نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في الوضوء

          ░1▒ (باب مَا جَاءَ فِي) معنى (قَوْلِ اللَّهِ) تعالى ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ}) أي: إذا أردتم القيام إليها، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] / عبَّر عن إرادة الفعل بالفعل المُسبَّبِ عنها للإيجاز، والتَّنبيه على أنَّ من أراد العبادة ينبغي أن يُبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصَّلاة ؛ لأنَّ التوجُّهَ إلى الشيء والقيامَ إليه قَصْدٌ له.
          ({فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}) أي: أَمِرُّوا الماء عليها، ولا حاجة إلى الدلك خلافاً لمالك، فإنه يجعل الدلك واجباً ({وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}) أي: مع المرافق، كما في قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52]، وقيل: هي متعلِّقة بمحذوف ؛ أي: وأيديكم مضافة إلى المرافق، وفيه أنَّه على هذا لم يبق معنى للتَّحديد، ولا لذكره مزيدُ فائدة ؛ لأن مطلق اليد تشتمل عليها.
          وقال صاحب ((الكشاف)): إنَّ {إِلَى} تفيد الغاية مطلقاً، فأمَّا دخولها في الحكم أو خروجها عنه فأمرٌ يدور مع الدَّليل، فممَّا فيه دليل على الخروج قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ؛ لأن الإعسار عِلَّة الإنظار، وبوجود الميسرة تَزُول العِلَّة، ولو دخلت المَيْسرة فيه ؛ لكان مُنْظَراً في كلتا الحالتين معسراً أو موسراً، وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، فإنه لو دخل الليل لوجب الوصال، وممَّا فيه دليل على الدخول قولك: حفظتُ القرآن من أوله إلى آخره ؛ لأن الكلام مَسوقٌ لحفظ القرآن كله، وقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأَخَذَ كافَّةُ العلماء بالاحتياط، فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زُفَر وداود بالمتيقَّن فلم يدخلاها، وعن النبي صلعم : أنه كان يدير الماء على مرفقيه. انتهى.
          ودلَّ على دخولها أيضاً الإجماع، كما استدلَّ به الشافعي في ((الأم))، وفَعَله ◙ أيضاً فيما روى مسلم: «أنَّ أبا هريرة ☺ توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثمَّ غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد» الحديث، وفيه «ثمَّ قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلعم يتوضأ» فثبت غسله ◙ لها، وفِعلُه بيانٌ للوضوء المأمور به، ولم يُنْقل تركُه، ◙، ذلك.
          هذا، وقيل: يدل عليه الآية أيضاً بجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب، أو إلى الكوع مجازاً إلى المرفق مع جعل {إِلَى} للغاية الدَّاخلة هنا في المغيَّا، أو للمعيَّة ؛ أي: اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، أو بجعل اليد باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل {إِلَى} غاية للغسل، أو للترك المقدر ؛ أي: اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق، فافهم.
          ({وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}) الباء مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك: مسحت المنديل، وقولك: مسحت بالمنديل، ووجهُه أن يُقَال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب، ومَنْ مَسَحَ بعضَه ومَنْ استوعَبَه كلاهما مُلصِقٌ للمسح برأسه بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}.
          وقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ إمامنا الأعظم أبو حنيفة ⌂ ببيان رسول الله صلعم وهو ما روي: أنه ◙ مسح على ناصيته، وقدَّر الناصية بربع الرأس. وسيجيء ما يتعلق بهذا البحث في باب مسح الرأس كله إن شاء الله تعالى.
          ({وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}) قرأه نافع وابن عامر / وحفص والكسائي ويعقوب: بالنصب عطفاً على وجوهكم، ويؤيده: السنةُ الشائعة وعَملُ الصحابة وقول أكثر الأمة، والتحديد؛ إذ المسح لم يُحدّ، وجَرَّهُ الباقون على الجواز، ونظيره كثيرٌ في القرآن والشعر، كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26]، وقولهم: جُحرُ ضَبٍ خَرِبٍ، وللنُّحاة بابٌ في ذلك، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يَقْتَصِد في صَبِّ الماء عليها، ويغسل غسلاً يقرب من المسح، وقُرِئ بالرفع على تقدير: ((وَأَرْجُلُكُمْ)) مغسولةٌ، هذا وإنما افتتح كتاب الوضوء بهذه الآية ؛ لكونها أصلاً في استنباط مسائل هذا الباب، أو لأجل التبرك في الافتتاح بآية من القرآن، وإن كان حقُّ الدليل أن يُؤَخَّر عن المدلول ؛ لأن الأصل في الدعوى تقديم المدعي.
          وقد اختلف السلف في معنى الآية: هل فيه تقديرٌ أو الأمر على ظاهره وعمومه؟ فقال بالأول الأكثرون، وقالوا: التقدير إذا أردتم القيام إلى الصَّلاة محدِثين، وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير إلَّا أنَّه في حقِّ المُحْدِثِ واجبٌ، وفي حقِّ غيره مندوبٌ، وفيه تناول الكلمة الواحدة لمعنيين مختلفين، وهو كون الأمر شاملاً للمُحدِثين على وجه الإيجاب، ولغيرهم على وجه النَّدب، وهو لكونه من باب الألغاز والتَّعمية لا يليقُ بجزالة القرآن.
          وقال بعضهم: كان على الإيجاب أولاً، ثمَّ نُسِخَ فصار مندوباً، واستدلوا له بما رواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: أنَّ أسماء بنت زيد بن الخطاب حدَّثت أباه عبد الله بن عمر ☻ ، عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري: «أن رسول الله صلعم أَمَرَ بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق [ذلك] (1) عليه وُضِعَ عنه الوضوء إلا من حَدَث» وبما رواه مسلم من حديث بُرَيدة: «كان النبي صلعم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن فعلته قال: عمداً فعلته»؛ أي: لبيان الجواز، وهذا الاستدلال ضعيف لقوله صلعم : «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها»، وما رواه مسلم لا يقتضي كونه على الإيجاب أولاً.
          واختلف العلماء أيضاً في مُوجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوباً مُوسعاً، وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معاً، ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل: بالقيام إلى الصلاة فحسب، ويدل له ما رواه / أصحاب السنن من حديث ابن عباس ☻ عن النبي صلعم قال: «إنما أُمِرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة».
          ثمَّ الحدث يَحِلُّ بجميع البدن كالحياة حتى يمنع من مس المصحف بظهره وبطنه، والاكتفاءُ بغسل الأعضاء الأربعة تخفيفٌ، وقيل: يختص بالأعضاء الأربعة وعدم جواز المس ؛ لعدم طهارة جميع البدن، ويشكل بالنجاسة الحقيقية، وفي الأصح اختلاف عندهم، قال الشاشيُّ: العموم، وقال البغويُّ وغيره: الخصوص، ورجَّحه النوويُّ، وقد أطال الكلام في بيان هذه الآية محمود العيني، فمن أراد الإطناب، فليرجع إلى شرحه ((عمدة القاري)).
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هو البخاري نفسه (وَبَيَّنَ النَّبِيُّ) وفي رواية: <رسول الله> ( صلعم أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً) روي فيهما بالرفع والنصب، أما الرفع فعلى الخبرية لأنه أتى غسلةً واحدةً، وقال الحافظ العسقلاني: كذا في روايتنا بالرفع، قيل: وهو الأقرب الأوجه، وأما النصب فعلى أنه مفعول مطلق ؛ أي: فَرْضُ الوضوء غَسْلُ الأعضاء غسلةً واحدة، أو حالٌ سَادَّةٌ مَسَدَّ الخبر ؛ أي: يُفْعَلُ مرةً كقراءة بعضهم ((وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)) بنصب عصبة، أو على لغة من ينصب الجزأين بأنَّ، أو ظرف ؛ أي: فَرضُ الوضوء ثابت في الزمان المسماة بالمرة، وفيه بُعدٌ، والتكرير إما للتأكيد وإما لإرادة التفصيل ؛ أي: فَرضُ الوضوء غسل الوجه مرة، وغسل اليد مرة، وغسل الرِّجل مرة، في هذا الوضوء مرة، وفي ذاك الوضوء مرة، فالتفصيل إما بالنظر إلى أجزاء الوضوء، وهو الظاهر، وإما بالنظر إلى جزئيات الوضوء.
          ثمَّ البيان المذكور يحتمل أن يُشير به إلى ما رواه بَعْدُ موصولاً من حديث ابن عباس ☻ : «أن النبي صلعم توضأ مرة مرة» [خ¦157]، وهو بيان بالفعل لمجمل الآية، وأما حديث أبي بن كعب ☺: أن النبي صلعم دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يَقبلُ الله الصلاة إلا به»، ففيه بيانٌ بالفعل والقول معاً، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة. /
          (وَتَوَضَّأَ) صلعم (أَيْضاً مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) كذا في رواية أبي ذر بالتكرار، وفي رواية غيره: <مرتين> بغير تكرار، ووجه انتصابهما مثل انتصاب مرة، وسيأتي هذا التعليق أيضاً موصولاً في باب مفرد لذلك [خ¦158] (وَ) توضأ ◙ أيضاً (ثَلاَثاً) أي: ثلاث مرات، وفي رواية الأصيلي: <وثلاثاً ثلاثاً> بالتكرار وعلى نسق ما قبله، وسيأتي هذا موصولاً أيضاً [خ¦159].
          (وَلَمْ يَزِدْ) صلعم (عَلَى ثَلاَثٍ) وفي رواية: <على ثلاثة>، وفي أخرى: <على الثلاث> أي: لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلعم أنه زاد على ثلاث مرات، بل وَرَدَ عنه صلعم ذَمُ من زاد عليها، وهو فيما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلعم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثمَّ قال: «من زاد على هذه أو نقص فقد أساء وظلم» أي: ظلم بالزيادة بإتلاف الماء ووضعه في غير موضعه، وظاهره الذم في النقص من الثلاث، وهو مُشْكل ؛ لأنه ورد في الأحاديث الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين كما ذكر، والجواب عنه بوجوه:
          الأول: أن فيه حذفاً تقديره: أو نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه نُعَيم بن حمَّاد من طريق المطلب بن حَنْطَب مرفوعاً: «الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، فإن نقص من واحدة، أو زاد على ثلاث فقد أخطأ» وهو مُرسل، ورجاله ثقات.
          الثاني: أن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم اقتصروا على قوله: «فمن زاد» فقط، كذا رواه ابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلعم فسأله عن الوضوء فأَرَاه ثلاثاً ثلاثاً، ثمَّ قال: «هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدى وظلم»(2) .
          الثالث: أن معناه: يكون ظالماً لنفسه لتركه الفضيلة والكمال، وإن كان يجوز مرة مرة، أو مرتين مرتين.
          الرابع: أنه يكون ظالماً إذا اعتقد خلاف السُنِّية في الثلاث، وقد يقال: معنى أساء: أساء في الأدب بتركه السنة والتأدب بآداب الشريعة، ومعنى ظلم: ظلم نفسه بما نقصها من الثواب، ويقال أيضاً: الإساءة تَرْجع إلى النقص، والظلم إلى الزيادة، فإن الظلم مجاوزة الحَدِّ، ووضع الشيء في غير محله، وقيل: بالعكس، فإن الظلم يستعمل بمعنى النقص كما في قوله تعالى: {آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف:33 / وقيل: أساء وظلم فيهما، واختاره ابن الصلاح ؛ لأنه ظاهر الكلام.
          هذا وفي ((البدائع)) قد اختُلِفَ في تأويله فقيل: معناه زاد على مواضع الوضوء أو نَقَصَ عن مواضعه، وقيل: زاد على ثلاث مرات ولم يَنْوِ الوضوء ابتداء ونقص عن الواحدة، والصحيح: أنه محمول على الاعتقاد دون نفس العمل، معناه: فمن زاد على الثلاث أو نقص ولم يَرَ الثلاث سنة فقد أساء ؛ لأن من لم يَرَ سنة النبي صلعم فقد ابتدع فيَلحقُه الوعيد، فلو زاد على الثلاث أو نقص ورأى الثلاث سنة لا يلحقه هذا الوعيد ؛ لأن الزيادة على الثلاث من باب الوضوء على الوضوء إذا نوى به، وأنه «نور على نور» على لسان النبي صلعم .
          ثمَّ اعلم أن الثلاث سنة، والواحدة تجزئ، وقال أصحابنا: الأُولى: فرض، والثانية: مُستحبة، والثالثة: سنة، وقيل: الأُولى فرض، والثانية سنة، والثالثة إكمال للسنة، وقيل: الثانية والثالثة سنة، وقيل: الثانية سنة، والثالثة نفل.
          وعن أبي بكر الإسْكَاف: أن الثلاث تقع فرضاً كما إذا أطال الركوع والسجود، ثمَّ قال بعض أصحابنا: إنَّ الزائد على الثلاث لا يقع طهارة، ولا يصير الماء مستعملاً إلا إذا قصد به تجديد الوضوء، وما ذُكِرَ في الجامع أن ماء الرابعة في غسل الثوب النَّجس طَهُور، وفي العضو النجس مستعمل، فمحمول على ما نوى به القُربة.
          وفي ((العَتَّابي)): وماء الرابعة مستعمل في العضو النجس ؛ لأن الظاهر هو قَصْدُ القُربة حتى يقوم الدليل على خلافه.
          وفي ((شرح النسفي)) فيه (3) لأنه وجد فيه معنى القُربة ؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور، ولهذا صار الماء مستعملاً به، وفي ((المحيط)) و((الإسبيجاني)): إنَّ ماء الرابعة لا يصير مستعملاً إلا بالنية، ثمَّ إنه لو شك في العدد أثناء الوضوء فقيل: يأخذ بالأكثر حذراً من الزيادة، والأصح أنه يأخذ بالأقل كالركعات، وأما الشك بعد الفراغ فلا عبرة به على الأصح ؛ لئلا يؤديه إلى الوسوسة المذمومة، وكذا الحال فيما إذا شك هل بقي شيء من العضو لم يصبه الماء في المرات أو بعضها، فإذا شك في أثناء الوضوء يغسل هذا الموضع فقط، وأما بعد الفراغ فلا، ثمَّ إنَّ في الوضوء على الوضوء عند الشافعية خمسة أقوال:
          أصحها: أنه إن صلى بالوضوء الأول فرضاً أو نفلاً استحب وإلَّا فلا، وبه قطع البغوي.
          ثانيها: إن صلى فرضاً استُحب وإلا فلا، وبه قطع الفُوْرَاني.
          ثالثها: / إن فَعَلَ بالوضوء الأول ما يُقصد له الوضوء استُحب وإلا فلا، ذكره الشاشي.
          رابعها: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة، أو شُكْرٍ، أو قرأ القرآن في مصحف استُحب وإلا فلا، وبه قطع أبو محمد الجويني.
          خامسها: استُحب وإن لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً، حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يَصحُّ إذا تخلل بين الوضوء وتجديده زمن يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصلَهُ بالوضوء الأول فهو (4) في حُكم غَسلةٍ رابعة، ثمَّ إن المؤلِّف ⌂ أشار بهذين التعليقين إلى أن الأمر من حيث هو لإيجاد حقيقة الشيء المأمور به لا يقتضي المرة ولا التكرار، بل هو مُحتملٌ لهما فبَيَّن النبي صلعم أن المراد منه المرة حيث غسل مرة واحدة واكتفى بها، إذ لو لم يكن الفرض إلا مرة واحدة لم يجز الاجتزاء بها، وإن الزيادة عليها مندوب ؛ لأن فعل النبي صلعم يدل على الندب إذا لم يكن دليل على الوجوب ككونه بياناً للواجب مثلاً.
          ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائيني عن بعض العلماء: أنه لا يجوز النقص من الثلاث، وكأنه تمسَّك بظاهر الحديث المذكور وهو محجوج بالإجماع، وأما قول مالك في المدوَّنه: لا أحب الواحدة إلا من العالم، فليس فيه إيجاب زيادة عليها، والله أعلم.
          (وَكَرِهَ) من الكراهة وهي اقتضاء الترك مع عدم المنع من النقيض، وقد يُعرَّفُ المكروه بأنه يُمدح تاركه ولا يُذم فاعله، كذا قاله الكرماني، وهذا لا يتمشى على إطلاقه، وإنما يمشي في كراهة التنزيه، وأما في كراهة التحريم فلا (أَهْلُ الْعِلْمِ) أي: المجتهدون (الإِسْرَافَ) هو صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، بخلاف التبذير، فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي (فِيهِ) أي: في الوضوء، وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) من طريق هلال بن يَسَاف أحد التابعين قال: كان يقال من الوضوء إسراف، ولو كُنتَ على شاطئ نهر.
          وأخرج نحوه عن أبي الدرداء ☺، وكذا عن ابن مسعود ☺، وروي في معناه حديث مرفوع أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ لَيِّنٍ عن ابن عمر ☻ رأى النبي صلعم رجلاً يتوضأ فقال: «لا تُسْرف، لا تُسْرف».
          وأخرج أيضاً عن ابن عَمْروٍ: أن النبي صلعم مَرَّ بسعْدٍ وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السَرَفُ؟» قال: أَوَفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم / وإن كُنتَ على نهرٍ جارٍ».
          (وَأَنْ يُجَاوِزُوا) أي: أهل العلم (فِعْلَ النَّبِيِّ صلعم ) وهو عطف تفسيري للإسراف، إذ ليس المراد بالإسراف إلا المجاوزة عن فعل النبي صلعم ؛ أي: الثلاث، وقد روى ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) عن ابن مسعود ☺ قال: «ليس بعدَ الثلاثِ شيء»، وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا يجوز الزيادة على الثلاث.
          وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم، وقال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه ؛ أي: لم أحرمه؛ لأن قوله لا أحب يقتضي الكراهة، وحاصل ما ذكره الشافعية في المسألة ثلاثة أوجه:
          أصحها أن الزيادة عليها مكروهة كراهة تنزيه. وثانيها: أنها حرام. وثالثها: أنها خلاف الأولى.
          وأبعدَ قومٌ فقالوا: إنَّه إذا زاد على الثلاث بَطَلَ وضوءه كما لو زاد في الصلاة كما حكاه الدارمي عنهم، وهو خطأ ظاهر وخلاف ما عليه العلماء. هذا، وقد عرفت أن قوله: وبيَّن النبي صلعم ، وكذا قوله: وتوضأ أيضاً...إلى آخره حديثان وصلهما المؤلِّف فيما بعد [خ¦157] [خ¦158]، ولا شك أن كلاً منهما بيان للسنة، والمقصود من الباب ما جاء من السنة في معنى الآية الكريمة، فلا يقال: إن الباب كله ترجمة، فأين الحديث؟


[1] ما بين معقوفين من سنن أبي داود ومسند أحمد، وهي في الفتح دونها.
[2] هذا لفظ ابن ماجه، أما لفظ ابن خزيمة: «أن أعرابياً أتى النبي صلعم فسأله عن الوضوء، فتوضأ رسول الله صلعم ثلاثاً ثلاثاً، فقال: من زاد فقد أساء وظلم أو اعتدى وظلم».
[3] كذا في عمدة القاري، وهي غير موجودة في البناية شرح الهداية للعيني.
[4] ((فهو)): ليست في (خ).