نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته

          ░69▒ (بابُ) بالتنوين (إِذَا أُلْقِيَ) على البناء للمجهول (عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ) بفتح الذال المعجمة، ضد النظافة يقال: قذِرْتُ الشيءَ بالكسر أقذره إذا كرهته، والمراد هنا الشيء النجس (أَوْ جِيفَةٌ) وهي هيئة الميت المريحة ؛ أي: ميتة لها رائحة (لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ) جواب إذا.
          ووجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول يشتمل على حكم وصول النجاسة إلى الماء، وهذا الباب يشتمل على حكم وصولها إلى المصلي وهو في الصلاة، وهذا المقدار يتلمَّح به في وجه الترتيب وإن كان حكمهما مختلفاً، فإن في الباب الأول وصول النجاسة إلى الماء الراكد ينجسه كما ذكر فيه مستقصى مع أقوال العلماء فيه. وفي هذا الباب: أن وصولها إلى المصلي لا يفسد صلاته على ما ذهب إليه البخاري، فإنه وضع هذا الباب لذلك المعنى حيث صرح بقوله: ((لم تفسد عليه صلاته)) وهذا يمشي على مذهب من يرى عدم اشتراط / إزالة النجاسة لصحة الصلاة، أو على مذهب مَن يقول: إنَّ من حَدَث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته.
          وقال الحافظ العسقلاني: قوله: لم تفسر محلُّه ما إذا لم يعلمْ بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقاً على قول من يذهب إلى أن اجتناب النجاسة في الصلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه ميل المصنف، وعليه يتخرج صنيع الصحابي الذي استمر في الصلاة بعد أن سالت منه الدماء برمي من رماه. انتهى.
          وتعقبه محمود العيني: بأنه من أين يعلم ميل المصنف إلى القول الثاني، وقد وضع هذا الباب وترجم بعدم الفساد مطلقاً، ولم يقيده بشيء مما ذكره هذا القائل، على أنه قد أكد ما ذهب إليه من الإطلاق بما روي عن عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيِّب، وعامر الشعبي.
          (وَكَانَ) وفي رواية: <قال> أي: البخاري وكان (ابْنُ عُمَرَ) ☻ (إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَماً، وَهُوَ يُصَلِّي، وَضَعَهُ) أي: وضع ثوبَه وألقاه عنه (وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ).
          قال محمود العيني: هذا الأثر لا يطابق الترجمة ؛ لأن فيها ما إذا أصاب المصلي نجاسة وهو في الصلاة لا تفسد صلاته، والأثر يدل على أن ابن عمر ☻ إذا رأى في ثوبه دماً وهو في الصلاة وضع ثوبه ومضى في صلاته، فهذا صريح على أنه لا يرى جواز الصلاة مع إصابة النجاسة في ثوبه، والدليل على صحة ما قلنا: ما رواه ابن أبي شيبة من طريق بُرد بن سنان، عن نافع عنه أنه: «كان إذا كان في الصلاة فرأى في ثوبه دماً فاستطاع أن يضعه وضعه، وإن لم يستطع خرج فغسله ثمَّ جاء يبني على ما كان صلى»، وإسناده صحيح. انتهى.
          وأنت خبير بأنه يمكن تطبيق هذا الأثر بالترجمة على مذهب من يقول: إن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته لا بمعنى أنه جاز معه الصلاة، بل بمعنى أنه يجوز له البناء بعد ما أزاله عنه، فإن قوله: ((لم تفسد عليه صلاته)) ليس بصريح في أنه يجوز معه الصلاة، على ما فهمه محمود العيني.
          ألا ترى أن من أحدث في صلاته لم تفسد صلاته ما لم يتكلم، بل يذهب ويتوضأ ويبني وهو في الصلاة، وهذا حجة قوية لمن ذهب إلى أن المصلي إذا انتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم ينصرف ويغسل ويبني على صلاته، وكذا إذا ضرب رأسه أو صدمه شيء فسال منه الدم.
          هذا، ولم يذكر / فيه _أي: في هذا الأثر_ إعادة الصلاة، وعدم الإعادة هو المروي عن ابن مسعود وابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، والزهري، وطاوس، وهو أيضاً قول الأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، ومذهب الشافعي، وأحمد: أنه يعيد الصلاة، وقيدها مالك بالوقت فإن خرج فلا قضاء فيه، وتفصيل هذا سيأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
          (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ) بفتح المثناة التحتية، واسمه سعيد، وقد تقدم في باب من قال: إن الإيمان هو العمل [خ¦26] (وَالشَّعْبِيُّ) بفتح الشين المعجمة وسكون العين، عامر الكوفي، وقد مرَّ في باب المسلم من سَلِمَ المسلمون [خ¦10] (إِذَا صَلَّى) أي: المرء.
          قال الحافظ العسقلاني: كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي: <وكان> بدل <وقال> فإن كانت محفوظة فإفراد قوله: «إذا صلى» على إرادة كل واحد منهما.
          (وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ) لم يعلمه (أَوْ جَنَابَةٌ) أي: أثرها، وهو المني، وهو أيضاً مقيد بعدم العلم عند من يقول بنجاسته (أَوْ) صلى (لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ) على اجتهاد، ثمَّ تبين الخطأ (أَوْ تَيَمَّمَ) أي: غير واجد للماء، وكل قيد من هذه القيود لا بد منه، على ما لا يخفى، وكل ذلك ظاهر من سياق الأربعة المذكورة للتابعيَّين المذكورين، وقد وصلها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة مفرقة.
          (فَصَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ) أي: بعد أن فرغ (لاَ يُعِيدُ) أي: الصلاة، أما مسألة الدم فقد ذكرت آنفاً، وكذلك التي عند من يقول بنجاسته، وأما من يقول بطهارته فلا قضاء فيه عنده قطعاً، وأما القبلة فقال الثلاثة والشافعي في ((القديم)): لا يعيد وهو قول الأكثر أيضاً.
          وقال في ((الجديد)): يجب الإعادة، واستُدِلَ للأولين بحديث أخرجه الترمذي من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه وقال: حسن، لكن ضعفه غيره.
          وقال العقيلي: لا يروى من وجه يثبت.
          وقال ابن العربي: مستند الجديد أن خطأ المجتهد يبطل إذا وجد النص بخلافه، قال: وهذا لا يتم في هذه المسألة إلا بمكة، وأما في غيرها فلا ينَقضُ الاجتهاد بالاجتهاد.
          وأجيب بأن هذه المسألة مصورة فيما إذا تيقن الخطأ، فهو انتقال من يقين الخطأ إلى الظن القوي، فليس فيه نقض اجتهاد، وأما مسألة التيمم فعدم وجوب الإعادة قول الأئمة الأربعة وأكثر السلف، وذهب جمع من التابعين منهم عطاء وابن سيرين ومكحول إلى وجوب الإعادة.
          قال محمود العيني: وهذا الأثر إنما يطابق الترجمة إذا عُمِلَ بظاهره على الإطلاق، أما إذا قيل: المراد من قوله: (دم) أقل من قدر الدرهم عند من يرى ذلك، أو شيء يسير عند من ذهب إلى أن اليسير عفو فلا يطابق الترجمة، وكذلك الجنابة لا تطابقها عند من يراه طاهراً، هذا، وفيه تأمل، فليتأمل. /