نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان

          ░33▒ (باب): حكم (الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَانِ): هل هو طاهر أو لا، والمناسبة بين البابين أن في الباب الأول التماس الوضوء، ولا يُلْتَمَسُ للوضوء إلا الماء الطاهر، وفي هذا الباب بيان أن الماء الذي يغسل به شعر الإنسان طاهر فاتَسَقَ البابان.
          (وَكَانَ عَطَاءٌ): هو ابن أبي رَبَاح، بفتح الراء وتخفيف الموحدة، أبو محمد من أجلَّاء الفقهاء والتابعين، مات سنة خمس عشرة ومئة، وقول الكِرماني: الظاهر أن عطاء هو ابن رباح ليس بظاهر، بل الظاهر أن يجزم بأنه هو، فإن هذا التعليق وصله محمد بن إسحاق الفاكهاني في ((أخبار مكة)) بسند صحيح إلى عطاء بن أبي رباح أنه كان لا يرى بأساً بالانتفاع بشعور الناس التي تُحْلَق بمِنَى، ولعل الكِرماني لم يقف عليه.
          (لاَ يَرَى بِهِ) أي: بالشعر (بَأْساً) وفي رواية: <لا يرى بأساً> / (أَنْ يُتَّخَذَ) بفتح أَن، وعلى صيغة المجهول بدل من الضمير المجرور في به كما في قوله: مررتُ بهِ المسكين، وفي بعض النسخ لم يوجد لفظ به (مِنْهَا) أي: من الشعور، وفي رواية: <منه>؛ أي: من الشعر (الْخُيُوطُ): جمع خيط (وَالْحِبَالُ): جمع حبل، والفرق بينهما بالرِّقة والغلظ، ويروى عن عطاء أنه نَجَّسَ الشَّعر، لكن الراجح عنه هو الطهارة.
          قال ابن بطال: أراد البخاري بهذه الترجمة رَدَّ قول الشافعي أن شعرَ الإنسان إذا فارق الجسد نَجِسٌ، وإذا وقع في الماء نَجَّسَه، ووجْهُ الردَّ أنه لو كان نَجِسَاً لما جاز اتخاذه خيوطاً وحبالاً، ومذهب أبي حنيفة ☼ أنه طاهر، وكذا شعر الميتة والأجزاء الصلبة التي لا دَمَ فيها كالقرون، والعظم، والسن، والحافر، والظِّلف، والخفِّ، والوبر، والصُّوف، والعَصَب، والريش، والأنفحة الصلبة، قاله في ((البدائع)).
          وكذا من الآدمي على الأصح ذكره في ((المحيط)) و((التحفة)) وفي ((قاضيخان)) على الصحيح ليست بنجسة عندنا، وقد وافَقنَا على صوفها ووبرها وشعرها وريشها مالك وأحمد وإسحاق والمُزَني، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، والحسن، وحمَّاد، وداود في العَظْم أيضاً.
          وقال النووي في ((شرح المهذب)): حكى العبدري عن الحسن وعطاء والأوزاعي والليث: أنها تَنْجُس بالموت لكن تطهر بالغسل، وعن القاضي أبي الطيب: الشعر، والصوف، والوبر، والعظم، والقرن، والظلف تَحُلُّها الحياة وتَنْجُس بالموت؛ إذ كلُّ ما تَحُلُّه الحياة يتنجَّسُ بالموت (1) هذا هو المذهب، وهو الذي رواه المزني والبويطي، والربيع، وحرملة عن الشافعي، وروى إبراهيم عن المزني عن الشافعي: أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي، وحكاه أيضاً الماوردي عن ابن شُرَيح، عن أبي القاسم الأنمَاطِي، عن المزني، عن الشافعي.
          وحكى الربيع عن الشافعي: أن الشعر تابعٌ للجلد يَطْهُر بطهارته ويَنْجُس بنجاسته، فالحاصل أن شعر الآدمي هل هو طاهر أم لا؟ فيه قولان وجمهور العلماء على طهارته، وكذا قاله الشافعي، ونصَّ عليه في الجديد أيضاً، وصححه جماعة من أصحابه وهي طريقة الخراسانيين، وصحح جماعة القول بتنجيسه وهي طريقة العراقيين، واستدل المصنف على طهارته بما ذكره من الحديث المرفوع، فأما شعر الحيوان غير المأكول المُذَكَّى ففيه اختلاف مبني / على أن الشعر هل تَحُلُّه الحياة فيتنجس بالموت أو لا؟
          والأصح عند الشافعية أنه يتنجس بالموت، وكذا بالانفصال حيث رأى ابن المبارك رجلاً أخذ شعرة من لحيته ثمَّ جعلها في فيه فقال: مَهْ أترد الميتة إلى فيك.
          وذهب جمهور العلماء إلى خلافه، واستدل ابن المنذر على أنه لا تَحُلُّه الحياة فلا ينْجُسُ بالموت ولا بالانفصال بأنهم أجمعوا على طهارة ما يُجَزُّ من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يُقْطَعُ من أعضائها وهي حية، فدلَّ ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها، وعلى التسوية بين حالتي الموت والانفصال.
          وقال البغوي في ((شرح السنَّة)) في قوله صلعم في شاة ميمونة: «إنَّما حَرُمَ أكلُهَا» مُسْتَدَلٌّ لمن ذهب إلى أن ما عدا ما يؤكل من أجزاء الميتة لا يحرم الانتفاع به. انتهى.
          هذا، وأما شعر النبي صلعم فهو مكرَّم مُعَظَّمٌ خارجٌ عن هذا، وقول الماوردي: وأما شعر النبي صلعم فالمذهب الصحيح القطع بطهارته؛ يدل على أن لهم قولاً بغير ذلك فنعوذ بالله من ذلك القول، وقد اخترف بعض الشافعية وكاد أن يخرج عن دائرة الإسلام حيث قال: وفي شعر النبي وجهان، وحاشا شعر النبي صلعم من ذلك، وكيف قال هذا وقد قيل بطهارة فضلاته فضلاً عن شعره الكريم؟.
          وقول الماوردي: إنما قَسَّم ◙ شعره للتبرك، ولا يتوقف التبرك على كونه طاهراً، أبشعُ من ذلك، وقول كثير من الشافعية أن القَدْرَ الذي أُخِذَ كان يسيراً معفواً عنه، أقبحُ من الكل، وغرضُهم من ذلك تنمية مذهبهم في تنجيس شعر بني آدم، فلما أُورِدَ عليهم شعر النبي صلعم أوَّلوا هذه التأويلات الفاسدة، وقال بعض شراح البخاري: وفي دَمِهِ وجهان، والأليق الطهارة.
          وذكر القاضي حسين في العُذْرَة وجهين، وأنكر بعضهم على الغزالي حكايتهما فيها، وزعم نجاستها بالاتفاق، وهو من الهفوات، وقد وردت أحاديث كثيرة أن جماعة شربوا دم النبي صلعم منهم أبو طيبة الحجَّام، وغلامٌ من قريش حَجَمَ النبي صلعم ، وعبد الله بن الزُّبير شَرِب دم النبي صلعم ، / رواه البَزَّار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، وأبو نعيم في ((الحِلية))، ويُرْوَى عن عليٍّ ☺ أنه شَرِبَ دَمَ النبي صلعم ، ورُوِيَ أيضاً: أن أم أيمن شربت بول النبي صلعم ، رواه الحاكم، والدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم.
          وأخرج الطبراني في ((الأوسط)) في رواية سلمى امرأة أبي رافع أنها شربت بعض ماءِ غُسْل النبي صلعم فقال لها: «حَرَّم الله بدَنَك على النار».
          فإن قيل: إذا كان شعر النبي صلعم مُكرَّماً خارجاً عن هذا الحكم لا يقاس عليه غيره، فكيف استدل المؤلِّف على طهارة شعر الآدمي بما ذكره من الحديث المرفوع؟.
          فالجواب كما قيل: أن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل عدمه، قاله ابن المنذر والخطابي وغيرهما قالوا: ويَلْزَم القائل بذلك أن لا يحتج على طهارة المَنِيِّ بأن عائشة ♦ كانت تَفْرُكه من ثوبه صلعم لإمكان أن يقال له: مَنيُّه طاهر فلا يُقاسُ عليه غيره.
          وقال الحافظ العسقلاني: والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلا فيما خُصَّ بدليل.
          هذا، وقال محمود العيني: يلزم من هذا أن يكون كل واحد من أفراد الناس مساوياً للنبي صلعم ، ولا يقول بذلك إلا جاهل غبي، فأين مرتبته من مراتب الناس، ولا يلزم أن يكون دليل الخصوص بالفعل دائماً، والعقل له مَدْخَل في تَمَيُّز النبي صلعم من غيره في مثل هذه الأشياء، وأنا اعتقد أنه لا يقاس عليه غيره، وإن قالوا غير ذلك فأُذُني عنه صمَّاء. انتهى.
          (وَ) باب (سُؤْرِ الْكِلاَبِ) بالهمز، هو بقية ما في الإناء بعد شربها، قال ابن دَرَسْتَويه: والعامة لا تَهْمِزه، وتَرْكُ الهمز ليس بخطأ، ولكن الهمز أفصح وأَعْرَف، يقال منه أَسْأَرَ وإسأراً فهو مُسْئِرٌ، وجاء سئَّار بالتشديد للمبالغة ؛ أي: باب حكم سؤر الكلاب هل هو طاهر أو لا؟ قيل: والظاهر من صنيع المصنِّف أنه يقول بطهارته بما ذكره من الأخبار إلا أن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظراً كما سيجيء.
          (وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ): وفي بعض النسخ زِيْدَ بعد قوله: <في المسجد> قوله: <وأكْلِها> ؛ أي: حكم أكل الكلاب، وهي من إضافة المصدر إلى الفاعل.
          اعلم أن المصنف ☼ جَمَع في هذا الباب بين مسألتين: حكم شعر الآدمي وسؤر الكلاب، فذكر ترجمة الأولى وأثرها معها، ثمَّ ثنى بالثانية وأثرها معها أيضاً، ثمَّ رجع إلى دليل الأولى من الحديث المرفوع، ثمَّ ثنى بأدلة الثانية على ما ترى.
          (وَقَالَ): محمد بن مسلم بن شهاب (الزُّهْرِيُّ): فيما رواه الوليد بن مسلم في ((مُصنَّفه)) / عن الأوزاعي وغيره، ولفظه: سمعت الزهري في إناءٍ وَلَغَ فيه كلب فلم يجدوا ماءً غَيْرَه قال: «يتوضأ به»، وأخرجه ابن عبد البر في ((التمهيد)) من طريقه بسند صحيح قال:
          قال الزهري: (إِذَا وَلَغَ) أي: الكلب، والقرينة تدل عليه، وجاء في بعض الروايات: <إذا ولغ الكلب> بذكره صريحاً (فِي إِنَاءٍ): فيه ماء، وفي رواية: <في الإناء> ووَلَغ: بفتح اللام، ماضٍ من الولغ، وهو في الكلاب والسِّباع كلها أن يُدْخِل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه فيه، وعن ثعلب: تحريكاً كثيراً أو قليلاً، قال مكي: فإن كان غير مائع قيل: لَعِقَه ولَحِسَه.
          وقال المُطَرِّزي: فإن كان الإناء فارغاً يقال: لَحِسَ، وإن كان فيه شيء يقال: وَلَغ، وقال ابن دَرَستويه: معنى ولغ: لطع بلسانه؛ شرب فيه أو لم يشرب؛ كان فيه ماء أو لم يكن.
          وفي ((الصحاح)): ولغ الكلب بشرابنا، وفي شرابنا، ومن شرابنا، وقال ابن خَالويه: يقال: ولغ ولغاً وولغاناً وولوغاً، ولا يقال: ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه.
          وذكر المطرِّزي أنه يقال: ولِغ _بكسر اللام_ وهي لغة غير فصيحة ومستقبله يلغ _بفتح اللام وكسرها_، وقال ابن القطاع: سكّن بعضهم اللام فقال: وَلْغَ.
          (لَيْسَ) أي: والحال أنه ليس (لَهُ) أي: لمن أراد الوضوء (وَضُوءٌ): بفتح الواو ؛ أي: ماء يتوضأ به (غَيْرُهُ): أي غير ما ولغ فيه الكلب، ويجوز في غير الرفع والنصب (يَتَوَضَّأُ بِهِ) أي: بالماء، وفي بعض النسخ: <بها> فيؤوَّلُ الإناء بالمطهرة أو الإداوة، فالمعنى يتوضأ بالماء الذي فيها، أو الضمير راجع إلى الماء الذي بقي في الإناء بتأويله بالبقية، وفي رواية: <منه> أي: من ذلك الماء.
          (وَقَالَ سُفْيَانُ): هذا هو الثوري ؛ لأن الوليد بن مسلم لما روى هذا الأثر الذي رواه الزُّهري ذكر عقيبه: فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال: هذا والله الفقه بعينه، ولولا هذا التصريح لكان المتبادر إلى الذهن أنه سفيان بن عُيينة لكونه معروفاً بالرواية عن الزهري دون الثوري (هَذَا) أي: الحكم بأنه يتوضأ به هو (الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ): المستفاد من القرآن (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) وفي رواية: <لقول الله تعالى> ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43]): هذا هو الموافق للتلاوة، / ووقع في رواية أبي الحسن القَابِسِي عن أبي زيد المروزي في حكاية قول سفيان: <يقول الله تعالى: ((فإن لم تَجِدُوا مَاءً))>، وكذا حكاه أبو نعيم في ((المُستَخرج)) على البخاري.
          وقال القابسي: قد ثبت ذلك في ((الأحكام)) لإسماعيل القاضي؛ يعني: بإسناده إلى سفيان، قال: وما أعرف من قرأ بذلك، وقال الحافظ العسقلاني: لعل الثوري حكاه بالمعنى وكأنه يرى جواز ذلك، وقال محمود العيني: هذا لا يصح أصلاً ؛ لأنه قلب كلام الله تعالى، والظاهر أنه سهوٌ، أو وقع غلطاً، ووجه دلالة الآية أن قوله تعالى: {مَاءً} نكرة في سياق النفي فيَعُمُّ؛ ولا يَخُص إلا بدليل كما أفاده بقوله: (وَهَذَا): أي: المذكور من الماء (مَاءٌ): وفي رواية: <فهذا ماء> فسمى الثوري الأخذ بدلالة العموم فقهاً. ولمَّا كانت دلالته غير ظاهرة أو وجد معارض له من القرآن أو غيره، فلذلك اختلف العلماء فيه هل هو طاهر أو متنجس؟ قال: (وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ): أي: دغدغة، وحينئذ (يَتَوَضَّأُ بِهِ) أي: بالماء المذكور، وفي رواية: <منه> (وَيَتَيَمَّمُ) لأن الماء الذي شُكَّ فيه لأجل اختلاف العلماء كالمعدوم فيحتاط للعبادة.
          وتعقَّبه الإسماعيليُّ بأن اشتراطه جواز التوضؤ به إذا لم يجد غيره يدل على تنجسه عنده ؛ لأن الطاهر يجوز التوضؤ به مع وجود غيره.
          وأجيب: بأن المراد أن استعمال غيره مما لم يُختلف فيه أولى، فأما إذا لم يجد غيره فلا يعدل عنه، وهو يعتقد طهارته، إلى التيمم، وأما فُتْيَا سفيان بالتيمم بعد الوضوء به فلأنه رأى أنه ماء مشكوك فيه من أجل الاختلاف، فاحتاط للعبادة كما مر، وقد تُعُقِّب بأنه يلزم من استعماله أن يكون جسده مشكوكاً في طهارته بعد ما كان طاهراً بلا شك قبل ذلك، ولهذا قال بعض الأئمة: الأولى أن يريق ذلك الماء ثمَّ يتيمم، والله أعلم.


[1] ((إذ كل ما تحله الحياة يتنجس بالموت)): ليس في ((خ)).