مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه

          ░3▒ باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه
          وقوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} الآية [المائدة:101].
          وحديث عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أن النبي صلعم قال: ((إن أعظم المسلمين جرماً)) الحديث.
          وحديث زيد بن ثابت أن النبي صلعم اتخذ حجرة في المسجد.
          وحديث أبي موسى سئل عن أشياء كرهها.
          وحديث أنس مثله.
          وحديث المغيرة في النهي عن قيل وقال، وإضاعة المال، وحديث أنس: كنا عند عمر بن الخطاب فقال: نهينا عن التكلف.
          وحديثه أيضاً قال رسول الله صلعم: ((لن يبرح الناس يتساءلون)) وحديث ابن مسعود: كنت مع رسول الله في حرث بالمدينة.
          قد أسلف (خ) سبب نزول الآية من حديث أنس، وروي من طريق أبي هريرة أيضاً، وقيل: إنما نهي عن هذا؛ لأنه سبحانه أحب الستر على عباده رحمة منه لهم، وأحب أن لا يقترحوا المسائل، وقال سعيد بن جبير: نزلت في الذين سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة، ألا ترى أن بعدها ما جعل الله من بحيرة قال ابن عون: سألت نافعاً عن هذه الآية.
          فقال: لم تزل كثرة السؤال منذ قط تكره. وقال الحسن البصري: في هذه سألوه عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل: كان الذي يسأل رسول الله عن أبيه يتنازعه رجلان، فأخبره بأبيه منهما، وأعلم ◙ أن السؤال عن مثل هذا لا ينبغي، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدى ذلك إلى فضيحة لا سيما وقت [سؤاله] رسول الله، ونزول الآيات في ذلك، وسلف في كتاب الفتن كراهة أم حذافة لسؤاله رسول الله عن أبيه، وما قالت له في ذلك فلسؤالهم له عما لا ينبغي، وتعنيته توجب النار، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بتعزيره وتوقيره، وأن لا يرفع الصوت فوق صوته، وتوعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
          ألا ترى فهمَ عمر لهذا الأمر وتلافيه له بأن برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربًّا.. إلى آخره.
          فسكت ◙ وسكن غضبه، ورضي قول عمر حين ذب عن نبيه ونبه على التوبة مما فيه إغضابه أن يؤدي إلى غضب الله وقد ذكرنا شيئاً من هذا في كتاب الفتن، والدليل على صواب فعل عمر، قوله ◙ بعد ذلك: ((أولى والذي نفسي بيده)) أولاً، يعني لمن عنت نبيه في المسألة، أو غضبه، ومعنى (أولى) عند العرب التهديد والوعيد.
          قال المبرد: يقال للرجل إذا أفلت من عظيمة: أولى لك، أي: كدت تهلك، ثم أفلت.
          قال المهلب: وأصل / النهي عن كثرة السؤال، والتنطع في المسائل مبين في قوله تعالى في بقرة بني إسرائيل حين أمرهم بذبح بقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هي؟ وما لونها؟ قيل لهم: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} [البقرة:68]، فشق عليهم، وقد كان ذلك مباحاً لهم، وكذلك ضيق عليهم في لونها، فمنعوا من غيره، ثم لما قالوا: {ِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، قيل لهم: {لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ} الآية [البقرة:71]، وقد كان ذلك مباحاً لهم، فعز عليهم وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها عقوبة لسؤالهم عما لم يكن لهم به حاجة.
          والآية السالفة وهي: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} [المائدة:11] فيها تحذير مما أنزل الله تعالى بهؤلاء القوم، ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيق عليهم.
          وقد سئل مالك عن (قيل وقال وكثرة السؤال) فقال: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله المسائل وعابها أو هو مسألة الناس أموالهم، وكان زيد بن ثابت وأبي بن كعب، وجماعة من السلف يكرهون السؤال عنها ويرون الكلام فيها لم ينزل من التكلف.
          وعبارة ابن التين هنا قيل: الإلحاف فيه للفقير، وقيل: عما لا يعنيه إما من علم، وإما من التجسس على الناس، ووقع لمالك أنه قال: والله ما يعرف إن كان الذي أنتم فيه من تفريع المسائل.
          قال وقيل: أراد النهي عن أشياء سكت عنها، فكره السؤال عنها لئلا يحرم شيئاً كان مسكوتاً عنه، ومن ذلك قوله لذلك الرجل: أين مدخلي؟ قال: ((النار))، وهذا كان في وسع لو سكت.
          فإن قلت: قد جاء في التنزيل ما يعارض ذلك، وهو الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل 43].
          قلت: هذا ليس من ذاك فالأمور هو ما تقرر، وثبت وجوبه فيما يجب العمل به، والمنهي عنه هو ما يتعبد الله عباده به ولم يذكره في كتابه.
          وقد سئل ابن عباس عن الآية السالفة، وهي قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ} الآية [المائدة:101]، قال: ما لم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه. ألا ترى أنه تعالى لم يجب اليهود عن سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما بهم الحاجة إلى علمه وكان من علمه تعالى الذي لم يطلع عليه أحداً، فقال لنبيه: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: من علمه {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] فنسبهم تعالى في سؤالهم عما لا ينبغي لهم السؤال عنه إلى قلة العلم.
          وقال مالك فيما رواه عنه أشهب: قيل وقال، هو هذه الأخبار والأراجيف في رأيي أعطي فلاناً كذا ومنع كذا بقول الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] فهؤلاء يخوضون.
          وسلف الكلام على ذلك في الزكاة في باب: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
          وأما قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فإنما قال ذلك؛ لعلمه أنهم كانوا متعنتين والمتعنت من عيوبه أن يخاطب بما يكره.
          قوله في حديث أنس: ((لن يبرح الناس يسألون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله)) فهو من السؤال الذي لا يحل.
          وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من حديث أبي هريرة أنه ◙ قال: ((لا يزال الشيطان يأتي أحدكم، فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم، فليقل: آمنت بالله)).
          ولأبي داود بإسناد جيد من حديث أبي هريرة أنه ◙ جاءه ناس من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا، وأنا تكلمنا بها، فقال: ((أو قد وجدتموه)) ((ذاك صريح الإيمان)).
          ولابن أبي شيبة من حديث الأعمش، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس جاء رجل إلى رسول الله، فقال: إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممةً أحب إليَّ من أن أتكلم به. فقال ◙: ((الحمد لله رده إلى الوسواس)).
          فإن قلت: كيف تسمى هذه الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟
          قلت: قال الخطابي: يريد أن صريح الإيمان هو الذي يعظم ما تجدونه في صدوركم ويمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في قلوبكم، ولولاه لم يتعاظموه ولم ينكروه، ولم يرد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وكيف تكون إيماناً وهي من قبل الشيطان، ألا تراه أنه ◙ حين سئل عن هذا قال: ((الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسواس)).
          وفيه وجه آخر: قال المهلب: قوله: (صريح الإيمان) يعني به: الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له؛ لأن المفكر يجد المخلوقات / كلها لها خالق يؤثر الصنعة فيها والحدث الجاري عليها، والله تعالى بهذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان لا البحث الذي هو من كيد الشيطان المؤدي إلى هذا الانقطاع؛ ليحير العقول، فنبه ◙ على موضع كيده وتحييره.
          قال غيره: وإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه، قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضاً؛ لأن بقولك يخلق قد أوجبت وجوده، وبقولك: نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجوداً ومعدوماً معاً متناقض فاسد؛ لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله، فيستحيل كون فعله فعلاً له؛ لاستحالة أن يقال: إن النفس تخلق النفس التي هو هو، وهذا بين في كل هذه الشبه وهو صريح الإيمان.
          فائدة:
          ذكر القاضي في ((طبقات المعتزلة)): أن الرشيد لما منع من الجدال في الدين كتب إليه ملك السند إنك رئيس قوم لا تنصفون وتقلدون الرجال وتغالبون بالسيف، فإن كنت على ثقة من دينك، فوجه إلي من أناظره، فإن كان الحق معك نتبعه، وإن كان معي تتبعني، فوجه الرشيد إليه بعض القضاة، وكان عند ملك السند رجل من الشمسية.
          وهو الذي حمله على هذا القول، فلما وصل القاضي إلى الملك أكرمه، ورفع منزلته، فسأله الشمسي فقال: أخبرني عن معبودك، هل هو قادر؟ قال: نعم. قال: فهل يقدر أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من الكلام، والكلام بدعة وأصحابنا ينكرونه، فقال الشمسي: ومن أصحابك؟ قال: محمد بن الحسن وأبو يوسف وأبو حنيفة، فقال الشمسي للملك: قد كنت أعلمتك دينهم، وأخبرتك بجهلهم وتقليدهم وغلبتهم بالسيف، فأمر الملك القاضي بالانصراف، وكتب إلى الخليفة: إني كتبت إليك وأنا على غير يقين فيما حكي لي عنكم والآن فقد تيقنت بحضور هذا القاضي، وذكر له ما جرى.
          فلما ورد الكتاب على الرشيد قامت قيامته، وقال: ليس لهذا الدين من يناضل عنه، فقالوا: بلى وهم الذين في الحبس، فقال: أحضروهم. فلما حضروا قال لهم: ما تقولون في هذه المسألة. قال صبي من بينهم: هذا السؤال محال؛ لأن المخلوق لا يكون إلا محدثاً والمحدث لا يكون مثل القديم فاستحال أن يقال: يقدر أن يخلق مثله، أو لا يقدر، كما استحال أن يقول: تقدر أن تكون جاهلاً أو عاجزاً، فقال الرشيد: وجهوا بهذا الصبي إلى السند يناظرهم، وذكر الخبر.
          إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت فقال: فيهما دلالة على أن الله تعالى يفعل شيئاً من أجل شيء وبسببه، وهذا يؤدي إلى قول القدرية.
          فالجواب: أنه قد ثبت أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه لا يكون من أفعاله التي انفرد بالقدرة عليها، ولا تدخل تحت قدر العباد ولا تكون من مقدورات العباد التي هي كسب لهم وخلق الله تعالى إلا والله مريد لجميع ذلك سواء كان آمراً بذلك عباده أو ناهياً لهم عنه، فغير جائز أن يقال: فعل فعلاً من أفعاله، والقول إنه فاعل بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله؛ لأن السبب والداعي فعل من أفعاله، والقول أنه فاعل بسبب يفضي إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه من فعله إلا بوقوع غيره تعالى الله عن ذلك وإذا فسد هذا وجب حمل قوله ◙: ((إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته)) على غير ظاهره، وصرفه إلى أنه تعالى فاعل سؤال السائل الذي نهاه عنه ومقدر أن يحرم الشيء الذي يسأل عنه إذا وقع السؤال فيه كل ذلك قد سبق به القضاء والقدر؛ لأن السؤال موجب للتحريم وعلة له.
          وكذلك قوله ◙: ((ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم)) يعني: من كثرة مطالبتكم لي بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقاباً لكم على كثرة ملازمتكم لي في مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له موجبة لكتاب الله عليهم الصلاة لما ذكرنا من أن الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطاً في وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصلاة عليهم لكان ذلك مما سبق القضاء والقدر في علم الله تعالى، وإنما نهاهم ◙ عن مثل هذا وشبهه تنبيهاً لهم على ترك الغلو / في العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة في ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} [المائدة:102] يعني: فرضت عليكم، فعجزوا عنها فأصبحوا كافرين، وكان ◙ رءوفا بالمؤمنين رفيقاً بهم.
          وقد تقدم مثل حديث زيد بن ثابت من رواية عائشة في أبواب قيام الليل في كتاب الصلاة، وأسلفنا في توجيهه ما لم يذكر هنا، فراجعه.
          فإن قلت: فإذا حمل قوله ◙: ((إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجله)) على غير ظاهره.
          فما وجه ذلك وإثم الجرم به؟ قيل: هو على ما تقرر علمه من نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب من فعل ما يلام عليه، وإن قل، تحذيراً من مواقعته له، فعظم جرم فاعل ذلك؛ لكثرة الكارهين لفعله.
          قوله في عرض هذا الحائط وعرض الحائط وسطه، وكذلك عرض البحر وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب ((العين))، وقال صاحب ((العين)): هو بضم العين أي: في ناحيته.
          قوله: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء... الحديث) فيه: أن الأشياء على الإباحة حتى تحرم، والقول بالوقف بعيدٌ لما فيه من الإضرار، وهو المنع من التصرف فيها بالأكل وغيره.
          والحجرة في حديث زيد: المكان يمتنع فيه.
          قوله: (فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) صريح في فضل النافلة في البيوت، يؤيده الحديث الآخر: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) وشذ بعضهم، فقال: يحتمل من فرضه في بيته عملاً بهذا الحديث، وجعله ناسخاً للأول ولا نسخ.
          والجد في حديث المغيرة بفتح الجيم أي: الغني، ويقال: الحظ والبخت، وقال الداودي: هو الشرف، وقال ابن حبيب: هو بالكسر وهو من جد الاجتهاد، وأنكره من قال: الجد الاجتهاد في الله، والله دعا الخلق إلى طاعته وأمرهم بالاجتهاد، لأداء فرائضه. فكيف لا ينفع ذلك عنده!
          وقيل: يريد المجتهد في طلب الدنيا لا ينفعه ذلك لتضييع أمر الآخرة، وقيل: يريد لا ينفع ذا الاجتهاد مثل اجتهاده في الهرب ولا في الطلب لما لم يقسم له.
          وقيل: معنى الفتح وغيره: لم يكن عليه جرم، فدل أن استعمالها كان سائغاً قبل ذلك أن من أتاه الله ملكاً أو شيئاً فأعظم به شأنه لم يكن نال شيئاً منه إلا بعطاء الله إياه.
          قوله: (منك الجد) قال الخطابي: (من) هنا بمعنى البدل، كقوله:
فليت لنا من ماء زمزم شربة                     مبردة باتت على الطهيان
          يريد: ليت لنا بدل ماء زمزم، والطهيان: البرادة.
          وقال الجوهري: معنى (منك) هاهنا: عندك، تقديره: ولا ينفع ذا الغنى عندك غنا وإنما ينفعهم العمل بطاعتك.
          والصحيح يقاس على بابها، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى غناه إن أنت أردته بسوء أو أمر كما تقول: لا ينفعك مني شيء، ولا يغنيك مني إن أنا أريد أخذاً.
          قال أبو عبد الملك: وقد بناه العراقيون في شرح ذلك، وزعموا أنه بفتح الجيم، فذهب به بعضهم إلى أن ذا البخت لا ينفعه جده ولا حظه من الله شيئاً، قال وبعضهم ذهب إلى أن جد الرزق والغنى لا ينفع من الله شيئاً فخطبوا فيه العشواء.
          وذكر هنا: أن المغيرة كتب إلى معاوية، وفي ((الموطأ)) عن معاوية: سمعت هذه الكلمات من رسول الله على هذه الأعواد إلى قوله منك الحدود أو من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وكان معاوية حينئذ خطب على منبر رسول الله، فيحتمل أن يكون معاوية سمع ذلك من رسول الله، وكتب به إلى المغيرة، وفيه من الطرق رواية صحابي عن صحابي.
          وسلف الكلام في قيل وقال والمعنى: أنه نهى عن كثرة الكلام والغالب عدم السلامة من المكثر لكلامه فيما لا يعنيه أو لأنه يخالط الكذب.
          قوله: (وعقوق الأمهات) أي: يخالف مرادهن وسكت عن الآباء؛ لأن معناهم بمعنى الأمهات، وأصل أم أمهه ويدل عليه أن جمعه أمهات، وقيل: أمهات للناس وأمات للبهائم(1).
          (ووأد البنات): دفنهن أحياء في التراب خشية الفقر.
          (ومنع وهات) أي: منع الحق وطلب الباطل.
          قوله: (لن يبرح الناس يسألون..) إلى آخره، وهو غير لازم، وذلك أن / العالم إذا ثبت حدثه افتقر إلى محدث؛ لاتفاق العقل على أن الكتابة لا بد لها من كاتب، والبناء من بان فإذا اتفقوا على افتقار الأدون إلى صانع، فالذي هو أعجب وأبدع من خلق السموات والأرض والجبال وخلق الإنسان، وما سوى ذلك من عجيب الآيات أولى أن يفتقر إلى صانع، ويدل أيضاً على إثبات الصانع أن شأن الحوادث تقدم بعضها على بعض في الوجود وصحة تقدم المتأخر منها فحصولها على ما حصلت عليه من التقدم والتأخر، واختلاف الأشكال والهيئات تدل على أن ذلك فعل عالم مريد مختار، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يكون الفاعل محدثاً أو قديماً، فإن كان محدثاً، نقلنا الكلام كما قلنا في المخلوقات، وكذلك في محدثه ويتسلسل القول في ذلك وما أدى إلى التسلسل فهو غير صحيح فلم يكن إلا أن يكون قديماً، وإذا كان قديماً فلا يقال: من خلقه؟ لأن القديم لا يتقدمه شيء ولا يصح عدمه وهو فاعل لا مفعول.
          قوله: (كنت مع رسول الله في حرث) أي: زرع، والعسيب، قال ابن فارس: عسبان النخل كالقضبان، والنفر، قال ابن عرفة: هم ما بين العشرة إلى الثلاثة، وفي ((الصحاح))، و((المجمل)): النفر من الثلاثة إلى العشرة.
          والروح، قال ابن عباس: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله إلى أن تقوم الساعة، وقال أبو صالح: هو خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم لهم أيد وأرجل، وقيل: هو جبريل، وقيل: هو عيسى ◙ وقيل: القرآن؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].
          وقال المفسرون: هو ملك عظيم يقوم وحده، فيكون صفًّا وتقوم الملائكة فيكون صفًّا، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ:38] الآية، وقيل: هو ملك عظيم رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند العرش، وقيل: هو خلق من خلق الله لا ينزل ملك إلا ومعه اثنان منهم.
          وذكر الداودي: أن الروح الوحي.
          قوله: (لا يسمعكم ما تكرهون) هو بإسكان العين مضموماً وقيل: مجزوماً جواب النهي.
          قال والدي ⌂:
          (باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه) أي: ما لا يهمه.
          قوله: (عبد الله بن يزيد) بالزاي المقرئ من الإقراء، و(سعيد) ابن أبي أيوب الخزاعي.
          فإن قلت: السؤال ليس بجريمة ولئن كانت فليست بكبيرة ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر؟ قلت: السؤال عن الشيء بحيث يصير سبباً لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرائم لأنه صار سبباً لتضييق الأمر على جميع المسلمين فالقتل مثلاً مضرته راجعة إلى المقتول وحده بخلافه فإنه عام للكل.
          فإن قلت: فيه أن أفعال الله تعالى معللة؟ قلت: الأشعرية لا ينكرون إمكان التعليل بل ينكرون الوجوب ويحتمل أن يكون المقدر أن الشيء الفلاني تتعلق الحرمة به إذا سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك لأن السؤال علة للتحريم.
          فإن قلت: قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] يدل على وجوب السؤال؟ قلت: هو معارض بقوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} [المائدة:101] فالتحقيق أن المأمور به ما تقرر حكمه من وجوب ونحوه والمنهي هو ما لم يتعبد الله به عباده ولم يتكلم بحكم فيه.
          قوله: (إسحاق) قال الغساني: لعله ابن منصور أو ابن راهويه، و(عفان) هو ابن مسلم الصفار، و(سالم) هو أبو النضر بسكون المعجمة، و(بسر) أخو الرطب ابن سعيد، و(حجرة) أي: حوط موضعاً من المسجد بحصيرة تستره من الناس ليصلي فيه، و(ليالي) أي: من رمضان وذلك كان في التراويح(2)، و(صنعكم) في بعضها: صنيعكم أي: حرصكم على الجماعة فيها، و(بكم) أي: متلبساً بكم، و(يكتب) أي: يفرض، و(المكتوبة) أي: المفروضة.
          فإن قلت: صلاة العيد ونحوها شرع فيه الجماعة في المسجد؟ قلت: لها حكم الفريضة؛ لأنها من شعار الشرع.
          فإن قلت: تحية المسجد وركعتا الطواف ليس البيت فيها أفضل؟ قلت: العام قد تخصص بالأدلة الخارجية قيل إن تحية المسجد لتعظيمه فلا يصح إلا فيه وما من عام إلا وقد خص إلا قوله: والله بكل شيء عليم مر في باب صلاة الليل.
          وفيه أنه إذا تعارضت مصلحتان اعتبر أهمهما.
          قوله: (بريد) هو ابن عبد الله بن أبي بردة بضم الموحدة في اللفظين / روى عن جده عن أبيه عبد الله الأشعري أبي موسى.
          قوله: (حذافة) بضم المهملة وبتخفيف المعجمة وبالفاء السهمي، و(شيبة) بفتح المعجمة وإسكان التحتانية وبالموحدة مر في كتاب العلم.
          قوله: (وراد) بتشديد الراء كاتب المغيرة ومولاه، و(دبر) أي: عقيب، و(الجد) البخت أو أبو الأب بالكسر الاجتهاد؛ أي: لا ينفع الغنى ونحوه أو النسب أو الكد والسعي، و(بذلك) أي: بدل فضلك ومن للبدلية مر في باب الذكر بعد الصلاة.
          قوله: (قيل وقال) بلفظ الاسمين وبلفظ الفعلين أي: نهى عن الجدال والخلاف أو عن أقوال الناس، و(كثرة السؤال) أي: عن المسائل التي لا حاجة إليها أو عن أخبار الناس أو عن تفاصيل معاش صاحبك أو هو سؤال للأموال والانتجاع من الدنياوية، وأما (إضاعة المال) فهو صرفه في غير ما ينبغي وإنما اقتصر على الأمهات لأن حرمتهن آكد من الآباء ولأن أكثر العقوق تقع للأمهات، و(وأد البنات) دفنهن أحياء تحت التراب وهذا كان من عاداتهم، و(منع) أي: منع الرجل ما توجه عليه من الحقوق، و(هات) أي: طلباً لما ليس له منها مر في كتاب الأدب.
          قوله: (التكلف) أي: في المعاشرة مع الناس وفي الأطعمة واللباس وغيره.
          قوله: (أكثر الناس البكاء) لما سمعوا من الأمور العظام الهائلة التي بين أيديهم وأما استكثاره صلعم من طلب السؤال فذلك على سبيل الغضب منه.
          قوله: (النار) بالرفع.
          فإن قلت: ما وجه ذلك؟ قلت: إما أنه كان منافقاً أو عرف رداءة خاتمة حاله كما عرف حسن خاتمة العشرة المبشرة ♥.
          قوله: (فبرك) من البروك وهو للبعير فاستعمل للإنسان كما استعمل المشفر للشفة مجازاً، و(أَوَلَا) يعني: أولا ترضون يعني: رضيتم أو لا والذي نفسي بيده لقد كان كذا وقد قال لا وقد يكتب بالياء نحو أولي وفي أكثر النسخ كذلك وقال إبراهيم بن قرقول في مطالع الأنوار: أولى له أولى مكرراً وبالجار والمجرور فقال قيل هو من الويل فقلب وقيل من الولي وهو القرب أي: قارب الهلاك وقيل: هي كلمة تستعملها العرب لمن رام أمراً ففاته بعد أن كاد يصيبه وقيل كلمة تقال عند المعتبة بمعنى كيف لا وقيل معناه التهديد وقال المبرد: يقال للرجل إذا أفلت من عظيمة أولى لك أي كدت تهلك ثم أفلت.
          قوله: (عرض) بالضم الحائط والجانب والناحية، و(كاليوم) صفة لمحذوف أي: يوماً مثل هذا اليوم.
          قوله: (روح) بفتح الراء ابن عبادة بالضم وتخفيف الموحدة، و(الحسن بن الصباح) بتشديدها الواسطي، و(شبابة) بالمعجمة وخفة الموحدة الأولى ابن سوار بالمهملة وشدة الواو، و(ورقاء) مؤنث الأورق ابن عمر، و(عبد الله أبو طوالة) بضم المهملة وتخفيف الواو الأنصاري قاضي المدينة.
          قوله: (لن يبرح) أي: لن يزال.
          فإن قلت: معرفة الله بالدليل فرض عين أو فرض كفاية فالسؤال عنها واجب لأنه مقدمتها؟ قلت: يحتمل أن كونه تعالى غير مخلوق ضروري أو كسبي يقارب الضروري والسؤال عنه تعنت أو هو مذمة للسؤال الذي يكون على سبيل التعنت وإلا فهو صريح الإيمان إذ لا بد من الانقطاع إلى من لا يكون له خالق دفعاً للتسلسل أو ضرورة.
          قوله: (محمد بن عبيد) مصغراً، و(حرث) بالمثلثة زرع وفي بعضها خرب بالمعجمة والموحدة، و(العسيب) بفتح المهملة الأولى جريد النخل، و(لا يسمعكم) بالرفع والجزم، و(صعد الوحي) أي: حامله، وقد نسب الله تعالى اليهود في سؤالهم عما لا ينبغي لهم السؤال عنه إلى قلة العلم، هكذا قاله الشارح المصري ومر في كتاب العلم.
          الزركشي:
          (اتخذ حجزة) بالراء والزاي.
          (عرض الحائط) بضم العين؛ أي: وسطه.
          (فلم أر كاليوم في الخير والشر) أي: [لم] أر مثل الخير والشر لا تمييز بينهما مبالغة في طلب الجنة والهرب من النار.
           وحديث ابن مسعود في سؤال اليهود عن الروح سبق في العلم والصلاة.


[1] في هامش المخطوط: ((~عالي النسب أمهتي                     خندف وإلياس أبي)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: ما الحكمة في اتخاذ الحجرة وتستره من الناس في قيام الليل وكان الظاهر بروزه للناس ليقتدوا به ويتعلموا منه؟)).