نجاح القاري لصحيح البخاري

باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب

          ░70▒ (باب الْبُزَاقِ) بالزاي كذا في رواية الأكثر، وبالصاد كما في رواية الحافظ العسقلاني، وبالسين، ففيه ثلاث لغات أعلاها الزاي وأضعفها السين، والباء مضمومة في الثلاثة؛ وهو ما يسيل من الفم.
          (وَالْمُخَاطِ) بضم الميم، وهو ما يسيل من الأنف (وَنَحْوِهِ) أي: ونحو كل منهما كالعَرَقِ، وعَرَقُ كلِّ حيوان يُعْتَبَرُ بسؤره الذي يمتزج بلعابه إلا ما يستثنى على ما عرف في الفقه (فِي الثَّوْبِ) أي: والبدن ونحوه ؛ أي: الكائن أو كائناً في الثوب هل يضر المصلي أو لا؟
          ووجه المناسبة بين البابين على رأي البخاري ☼ : أن الباب الأول فيما إذا ألقي على ظهر المصلي قذر لا تبطل صلاته، وهذا الباب كذلك، ولكن لا خلاف فيه.
          وقال الحافظ العسقلاني: ودخول هذا في أبواب الطهارة من جهة أنه لا يفسد الماء لو خالطه.
          وتعقبه محمود العيني: بأن هذا الباب في البصاق الذي يصيب الثوب، وذكره عقيب الباب الذي قبله من هذه الجهة، ولا ذكر للماء / في البابين، نعم إذا كان البصاق لا يفسد الثوب كذلك لا يفسد الماء.
          (وَقَالَ عُرْوَةُ) هو ابن الزبير التابعي فقيه المدينة، وقد تقدم في «الوحي» [خ¦2] (عَنِ الْمِسْوَرِ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو، وبالراء، هو ابن مَخْرَمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء الصحابي، وقد تقدَّم في باب «استعمال وضوء الناس» [خ¦189] (وَمَرْوَانَ) هو ابن الحكم بفتح المهملة والكاف، الأموي، ولد على عهد الرسول صلعم ، ولم يسمع النبي صلعم ؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لا يَعْقِل حتى نفى النبي صلعم أباه الحَكَم إليها، وكان مع أبيه بها حتى استُخْلِف عثمان ☺، فردَّهما إلى المدينة، وكان إسلام الحكم يوم فتح مكة، وطرده رسول الله صلعم إلى الطائف ؛ لأنه كان يفشي سره، مات في خلافة عثمان ☺، ولما توفي معاوية بن يزيد بايع بعض الناس مروان بالخلافة بالشام، ومات بدمشق سنة خمس وستين، فإن قلت: إذا كان مروان لم يسمع النبي صلعم ، ولا كان بالحديبية، فكيف رواية هذا الحديث عنه؟
          فالجواب: أن رواية المِسْوَر هي الأصل، لكن ضم إليها رواية مروان للتأكيد والتقوية، على أن حديث مروان مرسل صحابي، وهو حجة اتفاقاً، وقد تأيد برواية المِسْوَر أيضاً.
          (خَرَجَ النَّبِيُّ) وفي رواية: <رسول الله> ( صلعم زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ) وفي رواية الهروي: <زمن الحُدَيْبِيَة> وهي بضم المهملة وفتح المعجمة (1) وسكون التحتانية وكسر الموحدة وفتح التحتانية الثانية المخففة على ما قاله الشافعي، وأما عند أكثر المحدثين فبالتشديد، وقال ابن المديني: أهل المدينة يثقلونها، وأهل العراق يخففونها.
          أقول: والظاهر هو التخفيف ؛ لأنها تصير حدباء، وقاعدة التصغير تقتضي التخفيف وهي قرية سميت بشجرة هناك، وكانت حدباء، وكانت الصحابة ♥ بايعوا رسول الله صلعم تحت هذه الشجرة، وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وقيل: هي قرية سميت ببئر هناك، وهي على نحو مرحلة من مكة.
          (فَذَكَرَ) أي: الراوي (الْحَدِيثَ) الطويل الآتي مسنداً في قصة الحديبية، وفي الشروط أيضاً عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بتمامه وفيه(2) : (وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ صلعم نُخَامَةً) هي _بضم النون_ النخاعة، كما في ((الصحاح)) و((المجمل))، أو هي ما يخرج من الخيشوم كما في ((المغرب)).
          وقال النووي: إنها ما يخرج من الفم بخلاف النخاعة فإنها تخرج من الحلق، وقال بعض الفقهاء: النخامة هي الخارج من الصدر، والبلغم: / هو النازل من الدماغ، وبعضهم عكسوا، والمعنى: ما رمى رسول الله صلعم نخامة زمن الحديبية، أو مطلقاً في حال من الأحوال.
          (إِلاَّ) قد (وَقَعَتْ) أي: إلا حال وقوعها (فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا) أي: بالنخامة (وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ) تبركاً به صلعم وتعظيماً له وتوقيراً.
          قال الكِرماني: وإنما ذكر حديث الحديبية هنا إما لأن أمر التنخم وقع في الحديبية، وإما لأن الراوي ساق الحديثين سوقاً واحداً، وذكرهما معاً، وكثيراً ما يفعله المحدثون كما تقدم في حديث: ((نحن الآخرون السابقون)).
          وقال محمود العيني: لم يطلع الكرماني على الموضع الذي ساق البخاري فيه الحديث، فلذلك تردد في وجه ذكر حديث الحديبية فلو اطلع عليه لم يتردد، ويستفاد من هذا الحديث: طهارة البصاق والمخاط.
          قال ابن بطال: وهو مجمع عليه لا أعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن سلمان أنه جعله غير طاهر، وأن الحسن بن حَيٍّ كرهه في الثوب، وعن الأوزاعي: أنه كره أن يُدخل سواكه في وضوئه، وذكر ابن أبي شيبة أيضاً في ((مصنفه)) عن إبراهيم النخعي: أنه ليس بطهور، وقال ابن حزم: صح عن سلمان الفارسي وإبراهيم النخعي: أن اللعاب نجس إذا فارق الفم.
          وقال بعض الشراح: وما ثبت عن الشارع من خلافهم هو المتبع والحجة البالغة، فلا معنى لقول من خالف، وقد أمر الشارع المصلي أن يبزق عن شماله، أو تحت قدمه، وبزق الشارع في طرف ردائه، ثمَّ رد بعضه على بعض، وقال: ((يفعل هكذا))، وهذا ظاهر في طهارته ؛ لأنه لا يجوز أن يقوم المصلي على نجاسة، ولا أن يصلي وفي ثوبه نجاسة.
          وأما بصاق النبي صلعم فهو أطيب من كل طِيب، وأطهر من كل طاهر، وأما بصاق غيره فينبغي أن يكون بالتفصيل وهو أن البزاق طاهر إذا كان من فم طاهر، وأما إذا كان من فَمِ من يشرب الخمر فينبغي أن يكون (3) نجساً في حالة شربه ؛ لأن سؤره في ذلك الوقت نجس، فكذلك بصاقه، وكذا إذا كان من فم من في فمه جِرَاحة، أو دُمَّل يخرج منه دم، أو قيح.
          وقال أصحابنا: الدم المساوي للريق ينقض الوضوء استحساناً كالغالب بخلاف الناقص، ولو كان لون الريق أحمر نقض وإن كان أصفر لا ينقض، ثمَّ إذا حُكِمَ بطهارة البصاق على الوجه الذي زكرناه يُعْلَمُ منه أنه إذا وقع منه شيء في الماء لا ينجسه ويجوز الوضوء منه، وكذا إذا وقع في الطعام لا يفسده، غير أن بعض الطباع تستقذر ذلك فلا يخلو عن الكراهة. /


[1] في (خ): ((الدال)).
[2] ((بتمامه وفيه)): ليست في (خ).
[3] ((من قوله: بالتفصيل... إلى قوله: يكون)): ليس في (خ).