نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل}

          ░1م▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} [البقرة:30]) واذكر يا محمَّد حين قال ربُّك للملائكة الآية، أخبر الله تعالى بتنويه بني آدم بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، وامتنَّ عليهم بذلك.
          وحكى ابن جرير عن أبي عبيدة: أنَّه زعم أنَّ كلمة {إِذْ} زائدة، وأنَّ تقدير الكلام: وقال ربُّك، وردَّ عليه ابن جرير. قال القرطبيُّ: وكذا ردَّه جميع المفسِّرين حتَّى قال الزَّجَّاج: هذا اجتراءٌ من أبي عبيدة.
          ({إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]) أي: قوماً يخلفُ بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [فاطر:39].
          قال أكثر المفسِّرين: وليس المراد هنا بالخليفة آدم ◙ فقط كما قاله طائفة، إذ لو كان المرادُ آدم عيناً لما حسن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30].
          وقولهم هذا ليس على وجه الاعتراض، ولا على وجه الحسد ولا على وجه الطَّعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنَّهم أعلى من أن يظنَّ بهم ذلك لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27] وإنَّما هو سؤال استعلامٍ واستكشاف عن الحكمةِ في ذلك، مع أنَّ فيهم من يفسدُ في الأرض، ويسفك الدِّماء، وإنَّما عرفوا ذلك بإخبارٍ من الله تعالى، أو تلقٍّ من اللَّوح، أو استنباطٍ عمَّا ركز في عقولهم أنَّ العصمة من خواصِّهم، أو قياسٌ لأحد الثَّقلينِ على الآخر.
          وقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] لا يصدر منا خلافُ ذلك تقريرٌ لجهة الإشكال، كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصَّديق القديم المحتاج.
          يعني: أتستخلف / عُصاة ونحن معصومون أحقَّاء بذلك، والمقصودُ منه كما عرفت: الاستفسار عمَّا رجَّحهم مع ما هو متوقَّعٌ منهم على الملائكة المعصومينَ في الاستخلاف، لا للعجب والتَّفاخُر، فقال الله في جوابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] أي: إنِّي أعلمُ بالمصلحة الرَّاجحة في خلقِ هذا الصِّنف على المفاسد التي ذكرتموها، فإنِّي سأجعل فيهم الأنبياء والرُّسل، ويوجد فيهم الصِّدِّيقون والشُّهداء والصَّالحون والعبَّاد والزُّهَّاد والأولياء الأبرار المقرَّبون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمتَّبعون لرسله، وفي هذا المقام مقالٌ كثيرٌ ليس هذا محلُّه.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} إِلاَّ عَلَيْهَا حَافِظٌ) أشار بذلك إلى ما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4]، ثم نبَّه على أنَّ {لمَّا} هاهنا بمعنى إلَّا التي هي حرفُ الاستثناء.
          وقد وصلهُ عنه ابن أبي حاتم، وزاد: إلَّا عليها حافظٌ من الملائكةِ. وقد اختلف القرَّاء في تشديد لمَّا وتخفيفها، فقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم: بالتَّشديد على أن تكون {إِنْ} نافية، وتكون {لمَّا} بمعنى إلَّا، وهي لغة هذيل، يقولون: نشدتك الله لمَّا قمت، يعنون: إلَّا قمت، والمعنى: ما نفسٌ إلَّا عليها حافظٌ من ربِّها.
          والباقون قرأوا: بالتخفيف، جعلوا {ما} صلة، و{إن} مخففة من الثَّقيلة؛ أي: إن كلُّ نفسٍ لَعَلَيها حافظٌ من ربِّها، يحفظ عليها، ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ أو شرٍّ.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «همُ الحفظة من الملائكة». وقال قتادة: هم حفظةٌ يحفظون عملكَ ورزقَكَ وأجلَكَ، وقيل: هو الله رقيبٌ عليها، والله تعالى أعلم.
          ({فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةِ خَلْقٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، ثمَّ فسَّر الكبد بقوله: في شدَّة خلق. رواه ابن عيينة في «تفسيره» عنه بإسنادٍ صحيحٍ، وزاد في آخره: ثمَّ ذكر مولده، ونبات أسنانه. وأخرجهُ الحاكم في «مستدركه»، وقال أبو عبيدة: الكبد: الشِّدَّة.
          قال لبيد:
يَا عَيْنُ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ                     قُمْنَا وَقَامَ الخُصُومُ فِي كَبَدِ
          (وَرِيَاشاً: الْمَالُ) أشار به إلى ما في قوله: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ} [الأعراف:26]. /
          ثمَّ فسَّر الرِّياش بالمال، وهو قول ابن عبَّاس ☻ ، وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عنه.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ (الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ، وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ) وهو قولُ أبي عبيدة، وزاد: تقول: أعطاني ريشه؛ أي: كِسْوته، قال: والرِّياش أيضاً المعاش، وقيل: الريش: الجمال والهيئة.
          ({مَا تُمْنُونَ} النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58]، ثمَّ فسره بقوله: النُّطفة في أرحام النِّساء. وهو قول الفرَّاء. قال: يقال: أمنى الرَّجل ومنى، والأوَّل أكثر، والمعنى: أنَّ النَّطف إذا قذفت في أرحام النِّساء أأنتم تخلقونَ ذلك أم نحن.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] النُّطْفَةُ فِي الإِحْلِيلِ) يعني: أنَّه قادرٌ على رجع المنيِّ؛ أي: النُّطفة إلى الإحليلِ، وهذا التَّعليق وصله ابنُ جرير من حديث ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن أبي بكر، عن مجاهد. وفي لفظ: <الماء> بدل: النطفة، وفي رواية: ((إن شئت رددتهُ من الكبر إلى الشَّباب، ومن الشَّباب إلى الصِّبا)).
          وقال ابن زيد: إنَّه على حبس ذلك الماء لقادر، وعن قتادة: إنَّ الله قادرٌ على بعثهِ وإعادته.
          (كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهْوَ شَفْعٌ، السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوِتْرُ: اللَّهُ ╡) أشار به إلى معنى قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]، كذا قال الشُّرَّاح. والظَّاهر: أنَّه إشارة إلى قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] ؛ أي: كلُّ شيءٍ خلقه الله تعالى فهو شفعٌ. وقوله: السَّماء شفع، معناه: أنَّه شفعٌ للأرض، كما أنَّ الحارَّ شفعٌ للبارد مثلاً، والخالق هو الوترُ وحده لا شريك له، وهذا قول مجاهدٍ أيضاً، وصله الفريابيُّ والطبريُّ عنه، ولفظه: كلُّ شيءٍ خلقهُ الله شفع؛ السَّماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشَّمس والقمر، ونحو هذا شفع، والوتر الله وحده. وبذلك زال الإشكال، فإنَّ ظاهر إيراد المصنِّف في اقتصاره على قوله السَّماء شفعٌ، يقال عليه: إنَّ السَّموات سبعٌ، والسَّبع ليس بشفعٍ، وليس ذلك مراد مجاهد، وإنَّما مراده: أنَّ كلَّ شيءٍ له مقابلٌ يقابله، ويُذْكَرُ معه، فهو بالنِّسبة إليه شفعٌ كالسماء والأرض والجنِّ والإنس...إلى آخره.
          وروى الطبريُّ عن مجاهد أيضاً قال في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] الكفرُ والإيمان، والشَّقاوة والسَّعادة، / والضَّلالة والهدى، واللَّيل والنَّهار، والسَّماء والأرض، والجنِّ والإنس، والوتر هو الله.
          وروى من طريق أبي صالح نحوه، وأخرج عن ابن عبَّاس ☻ من طرقٍ صحيحةٍ أنَّه قال: «الوتر يوم عرفة، والشَّفع يوم الذَّبح»، وفي رواية: «أيام الذَّبح».
          وهذا يناسب ما فسَّروا به قوله قبل ذلك: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] أنَّ المراد بها: عشر ذي الحجَّة.
          ({أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، ثمَّ فسَّره بقوله: في أحسن خلق، وهو تفسير مجاهد. أخرجهُ الفريابيُّ عنه، وقيل: أحسن تعديلٍ لشكله وصورته وتسوية أعضائهِ، وقيل: في أعدل قامةٍ، وأحسن صورةٍ، وذلك أنَّه خلق كلَّ حيوانٍ منكساً على وجهه إلَّا الإنسان. وقال أبو بكر بن الطَّاهر: مزيَّناً بالعقل، مؤدَّباً بالأمر، مهذَّباً بالتَّمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيمينه.
          ({أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إِلاَّ مَنْ آمَنَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [التين:5-6] معناه: أنَّ الإنسان يكون عاقبة أمره إذا لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السَّويَّة أنْ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني: أَقْبَحَ مَنْ قَبُحَ صُوْرَةً، وأشوهه خِلْقَةً، وهم أصحاب النَّار، فعلى هذا التَّفسير الاستثناء، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} متَّصلٌ ظاهر الاتصال. وقيل: السَّافلون: الضَّعفى والهَرْمى والزَّمْنى؛ لأنَّ ذاك التَّقويم يزول عنهم ويتبدَّل خلقهم، فعلى هذا الاستثناء منقطعٌ.
          فالمعنى: لكن الَّذين كانوا صالحين من الهَرْمَى فلهم أجرٌ دائمٌ غير ممنون؛ أي: غير مقطوعٍ على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشَّيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاقِّ والقيام بالعبادة، فيُكْتَبُ لهم في حالِ هَرَمِهم وخرفهم مثل الَّذي كانوا يعملون في حال شبابهم وصحَّتهم.
          ({خُسْرٍ} ضَلاَلٌ) أي: في مساعيهم وصرف أعمارِهم في مطالبهم (ثُمَّ اسْتَثْنَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ) أشار به على ما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، ثمَّ فسَّر الخسر: بالضَّلال. ثمَّ استثنى الله تعالى / من أهل الخسر الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنَّهم اشتروا الآخرة بالدُّنيا، ففازوا بالحياة الأبديَّة، والسَّعادة السَّرمديَّة. وهذا تفسير مجاهد، أخرجه الفريابيُّ قال في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، يعني: في ضلالٍ، ثمَّ استثنى فقال: إلَّا مَن آمن، فكأنَّه ذكره بالمعنى، وإلَّا فالتلاوة: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [العصر:3].
          ({لاَزِبٍ} لاَزِمٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات:11]، وقد فسَّره بقوله: لازم. وقد روى الطبريُّ عن مجاهد في قوله: {مِنْ طِينٍ لَازِب} لازق. ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: من التُّراب والماء، فيصير طيناً يلزق.
          وأمَّا تفسيره باللازم فكأنَّه بالمعنى، وهو تفسيرُ أبي عبيدة، قال: معنى اللَّازب: اللَّازم.
          قال النَّابغة:
وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ
          أي: لازمٍ.
          ({نُنْشِئَكُمْ} فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61]، ثمَّ فسَّره بقوله: في أيِّ خَلْقٍ نشاء. أو صفات وكيفيَّات من الألوان والأشكال وغيرها، والمراد: النَّشأة الأخرى.
          ({نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نُعَظِّمُكَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة:30]، وفسَّره بقوله: نعظِّمك، وهو تفسير مجاهد، نقله الطبريُّ وغيره عنه.
          (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) هو رفيع بن مهران الرياحيُّ، أدرك الجاهليَّة، وأسلم بعد النَّبيِّ صلعم بسنتين، ودخل على أبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺، وصلَّى خلف عمر بن الخطاب ☺، وروى عن جماعةٍ من الصَّحابة ♥ .
          ({فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] فَهْوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}) يعني: أنَّه فسَّر الكلمات بقوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وصله الطبريُّ عنه بإسنادٍ حسنٍ.
          ورُوِيَ ذلك أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جُبير والحسن البصريُّ والرَّبيع بن أنس وقتادة ومحمد بن كعب القرظيُّ وخالد بن معدان وعطاء الخُراساني وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم.
          وقال أبو إسحاق السبيعيُّ: عن رجلٍ من بني تميم قال: أتيت ابن عبَّاسٍ ☻ فسألته: ما الكلمات التي تلقَّى آدم ◙ من ربِّه؟ قال: «علَّم آدمَ شأنَ الحجِّ». وقيل: سبحانك اللَّهم / وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جدُّك، لا إله إلَّا أنت، ظلمتُ نفسي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت.
          وعن ابن عبَّاس ☻ قال: يا ربِّ، ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: يا ربِّ، ألم تنفخ فيَّ الرُّوحَ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكنِّي جنَّتك؟ قال: بلى، قال: يا ربِّ إن تبت وأصلحت أراجعيَّ أنت إلى الجنَّة؟ قال: نعم.
          وأمَّا معنى قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين عَلِمَها.
          ({فَأَزَلَّهُمَا} اسْتَزَلَّهُمَا) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36]، ثمَّ فسَّره بقوله: استزلَّهما، ويروى: <فاستزلَّهما> بالفاء؛ أي: دعاهما إلى الزلَّة.
          وفي «تفسير ابن كثير»: يصحُّ أن يكون الضمير عائداً إلى الجنَّة، فيكون المعنى كما قرأ حمزة: {فأزالهما} أي: نحَّاهما، وصحَّ أن يكون عائداً إلى أقرب المذكورين، وهو الشَّجرة، فيكون المعنى كما قال الحسن وقتادة: فأزلَّهما الشَّيطان عن الشَّجرة؛ أي: بسببها.
          وفي بعض النُّسخ: <قال: فأزلهما: استزلَّهما>، وهو رواية أبي ذرٍّ، وهو يوهم أنَّه من كلام أبي العالية، وليس كذلك، بل هو من تفسير أبي عبيدة، وكأنَّه كان في الأصل: ((وقال غيره))، فسقط قوله: غيره، وأمَّا في رواية الأَصيليِّ: <وغيره>، بحذف ((قال)) كما أثبتنا، فكان الأمرُ فيه أشكل، فَتَأمَّل.
          ({يَتَسَنَّهْ}: يَتَغَيَّرْ {آسِنٌ}: مُتَغَيِّرٌ. وَالْمَسْنُونُ: الْمُتَغَيِّرُ) أشار بذلك إلى ما في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] ؛ أي: لم يتغيَّر. وأشار بقوله: {آسِنٌ} إلى ما في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ} [محمد:15] ؛ أي: غير متغيِّرٍ. وأشار بقوله: والمسنون، إلى ما في قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] ؛ أي: من طينٍ متغيِّرٍ، وكلُّ هذه من مادَّةٍ واحدةٍ. وإيراد قوله {يَتَسَنَّهْ}، وقوله: {آسِنٌ} في أثناء قصَّة آدم ◙ بطريق التَّبعية للمسنون؛ لأنَّه قد يقال باشتقاقه منه.
          ({حَمَإٍ} جَمْعُ حَمْأَةٍ، وَهْوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، وقال: الحمأ جَمْع: حَمَأة، ثمَّ فسَّره بقوله: وهو الطِّين المتغيِّر، وكذا فسَّره أبو عبيدة.
          ({يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ؛ يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ بَعْضَهُ / إِلَى بَعْضٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طـه:121].
          ثمَّ فسَّر يخصفان بقوله: أَخَذَا؛ أي: آدم وحواء ♂ الخِصاف: وهو بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الصاد المهملة، جمع: خَصَفة، بالتحريك، وهي الحُلَّة التي تُعْمَلُ من الخوص للتَّمر، ويجمعُ على خَصَف أيضاً، بفتحتين. وقوله: ((يؤلِّفان الوَرَقَ)) أي: ورق الشَّجرة، قيل: كان ورق التين. و{يَخْصِفَانِ}: يعني: يلزقان بعضه ببعضٍ ليسترا به عورتهما، يقال: خصفت النَّعل؛ أي: خرزته، وكذلك الاختصاف، ومنه قرأ الحسن: {يخصِّفان} بالتشديد أدغم التاء في الصاد، وما ذكره هو تفسيرُ أبي عبيدة. وروى الطبريُّ عن مجاهد في قوله: {يَخْصِفَانِ} أي: يرقِّعان كهيئة الثوب.
          ({سَوْآتُهُمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجِهِمَا) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا} [طـه:121]، وفسَّر السوأة بأنَّه كنايةٌ عن الفرج، وكذا فسَّره أبو عبيدة. وقوله: عن فرجهما، بالإفراد، ويروى: <فرجيهما> بالتثنية، والضَّمير يرجع إلى آدم وحواء ♂، وذلك كان عند أكل الشَّجرة، فإنَّهما لمَّا أكلا منها تهافت عنهما لباسهما، وظهرت عوراتهما، واختُلِفَ في أنَّ الشَّجرة كانت السنبلة، أو الكرم، أو غيرهما، وأنَّ اللباس كان نُوْراً، أو حُلَّة، أو ظُفراً.
          ({وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هَاهُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، والْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لاَ يُحْصَى عَدَدُهُ) أشار بذلك إلى ما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]، ثمَّ فسَّر الحين: بأنَّه إلى يوم القيامة.
          وكذا رواه الطبريُّ بإسناده عن ابن عبَّاس ☻ ، وأشار بقوله: ((والحين عند العرب... إلى آخره)) إلى أنَّ لفظ الحين يستعمل في معانٍ كثيرةٍ، وهو في الأصل بمعنى الوقت مطلقاً، والمراد هاهنا: يوم القيامة.
          ({قَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27]، ثمَّ فسَّر قبيله؛ أي: قبيل الشَّيطان بأنَّه جِيله، بكسر الجيم؛ أي: جماعته الذي هو أي: الشَّيطان منهم.
          وروى الطبريُّ عن مجاهد في قوله: {وَقَبِيلُهُ} قال: الجنُّ والشَّياطين. هذا، وقال الكرمانيُّ: وأمثال هذه تكثيرٌ لحجم الكتاب لا تكثيرٌ للفوائد، والله أعلم بمقصوده.
          وقال العينيُّ: لا يخلو عن زيادة فائدةٍ، ولكنَّ كتابه موضوعٌ لبيان الأحاديث / لا لبيان اللغات لألفاظ القرآن، والله تعالى أعلم.