مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ

          ░21▒ باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ
          فيه حديث أبي قيس واسمه سعد كما قاله مسلم مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران..)) الحديث.
          والاجتهاد هو استخراج وسع العالم في طلب حكم الحادثة.
          قوله: (ثم أخطأ فله أجر) احتج به من قال: إن الحق في واحد وإنه ليس كل مجتهد مصيباً وهي مسألة خلافية طويلة الذيل.
          وهذا إذا كان العالم مفتخراً بنفسه يرى نفسه أهلاً لذلك ويراه الناس، وأما المقصر فلا يسوغ له أن يدخل نفسه في شيء من ذلك، فإن فعل هلك قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، وفي حديث (د) وغيره من حديث بريدة: ((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة)).
          وكذا قال ابن المنذر: إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالماً بالاجتهاد والسنن، فأما من لم يعلم ذلك فلا يدخل في معنى الحديث، ثم استدل بحديث بريدة هذا وإنما يؤجر على اجتهاد في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية [الأنبياء:78] قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.
          وذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في جميع أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء.
          وقال أبو بكر بن الطيب: اختلفت الروايات عن أئمة الفتوى في هذا الباب كمالك وأبي حنيفة والشافعي: فأما مالك، فالمروي عنه منعه المهدي من حمله الناس على العمل والفتيا [بما] في ((الموطأ)) وقال له: دع الناس يجتهدون، وظاهر / هذا إيجابه على كل مجتهد القول بما يؤديه الاجتهاد إليه، ولو رأى أن الحق في قوله فقط، أو قطع عليه لكان الواجب عليه المشورة على السلطان للعمل به، ويبعد أن يعتقد مالك أن كل مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهاده، وإن كان مخطئاً في ذلك، وذكر عن أبي حنيفة والشافعي القولين جميعاً.
          واحتج من قال أن الحق في واحد بحديث الباب كما سلف، وهو نص على أن [في] المجتهدين والحاكمين مخطئاً ومصيباً، قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالاً [و]حراماً وواجباً وندباً، ويلزم الحاكم اعتقاد كونه حلالاً إذا رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد وحراماً إذا رأى ذلك غيره، وأن تكون الزوجة محللة محرمة والمال ملك الإنسان وغير ملك له، إذا اختلف في ذلك أهل الاجتهاد.
          واحتج من قال: كل مجتهد مصيب، فقالوا: اتفق الكل من الفقهاء على أن فرض كل عالم الحكم والفتيا بما أداه الاجتهاد إليه، وما هو الحق عنده وفي غالب ظنه وأنه حرام عليه أن يفتي ويحكم بقول مخالفة، فلو كانت الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين الله لم يجز أن تجتمع الأمة على أن فرض القائل به؛ لأن إجماعها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله عنه وشرع خلافه.
          ولو جاز كون أحدهما مخطئاً؛ لأدى ذلك إلى أن الله تعالى أمر أحدهما بإصابة عين الباطل، وفي هذا القول تأدية إلى أن الله أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونه مأموراً بالاجتهاد وجب كونه بفتواه ممتثلاً أمره وطائعاً له ومصيباً عند الله، فثبت أن الحق مع كل واحد منهما بدليل قوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف:28]، ومع قيام الدليل على أن طاعة الباري إنما كانت طاعة لأمره بها، كما أن المعصية كانت معصية لنهيه عنها.
          وقد أجاب الشافعي عن هذا الحديث في الرسالة فقال: لو كان [في] الاجتهاد خطأ وصواب في الحقيقة لم يجز أن يثاب على أحدهما أكثر مما يثاب على الآخر؛ لأن الثواب لا يجوز فيما لا يسوغ ولا في الخطأ الموضوع إثمه عنا.
          وقال ابن الطيب: هذا الخبر يدل على أن كل مجتهد يكون مأجوراً على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاته أن يكون إثمه موضوعاً عنه، وأما أن يكون بمخالفة حكم الله تعالى مأجوراً فإنه باطل باتفاق، والشارع قد جعله مأجوراً، فدل ذلك على أن هذا ليس بخطأ في شيء وجب عليه ولزمه الحكم به.
          ويحتمل أن يكون معناه: إذا اجتهد في الحكم والطلب للنص فأصابه وحكم بموجبه فله أجران: أحدهما: على البحث والطلب، والآخر: على الحكم بموجبه، وأراد بقوله: إن حكم فأخطأ أي: أخطأ الخبر بأن لم يبلغه مع الاجتهاد في طلبه ثم حكم باجتهاده المخالف لحكم النص كان مخطئاً للنص ومصيبه لا محالة في الحكم؛ لأن الحكم بالاجتهاد عند ذلك فهو فرضه.
          ولهذا كان يقول عمر عندما كان يبلغه الخبر: لولا هذا لقضينا فيه برأينا ولم يقل به أحد من الصحابة: فلو قضيت فيه برأيك لو لم يبلغك الخبر لكنت بذلك عاصياً، ولم أردت أن تقضي بالرأي وهذا الخبر كان موجوداً.
          فدل إمساك الكل عن ذلك أن فرض الحاكم والمجتهد الحكم والفتيا برأيه، وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغه تغير عند ذلك فرضه ولزمه الحكم بموجبه. ولا نقول: إن كل مجتهد مصيب إلا في الفروع ومسائل الاجتهاد التي يجوز للعامي فيها التقليد، وأما القول بوجوب الصلوات الخمس والصيام والحج وكل فرض ثبت العمل به بالتواتر والاتفاق فأصل من أصول الدين يحرم خلافه كالتوحيد والنبوة وما يتصل بها.