نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر}

          ░36▒ (باب {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163]) والآية في سورة الأعراف قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ} أي: اسأل يا محمد هؤلاء اليهود التي بحضرتك للتَّقرير والتَّقريع بقديم كفرهم وعصيانهم والإعلام بما هو من علومهم التي لا تُعْلَم إلَّا بالتَّعليم أو بالوحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأْ كتابهم عُلِمَ أنَّه من جهة الوحي فتكون معجزةً عليهم.
          {عَنِ الْقَرْيَةِ} أي: عن قصَّة أصحاب القرية الذين خالفُوا أمرَ الله ففاجأتهم نقمتُه على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحَذِّرْ هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهِم لئلا يَحِلَّ بهم ما حلَّ بإخوانهم وسلفهم.
          {الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} قريبةً منه، وهي أيلةُ، وهي على شاطئِ بحر القلزم، وهي طريق الحاج الذَّاهب إلى مكَّة من مصر بين مدين والطُّور. وحكى ابنُ التين عن الزُّهري أنَّها طبرية، وقيل: هي مدين، رُوِيَ عن ابن عبَّاس ☻ ، وقال ابنُ زيد: هي قرية يقال لها: مَنْتَنا بين مدين وعينونا.
          {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يعتدون ويتجاوزونَ حدودَ الله ويُخالفون فيه أمرَ الله، وهو اصطيادُهم يوم السبت، وقد نهوا عنه وأُمِروا بأن يشتغلوا بالعبادةِ، ويتجرَّدوا لها، وإذ ظرف لكانت، أو حاضرة، أو للمضاف المحذوف، أو بدل منه بدل الاشتمال.
          {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرف ليعدون، أو بدل بعد بدل، وقرئ: {يَعْدُونَ} وأصله يعتدون، وقرئ أيضاً: ▬يُعِدُّون↨ من الإعداد؛ أي: يُعِدُّون آلاتِ الصَّيد يومَ السبب، وقد نهوا أن يَشتغلوا فيه بغيرِ العبادة {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} يوم تعظيمهم أمر السَّبت، مصدر سبتت اليهود: إذا عظَّمت سبتها بترك الصَّيد والتَّجرد للعبادة، وقيل: اسم اليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأوَّل قراءة: ▬يوم إسْبَاتِهم↨، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَلَا تَأْتِيهِمْ} / وقرئ: ▬يُسْبِتُون↨ من أَسْبَت.
          وقوله: {شُرَّعاً} حال من الحيتان، ومعناه: ظاهرة على وجه الماء، قاله ابن عبَّاس ☻ . وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض، يقال: شرعَ علينا فلانٌ: إذا دنا منَّا وأشرف، وشرعتُ على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا.
          {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعرف:163] أي: مثل ذلك البلاء الشَّديد، وهو إظهار السَّمك لهم على ظهر الماء في اليوم الذي حَرَّمَ عليهم صَيْدَهُ {نَبْلُوْهُم} ونختبرهُم بسبب فسقِهم، ويجوز أن يكون كذلك متَّصلاً بما قبله؛ أي: لا يأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت.
          {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} [الأعرف:164] عطف على {إِذْ يَعْدُونَ} [الأعرف:163] وحكمُه حكمه في الإعراب. وقوله: {أُمَّةٌ مِنْهُمْ} [الأعرف:164]؛ أي: جماعةٌ من أصحابِ السَّبت، أو مِنْ أهلِ القرية وهم صلحاؤهم الذين اجتهدوا وركبوا الصَّعب والذَّلول في موعظتهم حتى أيسوا من قبولهم لآخرين، وهم الذين نهوا عن ذلك وأنكروا وكانوا لا يقلعون عن وعظهم، فإنهم كانوا ثلاث فرق:
          فرقة ارتكبوا المنهيَّ واحتالوا على صيدِ السَّمك يوم السبت حيث حفروا حياضاً، وأجروا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت ويصطادونها يوم الأحد.
          وفرقة نهوا عن ذلك وأنكروا ووعظوهُم حتى أيسوا من قبولهم واتِّعاظهم.
          وفرقة نهوا وأنكروا وكانوا لا يقلعون عن وعظهِم فقالت الفرقة الثانية للفرقة الثالثة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} هم المرتكبون المحتالون {اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي: مخترمهم ومطهِّر الأرض منهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} في الآخرة لتمادِيهم في الشَّرِّ، وإنما قالوا ذلك مبالغةً في أنَّ الوعظ لا ينفعُ فيهم، أو سؤالاً عن علَّة الوعظ ونفعه. وقيل: المراد طائفة من الفرقة الهالكةِ أجابوا به وعَّاظهم رداً عليهم وتهكُّماً بهم.
          {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} جواب للسؤال؛ أي: موعظتنا إبلاء عذر إلى الله تعالى حتى لا ننسبَ إلى تفريط في النَّهي عن المنكر، وقد أُخِذَ علينا العهدُ في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وقرأ حفص: {مَعْذِرَةً} بالنصب على المصدر، أو العلة؛ أي: اعتذرنا به معذرة، أو وعظناهم معذرة. /
          {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] أي: لعلَّهم بهذا الإنكار يتَّقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تعالى تائبين، فإذا تابوا تابَ الله عليهم إذ اليأس لا يحصلُ إلَّا بالهلاك {فَلَمَّا نَسُوا} [الأعرف:165] أي: تركوا ترك النَّاسي {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: ما ذكرهُم به صُلحاؤهم وأبوا قبولَ النَّصيحة.
          {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} اعتدوا وخالفوا أمرَ الله، وارتكبوا المنكر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد فعيل من بَؤُسَ يَبْؤُسُ بَأْساً: إذا اشتد {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165] بسبب فسقهم {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} [الأعرف:166] تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} جمع قِرْد، كما أنَّ دِيَكَة جمع دِيْك {خَاسِئِينَ} [الأعراف:166] أي: ذليلين حقيرين مُهانين، وروى ابنُ جرير من طريق العَوفي، عن ابن عبَّاس ☻ : «صار شبانُهم قردةً وشُيوخُهم خنازير».
          قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: الأمة الذين قالوا: لم تَعِظُون، من أيِّ الفريقين هم؟ أَمِنْ فريق النَّاجين أم المعذَّبين؟ قلتُ: من فريق الناجين؛ لأنهم من فريق النَّاهين، وما قالوا ما قالوا إلَّا سائلين عن عِلَّة الوعظ والغرض فيه؛ حيث لم يروا فيه غَرَضاً صَحيحاً لِعِلْمهِم بحالِ القَوم، وإذا عَلِمَ النَّاهي حالَ المنهيِّ وأنَّ النَّهي لا يؤثِّر فيه سقط عنه النَّهي، وربَّما وجبَ الترك لدخولهِ في باب العَبَثِ؛ ألا ترى أنَّك لو ذهبتَ إلى المكَّاسين القاعدين على المَآصِرِ، أو الجلَّادين المرتبين للتَّعذيب لتَعِظَهم وتَكُفَّهم عمَّا هم فيه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلَّا سبباً للتَّلهي بك.
          وأمَّا الآخرون فإنَّما لم يُعْرِضوا عنهم؛ إمَّا لأنَّ يأسهم لم يستحكِم كما استحكمَ يأس الأوَّلين ولم يخبروهُم كما خبروهم، أو لفرطِ حرصهِم وَجدِّهم في أمرهم، كما وصف الله رسوله في قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] وقيل: الأمَّة هم الموعوظون لمَّا وُعِظُوا قالوا للواعظين: لم تعظون منَّا قوماً تزعمون أنَّ الله مُهلكهم أو معذِّبهم.
          وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: «ليت شعري / ما فُعِلَ بهؤلاء الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}، قال عكرمة: فقلت: جعلني الله فداءك ألا ترى أنَّهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعرف:164] فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا»، وزاد محيي السنة في روايته، بعد قوله: جعلني الله فداءك: «وإنْ لم يَقُلِ اللهُ: أنجيتهم، لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين، فقال: نجت الساكتة».
          وعن الحسن: نجتْ فرقتان وهلكتْ فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان، وروي أنَّ اليهود أُمِرُوا باليوم الذي أُمِرْنا به، وهو يوم الجمعة، فتركوهُ واختاروا السَّبت فابتُلوا وحرم عليهم فيه الصَّيد وأُمِروا بتعظيمهِ فكانت الحيتان تأتيهم يوم السَّبت شرعاً بيضاً سماناً كأنَّها المخاضُ لا يُرَى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فكانوا كذلك برهةً من الزمان، ثمَّ جاءهم إبليسُ فقال لهم: إنما نهيتُم عن أخذها يوم السبت فاتَّخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد وأخذَ رجل منهم حوتاً وربطَ في ذنبه خيطاً إلى خشبةٍ في السَّاحل ثمَّ شواه يوم الأحد فوجدَ جاره ريح السَّمك فتطلع في تنوره، فقال: إنِّي أرى الله سيعذبك، فلمَّا لم يره عُذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلمَّا رأوا أنَّ العذاب لا يعاجلهم صَادوا وأَكلوا ومَلَحُوا وبَاعوا، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً: ثلثٌ نهوا، وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثٌ قالوا: لِمَ تَعِظُون قوماً، وثلثٌ هم أصحاب الخطيئة، فلمَّا لم ينتهوا قال المسلمون: إنَّا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود ◙، فأصبحَ النَّاهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحدٌ، فقالوا: إنَّ للنَّاس شأناً، فعلوا الجدارَ، فنظروا فإذا هم قِردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعلَ القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهكم، فيقول برأسه: بلى، وقد سبقَ أنَّه صار الشَّباب قردة والشُّيوخ خنازير.
          وعن الحسن: أكلوا _والله_ أوخم أكلة أكلها أهلُها؛ أثقلُها خزياً في الدُّنيا، وأطولُها عذاباً / في الآخرة، هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوهُ أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله جعل موعداً والساعةُ أدهى وأَمَرْ. انتهى.
          قال العارف الرومي:
نقض ميثاق وشكست توبها                     موجب لعنت بودد رانتها
نقض توب وعهد آن أصحاب سبت                     موجب مسخ آمد وإهلاك مقت
يس خداآن قوم رايو زينة كرد                     جونكة عهد حق شكستندا زنبرد
أندرين أمت نبد مسخ بدن                     ليك مسخ دل بوداي ذو الفطن
مسخ ظاهر بود أهل سبت را                     تابه بيند أهل ظاهر كبت را
أزره سر صد هزاران دكر                     كشته إزتوبه شكستين خوك وخر
توبه كن مردانه وجون أبلهان                     توبه رامشكن بترس أزمسخ هان
سخره إبليس كردد درزمن                     أز ضعيفي راي آن توبه شكن
          تنبيه: لم يذكر المصنف في هذه القصَّة حديثاً مسنداً بل اقتصرَ على تفسيرِ بعض الألفاظ الواقعة في هذه القصَّة فقال:
          ({يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعرف:163] يَتَعَدَّوْنَ: يُجَاوِزُونَ) فسر قوله: {إِذْ يَعْدُونَ} بقوله: يتعدَّون يجاوزون، وقد فسَّرناه آنفاً ({إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} شَوَارِعَ) فسَّر قوله: {شُرَّعاً} بقوله: شوارع، قال العيني: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الشَّرع جمع: شارع، والشَّوارع جمع: شارعة، ومادته تدلُّ على الظُّهور، ومنه شَرَعَ الدينَ: إذا بَيَّنَه وأَظْهَره ({وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَاسِئِينَ}) أي: اقرأ الآيات إلى قوله: {خَاسِئِينَ} [الأعرف:163-166] وقد ذكرناها وفسرناها ({بَئِيسٍ} [الأعرف:165] شَدِيْدٍ) قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {بَئِيْسٍ} أي: شديد، قال الشاعر:
حَنِقًا عَلَيَّ وَمَا تَرَى لِي فِيهِمْ أَمْراً بَئِيساً
          وقد روى عبد الرَّزَّاق من حديث ابن عبَّاس ☻ ، بسندٍ فيهم مبهم، وحكاهُ مالك عن يزيد بن رومان معضلاً، وكذا قال قتادة: إنَّ أصحاب السبت كانوا من أهل أيلة، وأنَّهم لما تحيلوا على صيدِ السَّمك بأن نصبوا الشَّبك يوم السبت، ثمَّ صادوها يوم الأحد، فأنكرَ عليهم قومٌ ونَهَوهم، فأغلظوا لهم القول، فقالت طائفةٌ أخرى: دعوهم واعتزلوا بنا عنهم، فأصبحوا يوماً فلم يروا الذين / اعتدوا، ففتحوا أبوابهم فأمروا رجلاً أن يصعد على سلم فأشرف عليهم فرآهم قد صاروا قردةً، فدخلوا عليهم فجعلوا يلوذون بهم، فيقول الذين نَهَوْهُم: ألم نقل لكم ألم ننهكُم فيشيرون.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق مجاهد، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّهم لم يعيشوا إلَّا قليلاً وهلكوا»، والله تعالى أعلم.