مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما كان النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي

          ░8▒ باب ما كان النبي صلعم يسأل فيما لم ينزل عليه الوحي فيقول: ((لا أدري))
          أو لم يجب حتى ينزل الله عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس لقوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء:105] وقال ابن مسعود:.. إلى آخره. وقد سلف مسنداً.
          ثم ساق حديث جابر: مرضت فجاءني رسول الله يعودني وأبو بكر.. الحديث وسلف.
          وهذا الباب ليس على العموم في أمره ◙، كما نبه عليه المهلب؛ لأنه قد علم أمته كيفية القياس والاستنباط في مسائل لها أصول ومعاني في كتاب الله ومشروع سنته، ليريهم كيف يصنعون فيما عدموا فيه النصوص، إذ قد علم أن الله تعالى لا بد أن يكمل له الدين، والقياس هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى، فشبه ◙ الحُمرَ بالخيل، فقال: ((ما أنزل الله علي فيها شيء غير هذه الآية الفاذة الجامعة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ})) وشبه دين الله بدين العباد في اللزوم، وقال للتي أخبرته أن أباها لم يحج: ((أرأيت لو كان علي أبيك دين أكنت قاضيته؟ فالله أحق بالقضاء)).
          وهذا عام، وهذا هو نفس القياس عند العرب وعند العلماء بمعاني الكلام.
          وأما سكوته ◙ حتى نزل الوحي فإنما سكت في أشياء معضلة ليست لها أصول في الشريعة، فلابد فيها من اطلاع الوحي، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع، وأكمل الله الدين فإنما ننظر ونقيس على موضوعاتها فيما أعضل من النوازل.
          وقد اختلف العلماء: هل يجوز للأنبياء الاجتهاد؟ على قولين: أحدهما: لا، ولا يحكمون إلا بوحي. والثاني: يجوز أن يحكموا بما يجري مجرى الوحي / من منام وشبهه(1).
          قال أبو تمام المالكي: ولا أعلم فيه نصًّا لمالك، والأشبه عندي جوازه؛ لوجوده من الشارع، والاجتهاد علو درجة وكمال فضيلة، والأنبياء ‰ أحق الناس بها، بل لا يجوز أن يمنعوا منها لما فيها من جزيل الثواب، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وهم أفضل أولي الأبصار وأعلمهم.
          وقد ثبت عن رسول الله صلعم أنه اجتهد في أمر الحروب وتنفيذ الجيوش وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم، وأمر بنصب العريش يوم بدر في موضع، فقال له الحباب بن المنذر: أبوحي نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: ((بل برأيي))، قال: الصواب نصبه في موضع كذا. فسماه ذا الرأيين فعمل برأيه، ولم ينتظر الوحي.
          وحكم بالمفاداة والمن على الأسرى بعد المشورة يوم بدر.
          وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص.
          وروي أنه ◙ أراد أن يضمن لقوم من الأعراب ثلث ثمر المدينة، فقال له سعد بن معاذ: والله يا رسول الله لقد كنا كفاراً فما طمع أحد أن يأخذ من ثمارنا شيئاً فلما أعزنا الله بك نعطيهم ثلث ثمارنا؟ ففعل بذلك رسول الله.
          وقد ذكر الله في كتابه قصة داود وسليمان ♂ حين اجتهدا في الحكم في الحرث، ولا يجوز أن يختلفا مع ما فيه من نص موجود.
          واعترض بعض شيوخنا على (خ) في تبويبه؛ بقوله: فيقول: ((لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه)) فقال: ما ذكره ليس فيه قوله: لا أدري فينظر.
          وجوابه: أنه استغنى بعدم جوابه عنه به. واعترض الداودي على قوله: (ولم يقل برأي ولا قياس) فقال: ليس كما قال بل كان يقول بالدليل بدليل حديث: ((عسى أن يكون نزعه عرق))، ولما رأى شبه عتيبة بابن وليدة زمعة قال لسودة: ((احتجبي منه)).
          وقال للذي قال: يكون لأحدنا الإبل كالغزلان فيجعلها مع الجرباء فلا ينشب أن يجرب، فقال له: ((من أجرب الأول؟)).
          وقال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة:122] الآية.
          وقال من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
          وقال عمر: إن الرأي من رسول الله كان مصيباً؛ لأن الله تعالى كان يريه، ((وإنما هو من الظن والتكليف لا تجعلوا حظ الرأي سنة للأمة)) وقال علي: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة أو فهم يعطاه المرء في كتاب الله.
          وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} الآية [النساء:105]، وقال: وهذا هو الدليل ليس ما زعم به (خ) أنه المنصوص، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] والاستنباط غير النص.
          وسأل عمر رسول الله عن الكلالة، فرده للاعتبار ليعلم ذلك، وقال عمر لحفصة: ما أرى أباك يعرف الكلالة. وقال لابن عباس: احفظ عني إني لم أقل في الجد ولا في الكلالة شيئاً ولم أستخلف أحداً.
          وقال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38] فلو لم يكن للاعتبار والدليل موضع لكان يؤخذ خلاف ما في القرآن؛ لأنه لم ينص على الجد والإخوة.
          وقال تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية [الأنفال:75]، فلم يبين صفة مواريثهم، قال: وأجمعت الأمة على الاعتبار مع أن الله تعالى رزقها العصمة ومنحها ما لم يعطه للأمم من انقطاع الوحي عنها بعد نبيها.
          واختلفت الصحابة في الجد والكلالة، والعول وغير ذلك، ولم ينتف بعضهم بعضاً ولا عاب أحدهم الاعتبار، وإنما الرأي مذموم.
          واعترضه ابن التين فقال: ما ذكره الداودي ليس بالبين وإنما أراد (خ) أنه ◙ وقف في أشياء فلم يتكلم فيها برأي ولا بقياس وتكلم على أشياء برأيه، فبوب على كل من ذلك وأتي في كل باب بما بوب عليه.
          وقوله: (بما آذاك الله) أي: بما علمك الله.
          قوله: (وقد أغمي علي) أي: غشي كذا الرواية، يقال: غمي فهو مغمي وأغمى عليه فهو مغمى عليه قال الداودي: وفي هذا الحديث الوضوء للمريض، قال: وفيه دليل أن معنى الحديث الآخر: ((لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) أن ذلك لا يفعل / قبل نزول العلة.
          قال: وقول سفيان: (قلت: يا رسول الله، وربما قال: أي رسول الله) يدل على جواز الرواية بالمعنى. وليس كما قال؛ لأن هذا لا يتضمن حكماً وليس هو من قول رسول الله صلعم.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: وليس في العبادة عبادة إذا أخطأ الفاعل فيها وزاغ عن الصواب أنه يثاب على خطأه إلا المجتهد فإن له أجر إذا أخطأ وأجران إذا أصاب بخلاف الصلاة إذا أخطأ فيها وغيرها من العبادات فإنه على الخطأ منها)).
2063 في هامش المخطوط: ((أقول: وتشبيه المدينة به يقتضي أن يكون المبني؛ لأن المدينة مكان والكور مكان بخلاف الكير فإنه آلة وهو الزق الذي ينفخ به النار في الكور)).