نجاح القاري لصحيح البخاري

باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة

          ░43▒ (باب) حكم (وُضُوءِ الرَّجُلِ) بضم الواو على المشهور ؛ لأن المراد به الفعل (مَعَ امْرَأَتِهِ) في إناء واحد، وفي بعض النسخ: <مع المرأة>، وهي أعم من أن تكون امرأته أو غيرها (وَفَضْلِ) بالجر عطفاً على قوله: وضوء الرجل (وَضُوءِ الْمَرْأَةِ) بفتح الواو ؛ لأن المراد به هو الماء الفاضل في الإناء بعد فراغها من الوضوء.
          (وَتَوَضَّأَ عُمَرُ) أي: ابن الخطاب ☺ (بِالْحَمِيمِ) بفتح الحاء المهملة ؛ أي: الماء المُسخن، وقال ابن بطال: قال الطبري: هو الماء السخين فعيل بمعنى مفعول، ومنه سمِّي الحمَّام حَمّاماً لإسخانه مَنْ دَخَله، والمحموم محموماً لسخونة جسده، وقال ابن المنذر: أجمع أهل الحجاز وأهل العراق جميعاً على الوضوء بالماء المُسَخَّن، غير مجاهد فإنه كرهه، رواه عنه ليث بن أبي سُلَيم.
          وذكر الرافعي في كتابه: أن الصحابة ♥ تطهرَّوا بالماء المسخن بين يدي رسول الله صلعم ولم يُنْكَر عليهم، وقال المحبُّ الطبري: لم أرَ هذا الخبر في غير كتاب الرافعي.
          وقال محمود العيني: قد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبري في ((الكبير))، والحسن بن سفيان في ((مسنده))، وأبو نعيم في ((المعرفة)) والمشهور من طريق الأسلع بن شريد قال: كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلعم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلعم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلعم وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلاً من الأنصار أن يُرَحِّلها ووضعت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثمَّ لحقت رسول الله صلعم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا} إلى قوله تعالى: {غَفُوراً} [النسا:43].
          وفي سنده الهيثم بن زريق، الراوي له عن أبيه، عن الأسلع، وهما مجهولان، والعلاء بن الفضل راويه عن الهيثم فيه ضعف، وقد قيل إنَّه تفرَّد به، وقد رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب ☺، كما ذكره البخاري، ومنهم سلمة / بن الأكوع أنه «كان يسخن الماء يتوضأ به»، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ومنهم ابن عباس ☻ أنه قال: ((إنا نتوضأ بالحميم وقد أُغْلِيَ على النار))، رواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه))، ومنهم ابن عمر ☻ رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن نافع: «أن ابن عمر كان يتوضأ بالحميم»، نعم، يُكره الوضوء بشديد السخونة لمنعه الإسباغ. هذا، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ «أن عمر ☺ كان يتوضأ بالحميم ويغتسل منه»، ورواه ابن أبي شيبة والدارقطني بلفظ: «كان يُسخَّن له ماء في قمقم ثمَّ يغتسل منه»، قال الدارقطني: إسناده صحيح.
          (و) توضأ عمر ☺ أيضاً (مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ) وفي رواية كريمة: <من بيت نصرانية> بحذف واو العطف، وفيه نظر ؛ لأنهما أثران مستقلان وقد ذكر الأول، وأما الثاني فقد وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: «أن عمر ☺ توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية»، وهذا لفظ الشافعي.
          وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: رواه خلَّاد بن أسلم، عن سفيان بسنده فقال: ماء نصراني بالتذكير، والمحفوظ ما رواه الشافعي، وفي ((الأم)) للشافعي: من جرة نصرانية، وفي ((المهذب)) لأبي إسحاق: جرة نصراني، وقال: صحيح.
          وذكر ابن فارس في ((حلية العلماء)): هذا سُلاخة عرقوب البعير يجعل وعاء للماء، ثمَّ الظاهر أن هذين الأثرين ليس لهما مطابقة للترجمة أمَّا الأول فظاهر، وأمَّا الثاني فلأنه لا يدل على أنه كان من فضل ماء استعملته، بل الذي يدل عليه جواز استعمال مياههم، ولكن يكره استعمال أوانيهم وثيابهم، سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم.
          وقالت الشافعية: وأوانيهم المستعملة في الماء أخف كراهة، فإن تيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم فلا كراهة إذن في استعمالها، قالوا: ولا نعلم فيه خلافاً، وإذا تطهر من إناء كافر ولم يتيقن طهارته ولا نجاسته فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمالها صحَّت طهارته قطعاً، وإن كان من قوم يتدينون باستعمالها فوجهان أصحَّهما الصحَّة، والثاني المنع، وممن كان لا يرى به بأساً الأوزاعي / والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما.
          وقال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً كرهه إلا أحمد وإسحاق، هذا، وتبعهما أهل الظاهر، واختلف قول مالك في هذا، ففي ((المدونة)): لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه.
          وفي ((العُتْبية)): أجازه مرة وكرهه أخرى، وقال الشافعي في ((الأم)): لا بأس بالوضوء من ماء المشرك وبفضل وضوئه ما لم يعلم فيه نجاسة، وقال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إذا كانت جنباً، ثمَّ إنه قد حُذف في رواية ابن عساكر هذان الأثران وهو أولى لما عرفت من عدم المطابقة بينهما وبين الترجمة، وأمَّا ما ذكره الكِرماني والحافظ العسقلاني في توجيه مطابقتهما للترجمة فكلام لا طائل تحته، كما ذكره محمود العيني، والله أعلم.