نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الوضوء من النوم

          ░53▒ (باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ) كثيراً أو قليلاً هل يجب أو يستحب؟ (وَ) باب (مَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ) تثنية نعسة على وزن مرة، من النَّعس من نَعَس يَنْعُسُ كَنَصر يَنْصر، ومن قال: / نُعِسَ بالضم فقد أخطأ.
          وفي ((الموعب)): وبعض بني عامر يقولون: ينعَس بفتح العين يقال: نَعَس ينعَس نَعَساً ونُعاساً، فهو ناعس ونَعْسان، وامرأة نَعسَى، وقال ابن السِكِّيت وثعلب: لا يقال (نعسان)، وحكى الزجاج عن الفراء أنه قال: قد سمعت نعسان من أعرابي من عنَزة قال: ولكن لا اشتهيه، وعن صاحب ((العين)) أنه قال: وسمعناهم يقولون: نَعسان ونعسى؛ حملوه على وسنان ووَسْنى.
          وفي ((المُحْكَم)): النعاس النوم، وقيل: ثَقْلتَه ومُقَاربته، وامرأة نعسانة وناعسة ونَعوس، وفي ((الصحاح)) و((المجمل)): النعاس الوسن ورجل وسنان؛ أي: ناعس، والسِنة بكسر السين أصلُها وِسْنة كعدة أصلها وِعْدة حذفت الواو تبعاً لحذفها في مضارعه ونقلت فتحتها إلى عين الفعل ووزنها عِلَة.
          (أَوِ الْخَفْقَةِ) على وزن النَعْسَة، وهو أيضاً على وزن المرة من الخفق، يقال: خفَق الرجل بفتح العين يخِفقُ بكسرها خَفْقاً وخَفْقة إذا حرك رأسه وهو ناعسٌ.
          وفي ((الغريبين)): تخِفقُ رؤوسُهم معناه: تسقط أذقانُهم على صدورِهم، وقولُ الهروي هذا، من حديثٍ أخرجه أحمد بن نصر في قيام الليل بإسناد صحيح عن أنس ☺: كان أصحاب رسول الله صلعم ينتظرون الصلاة فينعُسون حتى تخفِق رؤوسهم ثمَّ يقومون إلى الصلاة، وقال ابن الأثير: خفَق إذا نعس والخُفُوق الاضطراب.
          وقال ابن التين: الخفقة النعسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ.
          وقال الحافظ العسقلاني: والظاهر أنه من ذِكْرِ الخاص بعد العام، فعلى قول ابن التين بين النَّعسة والخفقة مساواة، وعلى قول الحافظ عمومٌ وخصوص، ويؤيده ما قاله أهل اللغة خَفَق رأسه إذا حركها وهو ناعس، وقال أبو زيد: خفق برأسه من النعاس ؛ أي: أماله، وقد سبق قول الهروي في ((الغريبين)).
          وقال الحافظ العسقلاني أيضاً: ظاهر كلام البخاري أن النعاس يسمى نوماً، والمشهور التفرقة بينهما وهو أن من قَرَّت حواسه بحيث يَسمَعُ كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت.
          وتعقبه محمود العيني: بأن كون ظاهر كلام البخاري ذلك غير مُسلَّم، كيف، وقد عَطِف قولَه: (ومن لم ير من النعسة...)إلى آخره على النوم، والتحقيق في هذا المقام أن هاهنا ثلاثة أشياء: النوم، والنَّعسة، والخَفْقَة.
          (وُضُوءاً) بالنصب على أنه مفعول (لم ير)، / فأشار البخاري إلى هذه الثلاثة إما إلى النوم فبقوله: (باب الوضوء من النوم)، وفيه تفصيل سيجيء عن قريب، وإما إلى النعاس فبقوله: (من النعسة والنعستين)، ويفهم من هذا أن النعسة إذا زادت على الثنتين يجب الوضوء ؛ لأنه يكون حينئذ نائماً مستغرقاً، وأشار إلى الخفقة بقوله: (أو الخفقة)، ويفهم من هذا أن الخفقة إذا زادت على الواحدة يجب الوضوء، ولهذا قيَّد ابن عباس ☻ الخفقة بالواحدة فيما روى ابن المنذر عنه أنه قال: «وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة».
          اعلم أن العلماء قد اختلفوا في النوم هل ينقض الوضوء أو لا؟ على تسعة أقوال: الأول أنه لا ينقض الوضوء (1) بحال، وهو محكيَّ عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيَّب، وأبي مجلز، وحُميد بن عبد الرحمن، والأعرج.
          قال ابن حزم: وإليه ذهب الأوزاعي، وهو مروي عن جماعة من الصحابة وغيرهم منهم ابن عمر، ومكحول، وعَبِيْدَة السلماني.
          وفي ((صحيح مسلم)) وأبي داود: كان أصحاب النبي صلعم ينتظرون الصلاة مع النبي صلعم فينامون ثمَّ يصلون ولا يتوضئون، لكن حُمِلَ ذلك على أنه كان وهم قعود كما هو حال من ينتظر الصلاة، لكن في ((مسند البزار)) بإسناد صحيح في هذا الحديث: «فيضعون جُنُوبهم فمنهم من ينام، ثمَّ يقومون إلى الصلاة».
          الثاني: أنه ينقض الوضوء على كل حال، وهو مذهب الحسن، والمزني وأبي عُبيد القاسم بن سلاَّم، وإسحاق بن راهويه، قال ابن المنذر: وهو قولٌ غريب عن الشافعي قال: وبه أقول، وروي معناه عن ابن عباس، وأنس، وأبي هريرة ♥ ، قال ابن حزم: النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قلَّ أو كَثُر، قاعداً أو قائماً، في صلاة أو غيرها أو راكعاً أو ساجداً أو متكئاً أو مضطجعاً، أيقن مَن حواليه أنه لم يُحْدِث أو لم يوقنوا.
          الثالث: كثيره ينقض وقليله لا ينقض بكل حال، قال ابن المنذر: وهو قول الزهري، وربيعة، والأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقال بعضهم: إذا نام حتى غُلِب على عقله وجب عليه الوضوء، وبه يقول إسحاق.
          الرابع: أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد لا ينقض وضوؤه سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإن نام مضطجعاً أو مستلقياً على قفاه انتقض، وهو قول / أبي حنيفة وداود، وقولٌ غريب للشافعي، وقال به أيضاً حمَّاد بن أبي سليمان وسفيان.
          الخامس: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع، وهو قول عن أحمد، ذكره ابن التِّين.
          السادس: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد، وروي هو أيضاً عن أحمد.
          السابع: أن من نام ساجداً في مُصلاَّه فليس عليه وضوء، وإن نام ساجداً في غير مصلاه توضأ، فإن تعمد النوم في الصلاة فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.
          الثامن: أنه لا ينقض النومُ في الصلاة الوضوءَ، وينقضُ خارج الصلاة، وهو قولٌ للشافعي.
          التاسع: أنه إذا نام جالساً مُمْكناً مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قلَّ أو كَثُر، وسواء كان في الصلاة أو في خارجها، وهذا مذهب الشافعي ☼ ، قال: إن النوم ليس حدثاً في نفسه، وإنما هو دليل على الحدث، فإذا نام غير ممكن غَلَبَ على الظن خروج الريح فجعل الشرع هذا الغالب كالمُحقَّق، وأما إذا كان ممكناً فلا يغلب عليه الخروج، والأصل بقاء الطهارة.
          وقال أبو بكر بن العربي: تتبع علماؤنا مسائل النوم المتعلقة بالأحاديث المتعارضة فوجدوها أحد عشر حالاً ماشياً وقائماً ومستنداً وراكعاً وقاعداً متربعاً ومحتبياً ومتكئاً وراكعاً وساجداً ومضطجعاً ومستقراً وذلك في حقنا، فأما سيدنا رسول الله صلعم فمن خصائصه أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم بأي حال كان.


[1] قوله: ((أو لا على تسعة أقوال الأول أنه لا ينقض الوضوء)): ليس في (خ).