوا يصطادون السَّمك ويطرحونه في الشَّمس، فينضج لهم، والله تعالى أعلم.
          {كَذَلِكَ} أي: أمر ذي القرنين، كما وصفناه في رفعة المكان، وبسطةِ الملك تعظيماً لأمره، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التَّخيير والاختيار، وقيل: لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك السِّتر الذي جعلنا لكم من الأبنية والجبال والحصون والأَكْنَانِ من كلِّ جنس، والثِّياب من كلِّ صنف، وقيل: بلغ مطلع الشَّمس مثل ذلك؛ أي: كما بلغ مغربها، وقيل: تطلعُ على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغربُ عليهم؛ يعني: أنهم كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقيَ منهم على الكفر، وإحسانه إلى من آمن منهم.
          {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من الجنود والآلات وأسباب الملك {خُبْراً} علماً تعلَّق بظواهره وخفاياه، والمراد: أنَّ كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيطُ به إلَّا علم اللَّطيف الخبير {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} يعني: طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشَّمال {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي: الجبلين المبني بينهما سدُّ ذي القرنين، وهما جبلا أرمينية وأذربيجان، وقيل: جبلان في آخر الشِّمال في منقطع أرض الترك ممَّا يلي المشرق منفيْان من ورائهما يأجوج ومأجوج.
          وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب: {بَيْنَ السُّدَّيْنِ} [الكهف:83-93] بالضم، وهما لغتان، قاله الكسائي، وقيل: ما كان من خلق الله فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوحٌ؛ لأنَّ السُّدَّ، بالضم: فعل بمعنى مفعول؛ أي: هو ممَّا فعله الله وخَلَقَه، والسَّد، بالفتح: مصدرٌ: حَدَثٌ يُحْدِثُه الناسُ، وقيل: بالفتح: ما رأيتَه، وبالضمِّ: ما توارى عنك.
          وقد فسَّر البخاري السُّدين بقوله: (وَالسُّدَّيْنِ: الْجَبَلَيْنِ) روى ابنُ أبي حاتم من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً في قصَّة ذي القرنين: ((فإنَّه سار حتى بلغَ مطلعَ الشَّمس، ثمَّ أتى السَّدين، وهما جبلان لينان يَزْلِقُ عنهما كلُّ شيءٍ)). وفي إسناده ضعفٌ.
          وانتصب بين على أنَّه مفعولٌ به مبلوغ كما انجرَّ على الإضافة في قوله تعالى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]، وكما ارتفعَ في قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94] ؛ لأنَّه من الظُّروف المتصرِّفة التي تُستعمل أسماءً وظروفاً {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} أي: أَمام السَّدين {قَوْماً} هم الترك {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93] لا يكادون يفهمونه إلَّا بجهد ومشقَّة من إشارة ونحوها؛ لغرابة لغتهم، وقلَّة فطنتهم. وقرأ حمزة والكسائي: {لا يُفقِهون} بضم الياء وكسر القاف؛ أي: لا يفهمون السَّامع كلامهم، ولا يبينونه لتلعثُمِهم فيه. /
          {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:94] أي: قال مترجمهم، وفي مصحف ابن مسعود ☺: (قال الذين من دونهم) {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قال القاضي: قبيلتان من ولد يافث بن نوح ◙، وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم، وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، وقيل: عربيان من أجَّ الظليم إذا أسرع، وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم، ومُنِعَ صرفُهما للتَّعريف والتأنيث. هذا وقرأ رؤبة: (آجوج ومأجوج) وقد مرَّ التفصيل في ذلك.
          {مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}: أي: في أرضنا بالقتل والتَّخريب وإتلاف الزُّروع، قيل: كانوا يخرجون أيَّام الرَّبيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلَّا أكلوه، ولا يابساً إلَّا احتملوه، وكانوا يلقون منه قتلاً وأذى شديداً، وقيل: كانوا يأكلون النَّاس، وقيل: كانوا يفعلون فعل قوم لوطٍ.
          {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} جُعْلاً نُخْرِجُه من أموالنا، وقرأ حمزة والكسائي: (خراجاً) وكلاهما واحد كالنَّول والنَّوال، وقيل: الخراج على الأرض والذِّمَّة، والخرج: المصدر. وقد فسَّر البخاري قوله خرجاً بقوله: ({خَرْجاً} أَجْراً) روى ابنُ أبي حاتم من طريق ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ {خَرْجاً} قال: أجراً عظيماً {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف:94] يحجر دون خروجهم علينا، وقد ضمَّه من ضم السَّدين غير حمزة والكسائي {قَالَ} [الكهف:95] أي: ذو القرنين {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار والملك خير ممَّا تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة لي إليه، كما قال سليمان ◙: {فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ} [النمل:36]. وقرأ ابنُ كثير: {مَكَّنني} على الأصل.
          {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} بفَعَلَة وصُنَّاع يحسنون البِناء والعَمَل، أو بما أتقوى به من الآلات {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف:95] حاجزاً حصيناً موثقاً، والرَّدم أكبر من السَّد من قولهم: ثوب مردم: إذا كان فيه رقاعٌ فوقَ رِقاعٍ {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96] أي: قِطَعَه، والزُّبرة: القطعةُ الكبيرة، وهو لا يُنافي ردَّ الخراج والاقتصار على المعونة؛ لأنَّ الإيتاء بمعنى المناولة، ويدلُّ عليه قراءة أبي بكر: {ردماً. ائْتونِي} [الكهف:95-96] بكسر النون موصولة الهمزة على معنى: جيئوني بِزُبَرِ الحَديد، والباء محذوفةٌ حَذْفَها في أمرتُك الخَيرَ، ولأنَّ إعطاء الآلة من الإعانة بالقوَّة دون الخراج على العملِ، وقد فسَّر البخاري الزُّبر بقوله: (وَاحِدُهَا / زُبْرَةٌ وَهْيَ الْقِطَعُ) وهكذا فسَّره أبو عبيد حيث قال: زبر الحديد؛ أي: قطع الحديد واحدتها زبرة.
          {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف:96] بفتحتين، جانبا الجبل؛ لأنَّهما يتصادفان؛ أي: يتقابلان. وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريان: بضمتين، وأبو بكر: بضم الصاد وإسكان الدال، وقرئ: بفتح الصاد وضم الدال، وكلها لغات من الصَّدف، وهو الميل؛ لأنَّ كلاًّ منهما منعزلٌ عن الآخر، وقد فسَّر البخاري الصَّدفين بقوله: ({حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصدَفَيْنِ} يُقَالُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☺: الْجَبَلَيْنِ) وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال: بين الجبلين.
          وقال أبو عبيدة: قوله: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي: ما بين النَّاحيتين من الجبلين {قَالَ انْفُخُوا} أي: قال للعَمَلَة: انفخوا في الأكوارِ والحديد {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي: جعل المنفوخ فيه كالنَّار بالإحماء {قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي: آتوني قِطْراً أفرغ عليه قطراً، فحذف الأول لدَلالة الثاني عليه، وبه تمسَّك البصريون على أنَّ إعْمَال الثاني في باب تَنَازُعِ العاملين أولى، إذ لو كان {قِطْراً} مفعول {آَتُونِي} لأضمر مفعول {أُفرِغ} حذراً من الإلباس، والقِطْر: النُّحاس المُذاب؛ لأنَّه يقطر. وقرأ حمزة وأبو بكر: {قال ائتوني} [الكهف:96] موصولة الهمزة.
          وقال البخاري: ({قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف:96] أَصْبُبْ عَلَيْهِ رَصَاصاً) فسر قوله: {قِطْراً} بقوله: رصاصاً، وهو بكسر الراء وفتحها. ثمَّ قال: (وَيُقَالُ: الْحَدِيدُ) أي: القِطر هو الحديدُ، حكاهما أبو عبيدة، قال في قوله: {أَفْرِغْ عليه قِطْراً}؛ أي: أَصُبُّ عليه حَديداً ذائباً، وجعله قوم الرصاص (وَيُقَالُ: الصُّفْرُ) بضم الصاد وكسرها، وفي «المغرب»: الصُّفر: النُّحاس الجيد الذي تُعْمَلُ منه الآنية. روى ابنُ أبي حاتم من طريق الضَّحاك قال: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال: صُفْراً.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : النُّحَاسُ) وصله ابنُ أبي حاتم بإسنادٍ صحيحٍ إلى عكرمة، عن ابن عبَّاس قال:{أُفرِغْ عليه قِطْراً} [الكهف:96]. قال: النحاس ومن طريق السُّدي قال: القطر: النُّحاس، وبناه لهم بالحديدِ والنُّحاس. ومن طريق وَهْبِ بن منبِّه قال: شَرَّفَه بِزُبَرِ الحَديد والنحاس المُذَاب، وجعل له عِرقاً من نُحَاس أصفر، فصار كأنه بُرْدٌ مُحَبَّرٌ من صُفرةِ النُّحاس وحُمْرَتِه وسَوادِ الحَديد.
          {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف:97] بحذف التاء حَذَراً من تلاقي متقاربين. وقرأ حمزة بالإدغام جامعاً بين الساكنين على غير حَدِّه، وقُرِئ: بقلب السين صاداً {أَنْ يَظْهَرُوهُ} أن يعلوه لارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف:97] لصلابته وثخانته، قيل: حفر للأساس حتى بلغَ الماء، وجعل الأساس من الصَّخر والنُّحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطبُ والفحم حتى سدَّ ما بين الجبلين، وساوى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى صارت كالنار، فصب النَّحاس المذاب على الحديد المحمَّى، فاختلطَ، والتصق بعضُها ببعض، وصار جبلاً صَلْداً، وقيل: بناه من الصُّخور مرتبطاً بعضهاً ببعض بكلاليب من حَديدٍ ونُحَاسٍ مُذابٍ في تجاويفها، قيل: بُعْدُ ما بين السَّدين / مائة فرسخ.
          قال البخاري: ({فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يَعْلُوهُ) وهكذا فسَّره أبو عبيدة قال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: أن يعلوهُ، تقول: ظهرتُ فوقَ الجَبَل إذا علوتَه (اسْتَطَاعَ اسْتَفْعَلَ، مِنْ أَطَعْتُ لَهُ، فَلِذَلِكَ فُتِحَ أَسْطَاعَ يَسْطِيعُ) أشار به إلى أنَّ فما اسطاعوا الذي بلا تاء مثناة فوقية جَمْعٌ مفردُه اسطاعَ، ووزنه في الأصل: استفعل؛ لأنه من طُعْت له، بضم الطاء وسكون العين؛ لأنَّه من باب نَصَر يَنْصُر، وهو أجوفُ واوي من الطَّوْع، تقول: طاعَ له وطُعْتُ له، مثل ما قال له وقلت له، ولما نُقِلَ طاعَ إلى باب الاستفعال صار استطاع على وزن استفعل، ثمَّ حُذِفَت التاء للتَّخفيف بعد نقل حركتها إلى الهمزة، فصار أَسْطاع، بفتح الهمزة وسكون السين، وأشار إلى هذا بقوله: فلذلك فتح أَسْطاع يَسطيع؛ أي: فلأجل حذف التاء ونقل حركتها إلى الهمزة، قيل: أَسْطاع يَسطيع، بفتح الهمزة في الماضي وفتح الياء في المستقبل، كذا قال العيني.
          والظَّاهر ما قال الكِرماني ما حاصله: إنَّه حُذِفَتِ التاء منه، ولذلك يفتح حرف المضارعة من يَسطيع، إذ لو كان أفعل من الطَّاعة، وزيد فيه السين؛ لكان مضارِعُه يُسطيع بضم حرف المضارعة.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمُ: أَسْطَاعَ) بفتح الهمزة (يُسْطِيْعُ) بضم الياء على أنه أفعل زيد فيه السين {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف:97] أشار به إلى أن التَّصرف المذكور كان في قوله: فما اسطاعوا أن يظهروه، وأمَّا قوله: وما استطاعوا له نقباً، فعلى الأصل من باب الاستفعال.
          {قَالَ هَذَا} [الكهف:98] أي: السَّد أو الاقتدار على تسويته {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} على عباده ونعمة عظيمة لهم {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي: وَقْتَ وَعْدِهِ بخروج يأجوج ومأجوج، أو إذا دنا مجيءُ يوم القيامة، وشارفَ أن يأتي {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: جعله مدكوكاً مبسوطاً مسوَّى بالأرض، وكلُّ ما انبسطَ بعد ارتفاعٍ فقد اندَكَّ، ومنه الجَمَلُ الأدك: المنبسطُ السَّنام، وقرأ الكوفيون: {دَكَّاءَ} بالمد؛ أي: أرضاً مستوية {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} / كائناً لا محالة، وهو آخر حكاية ذي القرنين.
          وقال البخاري: ({قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاً} أَلْزَقَهُ بِالأَرْضِ) أي: جعله مسوَّى بالأرض. قال أبو عبيدة: جعله دكاً؛ أي: تركه مدكوكاً؛ أي: ألزقه بالأرض (وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ لاَ سَنَامَ لَهَا) يعني: يقال: ناقة دَكَّاء؛ أي: لا سنامَ لها مستوية الظَّهر، والعرب تصفُ الفاعل والمفعول بمصدرهما، فمن ذلك: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: مدكوكاً (وَالدَّكْدَاكُ مِنَ الأَرْضِ مِثْلُهُ) أي: الملصق بالأرض المسوى بها (حَتَّى صَلُبَ وَتَلَبَّدَ) قال الجوهري: الدَّكْداك من الرمل: ما تلبَّد منه بالأرض ولم يرتفع.
          ({وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]) قد عرفت آنفاً أنَّ هذا آخر حكاية ذي القرنين ({وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99]) وهذا ابتداءُ كلامٍ آخر له نوع تعلُّق بما قبله على أحد التَّفسيرين؛ أي: وتركنا بعضَ يأجوج ومأجوج حين يخرجون ممَّا وراء السَّدِّ يموجون في بعض مزدحمين في البلاد.
          روي: أنهم يأتون البحرَ ويشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثمَّ يأكلون الشَّجر ومن ظفروا به ممَّن لم يتحصَّن منهم من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكَّة والمدينة وبيت المقدس، ثمَّ يبعث الله تعالى نَغَفَاً في أَقْفائِهم، فتدخل آذانهم فيموتون. والنَّغَف، بالتحريك والغين المعجمة: الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم. وروى التِّرمذي من حديث السُّدي عن أبي هريرة ☺، وفيه: ((فيخرجون على النَّاس فيستقون المياه)).
          وفي «تفسير مقاتل»: فإذا خرجوا فيشرب أوَّلهم دجلة والفرات حتى يمرَّ آخرهم فيقول: قد كان هاهنا مرَّةً ماء، أو المعنى: وتركنا بعضَ الخلق يوم القيامة يموجُ؛ أي: يضطرب ويختلطُ في بعض إنسهم وجنِّهم، وهم حَيارى من شدَّة يوم القيامة.
          ({حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء:96]) وفي بعض النُّسخ: <باب {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} إلى آخره> حتى هذه حرف ابتداء بسبب إذا؛ لأنها تقتضي جواباً هو المقصود ذكره، قيل: جوابه: واقترب الوعدُ الحقُّ، والواو زائدة كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]. /
          والمعنى: أنَّ حُرمة رجوع أهل قرية أهلكها الله تعالى وامتناعه يستمرُّ إلى قيام السَّاعة، وظهور أماراتها، وهي فتحُ سدِّ يأجوج ومأجوج، فحتى متعلِّقة بقوله: {حَرَامٌ} [الأنبياء:95] وغاية له، وقرأ ابنُ عامر ويعقوب: {فُتِّحَتْ} [الزمر:73] بالتشديد وحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج، وهو سدها، كما حذف المضاف إلى القرية، وهو أهلها، وقد تقدَّم أنَّ يأجوج ومأجوج قبيلتان من ولد سام بن نوح ◙ على ما هو الأصح، وقيل: من ولد يافث، وأنَّه روى ابن مردويه والحاكم من حديث حذيفة ☺ مرفوعاً: ((يأجوجُ أمَّة ومأجوج أمَّة؛ كل أمَّة أربعمائة ألف رجل، لا يموت أحدُهم حتى ينظرَ إلى ألف رجلٍ من صُلبه، كلُّهم قد حَمَلَ السِّلاح، لا يمرُّون على شيءٍ إذا خرجوا إلَّا أكلوه، ويأكلون مَنْ مات منهم)).
          وذكر ابن هشام في «التيجان»: أنَّ أمَّة منهم آمنوا بالله فتركهم ذو القرنين لما بنى السَّد بأرمينية، فسموا الترك لذلك، وقد يقال: النَّاس عشرة أجزاء: تسعة منها يأجوج ومأجوج، وضمير وهم إلى الناس المسوقين إلى المحشر، وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يُفْتَحُ السَّدُّ، والحَدَبُ: النَّشزُ من الأرض؛ أي: المُرْتَفَعُ.
          وقرأ ابن عبَّاس ☻ : ((من كل جدث)) وهو القبر. وينسلون: أي: يُسرعون من النَّسَلَان: وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذِّئب إذا بادر. والعَسَلَان، بالعين المهملة، مثله. وقرئ: (ينسُلون) بضم السين أيضاً.
          (قَالَ قَتَادَةُ: {حَدَبٍ} [الأنبياء:96] أَكَمَةٍ) يعني: أنَّ قتادة فسَّر الحدب: بالأكمة، وهي الأرض المرتَفِعَة (وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلعم : رَأَيْتُ السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ) بضم الباء وهو نوع من الثِّياب معروفٌ، والجمع أبراد وبُرود، والبردة: الشَّملة المخططة، والمُحبَّر، بالحاء المهملة وتشديد الموحدة المفتوحة؛ أي: خط أبيض، وخط أسود، أو أحمر (فَقَالَ: رَأَيْتَهُ) أي: رأيته صحيحاً وأنت صادق في ذلك.
          وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي عمر من طريق سعيد، عن قتادة، عن رجلٍ من أهل المدينة: أنَّه قال للنَّبي صلعم : يا رسول الله، قد رأيت سدَّ يأجوج ومأجوج، قال: ((كيف رأيته؟)) قال: مثل البُرْدِ المُحَبَّر، طريقة حمراء، وطريقة سوداء، قال: ((قد رأيته)).
          ورواه الطَّبراني من طريق سعيد، عن قتادة، عن رجلين، عن أبي بكرة: أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ صلعم فقال، فذكر نحوه. وأخرجه البزَّار من طريق يوسف بن مريم الحنفي، عن أبي بكرة: أنَّ رجلاً رأى السَّدَّ. فساقه مطولاً. وأخرجه ابن مَرْدويه في «تفسيره» عن سليمان بن أحمد: أخبرنا / أحمد بن محمَّد بن يحيى: أخبرنا أبو الجماهر: أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن رجلين، عن أبي بكرة الثَّقفي: أنَّ رجلاً أتى رسول الله صلعم فقال: يا رسول الله، إني قد رأيته؛ يعني: السد، فقال: ((كيف هو؟)) قال: كالبُرْد المُحَبَّر، قال: ((قد رأيته)). قال: وحدثنا قتادة قال: طريقةٌ حَمْراء من نحاسٍ، وطريقةٌ سوداء من حديدٍ.
          وقال نُعيم بن حماد في كتاب «الفتن»: حدَّثنا مسلمة بن علي: حدَّثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: قال رجلٌ: يا رسول الله قد رأيت الرَّدم، وإنَّ الناس يكذِّبونني، فقال: ((كيف رأيته؟)) قال: رأيته كالبُرْد المحبَّر، قال: ((صدقتَ والذي نفسي بيده لقد رأيته ليلة الإسراء لبنة من ذهب، ولبنة من رصاص)).
          وقال الجوفي في «تفسيره»: بُعْدُ ما بين الجبلين مائةُ فرسخ، فلمَّا أَخَذَ ذو القرنين في عَمَلهِ حفرَ له أساساً حتى بلغَ الماء، وجعلَ عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوهُ الصُّخور، وطينه النُّحاس المذاب، فبقيَ كأنَّه عرق من جبلٍ تحت الأرض، ثمَّ عَلَّاه، وشَرَّفَه بِزُبَرِ الحديد والنُّحاسِ المذاب، وجعلَ خِلَاله عِرْقاً من نُحَاس، فصار كأنَّه بُرْد مُحَبَّر.