نجاح القاري لصحيح البخاري

باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة

          ░64▒ (باب غَسْلِ الْمَنِيِّ) عند كونه رطباً (وَفَرْكِهِ) أي: دلكه حتى يذهب أثره عند كونه يابساً والمنيُّ بتشديد الياء، ماءٌ خاثرٌ أبيض يتولد منه الولد، وينكسر به الذكر، ورائحته رائحة الطلع (وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ) الثوب والجسد (مِنَ الْمَرْأَةِ) أي: من الرطوبة الحاصلة من فرجها عند مخالطته إياها.
          اعلم أن هذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أحكام، ولم يذكر في الباب إلا غسل المني، ولم يذكر حديثاً للفرك المذكور في الترجمة؛ اكتفاء بالإشارة إليه فيها كعادته، أو كان غرضه سَوق حديث يتعلَّق به فلم يتفق أو لم يجده على شرطه.
          وأما حكم ما يصيب من رطوبة فرج المرأة فلأنَّ المني يختلط بها عند الجماع، أو اكتفى بما سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر كتاب الغسل من حديث عثمان ☺ [خ¦292]، كذا وجهوه، وقال محمود العيني: كلُّ ذلك لا يجدي، ولكن حبُّك الشيءَّ يُعمي ويُصمُّ هذا، فافهم.
          قال الحافظ العسقلاني: وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض؛ لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطباً، والفرك على ما كان يابساً، وهذه طريقة الحنفية (1)، والطريقة الأولى أرجح ؛ لأن فيها العمل بالخبر والقياس معاً ؛ لأنه لو كان نجساً لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره وهم لا يكتفون فيما لا يُعفى / عنه من الدم بالفرك.
          ويردُّ الطريقة الثانية أيضاً ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى، عن عائشة ♦: ((كان يسلتُ المنيَّ من ثوبه بِعِرْقِ الإِذْخِر، ثمَّ يصلي فيه، ويحتُّه يابساً من ثوبه، ثمَّ يصلي فيه)) فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين، وأما مالك ☼ فلم يعرف الفرك، وإن العمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات، وحديث الفرك حجة عليهم، وحمل بعض أصحابه الفرك على الدَّلك بالماء، وهو مردود بما في إحدى روايات مسلم، عن عائشة ♦: ((لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلعم يابساً بظفري))، وبما صحَّحه الترمذي من حديث همام بن الحارث: أن عائشة ♦ أنكرت على ضيفها غسله الثوب فقالت: لِمَ أفسدَ علينا ثوبنَا، إنما يكفيه أن يفركه بأصابعه، فربما فَرَكْتُه من ثوب رسول الله صلعم بأصابعي. انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني بوجوه:
          أما أولاً: فبقوله: مَن هو الذي ادعى تعارضاً بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق، ولا نُسلِّم التعارض بينهما أصلاً، بل حديث الغسل يدلُّ على نجاسة المنيِّ بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضاً في يابسه، ولكن خُصَّ بحديث الفرك.
          وأما ثانياً: فبأنَّ قوله: «بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب» كلام واهٍ، فإن أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، ولا وجه هاهنا للثاني ؛ لأنه صلعم لم يتركه على ثوبه أصلاً، وكذلك الصحابة من بعده ومواظبته صلعم على فعل شيء من غير ترك في الجملة تدلُّ على الوجوب، وأيضاً الأصل في الكلام الكمال فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل إلا عند القرينة، وهو فحوى ما في الأصول من أن الأمر المطلق ؛ أي: المجرد عن القرائن، يدلُّ على الوجوب.
          وأما ثالثاً: فبأنَّ قوله: «والطريقة الأولى أرجح» غير مسلم، بل هي غير راجحة فضلاً عن أن تكون أرجح، بل هو غيرُ صحيح ؛ لأنه قال: «فيها العمل بالخبر» وليس كذلك، فإن مَن يقول بطهارة المني غير عامل بالخبر ؛ لأن الخبر يدل على نجاسته كما سبق، وكذلك قوله: (فيها العمل بالقياس) غير صحيح ؛ لأن القياس وجوب غسله مطلقاً، ولكن خص بحديث الفرك كما ذكر، فإن قيل: / ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط.
          فالجواب: أن القياس غير صحيح ؛ لأن المخاط لا يتعلَّق بخروجه حدث أصلاً، والمني موجب للحدث الأكبر، وهو الجنابة.
          وأما رابعاً: فبأنَّ قوله: «كالدم وغيره...» إلى آخره قياسٌ فاسدٌ أيضاً ؛ لأنه لم يأتِ نص بجواز فرك الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني، على خلاف القياس، فيقتصر على مَورد النص.
          وأما خامساً: فبأنَّ قوله «ويردُّ الطريقة الثانية...»إلى آخره غيرُ صحيح، وليس فيه دليل على طهارته، إذ قد يجوز أن يكون ◙ كان يفعله، فيطهر الثوب بذلك، والحال أن المني في نفسه نجسٌ، وقد روى أبو داود (2) من حديث أبي هريرة ☺: ((أن النبي صلعم إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)).
          ورواه الطحاوي أيضاً، ولفظه: ((إذا وطئ أحدكم الأذى بخفِّه أو نعْلِه فطهورهما التراب))، وقال الطحاوي: فكأنَّ ذلك التراب يجزئ من غسلهما، وليس في ذلك دليلٌ على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني، والمراد من الأذى النجاسة، فإن قيل: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} [الفرقان:54] سمَّاه ماء، وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشبيه في الحكم، ومِن حُكْمِ الماءِ أن يكون طاهراً.
          فالجواب: أنَّ تسميتَه ماء لا تدل على طهارته، فإن الله تعالى سمى مني الدواب أيضاً ماء حيث قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] ومني الكلب والخنزير نجس بلا خلاف، وإن كان فيما عداهما من الحيوانات ثلاث روايات: إحداها: أن كلها طاهر، والثانية: أن كلَّها نجس، والثالثة: أن مني مأكول اللحم طاهر، ومني غيره نجس، فإن قيل: إن مني الآدمي أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهراً.
          فالجواب: أنه أصل الأعداء أيضاً كنمروذ وفرعون وهامان وغيرهم على أنَّا نقول: العَلَقَة أقرب إلى الإنسان من المني، وهي أيضاً أصل الأنبياء، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة.
          وأما سادساً: فبأنَّ قوله: «وأما مالك فلم يعرف الفرك...» إلى آخره فيه أنه لا يلزم من عدم معرفته الفرك أن يكون المني طاهراً عنده، فإنَّ عنده المني نجس، كما هو عندنا، وذكر في ((الجواهر)) للمالكية: المني: نجس، وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس / هل هو رَدُّهُ إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟.
          ثمَّ قال الحافظ العسقلاني: وقال بعضهم: «الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة» وهو مردود أيضاً بما في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضاً: ((لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلعم فركاً فيصلي فيه))، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة.
          وأصرح منه رواية ابن خزيمة: «أنها كانت تحكه من ثوبه صلعم وهو يصلي»، وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك فليس في حديث الباب ما يدلُّ على نجاسة المني ؛ لأن غسلها فعل، وهو لا يدل على الوجوب بمجرده. انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني أيضاً وقال: أراد بقوله: «وقال بعضهم»: الحافظَ أبا جعفر الطحاوي، فإنه قال في ((معاني الآثار)): حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا بِشْر بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن همام بن الحارث: أنه كان نازلاً على عائشة ♦ فاحتلم فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، أو يغسل ثوبه، فأخبرت بذلك عائشة ♦ فقالت عائشة: «لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله صلعم ».
          وأخرج الطحاوي هذا من أربعةَ عشَر طريقاً، وأخرجه مسلم أيضاً ثمَّ قال _أي: الطحاوي_ فذهب ذاهبون إلى أن المنيَّ طاهرٌ، وأنه لا يفسد الماء وإن وقع فيه، وأنَّ حكمه في ذلك حكم النجاسة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وأراد بهؤلاء الذاهبين الشافعيَّ وأحمد وإسحاق وداود ثمَّ قال: وخالفهم في ذلك آخرون فقال: بل هو نجس، وأراد بالآخرين الأوزاعي، والثوري، وأبا حنيفة وأصحابه، ومالكاً، والليث بن سعد، والحسن بن حَيّ، وهو رواية عن أحمد، ثمَّ قال _أي: الطحاوي_ وقالوا: لا حجة لكم في هذه الآثار ؛ لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها ولم تأت في ثياب يصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والدم والبول لا بأس بالنوم فيها، ولا يجوز الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبي صلعم في ذلك، ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة في ذلك فَلِمَ نخالف نبينا فيما رُوِيَ في ذلك عنه صلعم .
          وقد جاء / عن عائشة ♦ قالت: «كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلعم ، فيخرج إلى الصلاة، وإن بُقَع الماء لفي ثوبه»، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الجماعة أيضاً.
          قال الطحاوي: فهكذا كانت تفعل عائشة ♦ بثوب رسول الله صلعم الذي كان يصلي فيه ؛ أي: تغسل المني منه، وتفركه من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه، واستدلال الحافظ العسقلاني: بأن هذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل لا يصلح لذلك، فإن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة، فإن التعقيب في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوَّج فلان فوُلِدَ له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وهي مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة ♦: «لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلعم الذي ينام فيه، ثمَّ يغسله فيصلي فيه»، ويجوز أن تكون الفاء بمعنى ثم، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14] الآية، فالفاءات فيها بمعنى ثمَّ لتراخي معطوفها، فإذا ثَبَتَ جواز التراخي في المعطوف بها جاز أن يتخلل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة، ويجوز وقوع الغسل فيها.
          ويؤيد ما ذكرنا ما رواه البزار في ((مسنده)) والطحاوي في ((معاني الآثار)) عن عائشة ♦ قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلعم ، ثمَّ يصلي فيه».
          وأما قوله: «أصرح منه رواية ابن خزيمة...»إلى آخره لا يساعده أيضاً فيما ادعاه، فإن قوله: وهو يصلي جملة اسمية وقعت حالاً منتظرة ؛ لأن عائشة ♦ ما كانت تَحُكُّ المني من ثوب رسول الله صلعم حال كونه في الصلاة، فيحتمل أيضاً تخلل الغسل بين الفرك والصلاة هذا.
          فائدة: وطَعَنَ بعضهم في الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المني بأن مني النبي صلعم طاهر دون غيره كسائر فضلاته، والجواب على تقدير صحة كونه من الخصائص أنَّ منيَّه كان عن جماع، فيخالط مني المرأة فلو كان منيها نجساً لم يكتف فيه بالفرك، وبهذا احتج الشيخ الموفَّق وغيرُه على طهارة رطوبة فرجها قال: ومن قال: أنَّ المني لا يسلم من المذي فيتنجس به لم يُصِبْ ؛ لأن الشهوة إذا اشتدت خرج المني دون / المذي، والبول كحالة الاحتلام، والله أعلم.


[1] في هامش الأصل: وحاصل ما في هذه المسألة أن مذهب الشافعي وأحمد طهارة المني، وقال إمامنا الأعظم أبو حنيفة والإمام مالك ►: نجس إلا أن أبا حنيفة يكتفي في تطهير اليابس بالفرك، ومالكاً يوجب غسله رطباً ويابساً. منه.
[2] في هامش الأصل: لا يقال في هذا الحديث كلام فإن في سنده محمد بن كثير الصنعاني وقد تكلموا فيه، لأنا نقول وثقه ابن حبان في ((صحيحه))، وأخرجه الحاكم في ((مستدركه)) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال النووي في ((الخلاصة)): رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة، ورواه أبو داود أيضاً من حديث عائشة ♦ بمعناه، وروى أيضاً نحوه من حديث أبي سعيد الخدري ☺ وأخرجه ابن حبان أيضاً. منه.