مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس

          ░7▒ باب ما يكره من ذم الرأي وتكلف القياس
          فيه حديث أبي الأسود، واسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد الأسدي يتيم عروة، عن عروة عن عبد الله بن عمرو: قال النبي صلعم: ((إن الله لا ينترع العلم بعد أن أعطاكموه..)) الحديث.
          وحديث أبي حمزة، واسمه: محمد بن ميمون السكري المروزي قال: سمعت الأعمش قال: سألت أبا وائل: هل شهدت صفين؟ قال: نعم. ثم ساقه من حديث أبي عوانة، عن الأعمش قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس، اتهموا رأيكم.. الحديث.
          روى مبارك بن فضالة، قال الطبري: عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين.. كقول سهل سواء.
          قال المهلب وغيره: ولا شك أنه إذا كان الرأي والقياس على أصل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة فهو محمود وهو الاجتهاد كما سلف الذي أباحه الله للعلماء.
          وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول؛ لأنه ظن ونزغ من الشيطان يوضحه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وقال / قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم وأصل القفو العضه والبهت فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل عما قال صاحبها فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا حديث الباب، ألا ترى أنه وصفهم بالجهل فلذلك جعلهم ضالين وهم خلاف الذين قال تعالى فيهم: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وأمرهم بالرجوع إلى قولهم.
          فإن قلت: قول سهل، وعمر: اتهموا الرأي. يرد قول من استعمله في الدين، وأنه لا يجوز شيء منه؛ لأنهم أخطأوا يوم أبي جندل في مخالفتهم رسول الله في صلحه المشركين ورده لأبي جندل إلى أبيه وهو يستغيث وكان قد عذب في الله وهم يظنون أنهم محسنون في مخالفة رسول الله قيل: وجه قولهما: الرأي الذي هو خلاف لرأي رسول الله، ورأيه على الدين الذي هو نظير آرائنا التي كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبي جندل، فإن ذلك خطأ.
          وأما الاجتهاد من الكتاب والسنة والإجماع فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم وبنحو هذا جاءت الأخبار عن الشارع وعن جماعة الصحابة والتابعين كحديث ابن عمر: أنه ◙ لما انصرف من الأحزاب قال: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) فصلى ناس وتخلف آخرون فلم يعنف واحداً منهما، وهذا الخبر نظير خبر سهل بن حنيف. ومن حرص قوم أبي جندل على القتال اجتهاداً منهم، ورسول الله يرى ترك قتالهم في أنه لم يؤثم كما لم يؤثم أحد الفريقين لا من صلى ولا من أخر؛ لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوات وقتها، ولذلك لم يؤثم أيضاً من لم يصل، وأن معنى أمرهم بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا في بني قريظة وإن فاتكم وقتها فعذر كل واحد منهم هذه العلة.
          وروى سفيان عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما قضى الصالحون فإن لم يكن فإن شئت تقدم وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك والسلام.
          وروى هشيم، ثنا سيار، عن الشعبي قال: لما بعث عمر شريحاً على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لكم في كتاب الله فلا تسل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله، وما لم يتبين لك سنة فاجتهد رأيك.
          وروى (ت) من حديث الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أهل حمص، عن معاذ أنه ◙ لما بعثه إلى اليمن قال: ((كيف تقضي؟)) قال: بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله)) قال: بسنة رسول الله قال: ((فإن لم تجد في السنة)) قال: أجتهد رأيي. فقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله)).
          ثم قال (ت): لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي متصل.
          فقد أنبأت هذه الأخبار أن معنى قول عمر السالف: أنه الرأي الذي وصفناه؛ لأنه محال أن يقال: اتهموه واستعملوه؛ لأنهما ضدان ولا يظن ذلك به، ولا نظرائه يوضحه أيضاً رواية مجاهد عن الشعبي، عن عمرو بن حريث قال: قال عمر: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.
          وقد تبين هذا من عمر أنه أمر باتهام الرأي فيما خالف أحكام رسوله وسنته، وذلك أنه قال: أنهم أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها، فأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنته، قالوا بآرائهم وخالفوها جهلاً منهم بأحكام رسول الله وسنته وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به في دينه والتقدم بين يدي رسوله.
          فأما اجتهاد الرأي باستنباط الحق من الكتاب والسنة فذلك الذي أوجبه على العلماء فرضاً وعمل به المسلمون لمحضر منه فلم يعنفهم، ولا نهاهم عنه إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفاء أثرهم فيه الخلف عن السلف.
          روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس / وقد سلف حديث سهل بن حنيف في آخر كتاب الجهاد ومرّ فيه من معناه ما لم نذكره هنا.
          وكتب عمر أيضاً إلى أبي موسى في كتابه الطويل يعلمه القضاء فقال: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، وقال ابن عمر: لم يوقت النبي صلعم لأهل العراق، فقال عمر: قيسوا من نحو العراق لنحو قرن.
          ثم اعلم أن (خ) ترجم بعد في باب: من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بين رسول الله حكمها ليفهم السائل، ثم ذكر حديث: ((لعله نزعه عرق)).
          وحديث ابن عباس: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟)) وهو صريح في العمل بالقياس الصحيح، وما ذمه هنا من القياس الباطل.
          وصنف ابن حزم في إبطال القياس مصنفين، ولا يلتفت إليه، وهو مسبوق بالنظام وداود وشرذمة قليلة والجم على خلافه.
          قال المهلب: أنكره النظام وطائفة من المعتزلة واقتدى به في ذلك وينسب إلى الفقيه داود بن علي، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلى من شذ عنها.
          قوله في حديث سهل: (يفظعنا) هو بضم أوله على أنه رباعي، قال الجوهري وابن فارس: وأفظع اشتد زاد الأول وشنع وجاوز المقدار، قال: وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله؛ أي: نزل به أمر عظيم، وأفظعت الشيء واستفظعته وجدته فظيعاً.
          قوله: (إلا أسهلن بها إلى أمر نعرفه) أي: أفضين بنا إلى سهولة.
          وقول أبي وائل: (بئست صفُون) وفي نسخة: الصفون بالجمع المسلم كما سمي الرجل يزيدين، أ[و] عمرين فيجريه في حال التسمية مجراه في حال الجمع وما كان من الواحد عن بناء الجمع فإعرابه كإعراب الجمع، مثل: فلسطين وجبلة، وهذه فلسطون، وأتيت قنسرين، وهذه قنسرون.
          وأنشد المبرد:
وشاهدنا الحل والياسمون                     والمستعاب بقضائها
          ومن هذا قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18-19].
          وفيه مذهب آخر للعرب وهو أن يعربوا النون ويجعلوها بالياء في كل حال؛ كقولك هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت السلحين وصفين موضع، قال الداودي: قوله: (وبئست صفون) أي: الموضع الذي يسمى صفون، ويقال له أيضاً: صفون.