تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم

حديث: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين

          2450- (آثَرْتُ الرَّجُلَ أُوثِرُهُ إِيْثَاراً) إذا خَصَصْتَهُ وقَدَّمْتَهُ.
          (الضَّعِيْفُ الَّذِي خُصَّتِ الجَّنَّةُ بِهِ) من ضَعُفَ في أمرِ دُنْيَاهُ وقَوِيَ في أمرِ آخِرَتِهِ.
          (وَالسَّقَطُ) في الأصلِ المُزْدَرَى بهِ، والسَّقَطُ رديءُ المتاعِ.
          (وَالغَرَارَةُ) كالفَعَالةِ، والغِرُّ: الذي لم يُجَرِّبِ الأُمُوْرَ، وهذا كلُّهُ فيما احتجَّتْ بهِ الجَّنَّةُ في الحقيقةِ في حيِّزِ المدحِ لا في حيِّزِ الذَّمِّ، والازْدِرَاءُ لا معنى لهُ إلا أن يكونَ بحقٍّ، ومَنْ آثَرَ الخُمُوْلَ وإصلاحَ نفسِهِ والتَّزَوُّدَ لمعَادِهِ ونبَذَ أمورَ الدُّنْيَا فليسَ غِرّاً فيما قصدَ لهُ ولا سَقَطاً ولا مَذْموماً بنوعٍ من الذَّمِّ، وفي الأثرِ: «أَكْثَرُ أَهْلِ الجَّنَّةِ البُلْهُ» لأنَّهم أغفلُوْا أمرَ دُنْيَاهُمْ فجَهِلُوْا حِذْقَ التَّصَرُّفِ فيها والاصطيادِ لها، وأقبلُوا على آخرتِهم فأَتْقَنُوْا مَسَاعِيْهَا وشَغَلُوْا أَنْفُسَهُمْ بِها، وليسَ من عَجَزَ عن اكتسابِ الدُّنيا وتخلَّفَ في الحذقِ بها وأعرضَ عنها إلى اكتسابِ الباقياتِ الصَّالحاتِ مَذْمُوْماً، وهؤلاءِ هم الذينَ خُصَّتِ الجنةُ بهم رحمةً من اللهِ رَحِمَهُمْ بها إذ وَفَّقُهُمْ لها، كما خُصَّتِ النارُ بالمتكبرينِ ومن ذُكِرَ معهم، والمتكبرُ والمتجبِّرُ الذي يستحقرُ الناسَ ويَزْدَرِيْهِمْ ولا يرى لهم قَدراً ويرفعُ نفسَهُ ويُعَظِّمُهَا، وعلى ذلكَ فمن خُتِمَ لهُ بالإسلامِ وإخلاصِ النِّيَّةِ بالتوحيدِ فالنجاةُ حاصلةٌ له وإن نالَهُ ما نَالَهُ.
          (القَدَمُ) الذِي يَضَعُ اللهُ ╡ في النَّارِ: هم الذينَ قَدَّمَهُمْ من شِرَارِ خَلْقِهِ ليكونوا فِيها وأَثْبَتَهُمْ لَهَا، فهُمْ / قَدَمُ اللهِ للنارِ، كما أن المسلمينَ قَدَمُ الجنَّةِ؛ أي مُثْبَتُوْنَ لها في ما قَدَّمَ من حُكْمِهِ، حكى ذلكَ الهرويُّ عن الحسنِ البَصْرِيِّ، وقالَ أبو العباسِ ثَعْلَبٌ: القدمُ كلُّ مَا قَدَّمْتَ، قالَ اللهُ تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] أي سابقةً من الخيرِ نالوا بها المنازلَ الرفيعةَ، وأصلُ القَدَمِ الشَّيءُ تُقَدِّمُهُ قُدَّامَكَ؛ ليكونَ عُدَّةً لكَ إذا قَدِمْتَ عليهِ، ومنهم من قالَ في قولِهِ «حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ» شيئاً نحوَ هذا، ويحتجُّ بما حكاهُ أهلُ اللُّغةِ أن العربَ تقولُ: كانَ ذلكَ على رجلٍ فلانٌ؛ أي في زمانِهِ وعهدِهِ ووقتِهِ، فقالَ: يحتملُ أن يَضَعَ فيها ما يُقَدِّرُهُ اللهُ ويخلقُهُ في ذلكَ الوقتِ والحِيْنِ فيها، والصوابُ عندَ أهلِ التَّحقيقِ تركُ الخوضِ في هذا؛ لأنه لا يُعْلَمُ إلا بِوَحْيٍّ مع الإقرارِ بأنه لا عِلْمَ لنا إلا ما عَلَّمَنَا مع حفظِ القلبِ من أن يُلِمَّ بهِ وجهٌ من وُجُوْهِ التَّشبيهِ الذي قد نَفَتْهُ الأدلةُ الجَّلِيَّةُ وشِفَاؤُنَا منهُ قولهُ تَعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والسلامَةُ بهذا مضمونةٌ، والجراءةُ فيهِ والاقتحامُ عليهِ غيرُ مأمونٍ، وباللهِ التوفيقُ.
          (قَطْ قَطْ) في قولِ النَّارِ بمعنى حَسْبُ، والحَسْبُ الكِفَايَةُ، ومنهم من رواهُ قَطْنِي: أي حَسْبِي ساكنة الطاءِ، قالَ: قَطْكَ هذا؛ أي حَسبُكَ هذا، وقَطَاطِ بمعنى حَسْبِي أيضاً، وقَطُّ مُشَدَّدَةٌ لِنَفي الأمرِ، تقولُ ما رأيتُهُ قَطُّ ولا أَظُنُّنِي أراهُ قطُّ.
          (وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) أي يُجمَعُ، والانْزِوَاءُ الاجتماعُ والانقباضُ والانْضِمَامُ، يُقالُ: انْزَوَتِ الجلدَةُ في النَّارِ إذا تقبَّضَتْ واجْتَمَعَتْ، ومنهُ «زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ»: أي؛ جُمِعَتْ حتى أمكنَهُ رؤيةُ ما رأى منها، وزاويةُ البيتِ سُمِّيَتْ للاجتماعِ في ناحيةٍ منهُ.