مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب استذكار القرآن وتعاهده

          ░23▒ باب استذكار القرآن وتعاهده
          فيه أحاديث:
          1- حديث ابن عمر أن رسول الله صلعم قال: ((إنما مثل صاحب القرآن)) الحديث وأخرجه (م) أيضاً.
          2- حديث أبي وائل، عن عبد الله قال: قال النبي صلعم: ((بئس ما لأحدهم)) الحديث ثم ساق من حديث جرير، مثله. تابعه بشر، عن ابن المبارك، وتابعه ابن جريج، عن عبدة... إلى آخره.
          3- حديث أبي أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى وهو عبد الله بن قيس عن النبي صلعم، قال: ((تعاهدوا القرآن)) الحديث.
          والمتابعة الأولى أخرجها الإسماعيلي عن الفربري، والمتابعة الثانية أخرجها (ن) في ((اليوم والليلة)).
          فصل
          إنما شبه ◙ صاحب القرآن بصاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها، وأنه يتفصى في صدور الرجال؛ فقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فوصفه بالثقل، ولولا ما أعان عباده على حفظه ما حفظوه. قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فبتيسير الله تعالى وعونه لهم عليه بقي في صدورهم.
          وهذان الجهتان تفسران آيات التنزيل، وكأنه قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، إذا تعوهد وقرئ أبدا وتذكر.
          قوله: (أشد تفصيا) أي: تفلتا وذهابا، وهو بالفاء والصاد المهملة.
          قال صاحب ((العين)): فصى اللحم عن العظم: إذا انفسخ، والإنسان يتفصى في الشيء إذا تخلص منه والاسم التفصية، والمعنى أنه شبه من يتفلت منه بعض القرآن بالناقة التي انفلتت من عقلها.
          قوله: (آية كيت وكيت) هو مثل كذا وكذا إلا أنه لا يقال للمؤنث، قاله الداودي، وهي كلمة يعبر بها عن الجمل الكثير. قال: نقلت كيت كناية عن / الأفعال، وذيت وذيت إخبار عن الأسماء، وزعم أبو السعادات أن أصلها كية بالتشديد، والياء فيها بدل من إحدى التائين، والهاء التي في الأصل محذوفة، وقد تضم التاء وتكسر.
          قوله: (بل هو نسي) يعني: أنه عوقب بالنسيان على ذنب كان منه أو على سُوء تعهد له، والقيام بحقه، وقيل: إنه خاص بزمانه ◙ والقرآن ينسخ ويرفع فيذهب رسمه وتلاوته ويسقط حفظه عن حملته فيقول القائل منهم: نسيت آية كيت وكيت، فنهاهم عن هذا القول؛ لئلا يتوهموا على محكم القرآن بالضياع، فأعلمهم أن الذي يكون من ذلك إنما هو بإذن الله؛ وبما رآه من الحكمة والمصلحة في نسخه ومحوه عن قلبه، وأما قول المرء: نسيت كذا. فجائز؛ قال [فتى] موسى ◙: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف:63].
          وقال القرطبي: اختلف في متعلق هذا الذنب فقال بعضهم: هو على نسبة الإنسان لنفسه النسيان إذ لا صنع له فيه، فالذي ينبغي له أن يقول أنسيت مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وهذا ليس بشيء؛ لأنه ◙ نسب النسيان إلى نفسه؛ ففي (خ) كما سيأتي فسمع ◙ رجلاً يقرأ فقال: ((ي ☼ لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا)) وفي لفظ: ((أنسيتها)). وفي آخر: زاد عباد بن عبد الله عن عائشة تهجد رسول الله صلعم فسمع صوت عباد بن بشر يصلي في التهجد.. الحديث.
          وقد نسبه الله تعالى في قوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى. إِلَّا مَا شَاء اللهُ} [الأعلى:6 7] أن ينسيكه كما قرأت الجماعة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] بضم النون وترك الهمز؛ أي: ننسيكها، فلا كان هذا كأنه نهى عن ذلك القول؛ لئلا يتوهم في كثير من محكم القرآن أنه قد ضاع لكثرة الناس، وفيه بعد، فمن أضاف النسيان إلى الله فإنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه فلأنه فعله يضاف إليه من جهة الاكتساب والتصرف، ومن نسب ذلك إلى الشيطان كما قال يوشع: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] فلما جعلَ الله له من الوسوسة فلكل إضافة منها وجه صحيح.
          وقيل: إنما يكون نسيان القرآن لترك تعهده والغفلة عنه كما أن حفظه إنما يكون بتكراره والصلاة به، كما في حديث ابن عمر: ((إذا قام صاحب القرآن يقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه)).
          فإذا قال الإنسان: نسيت آية كيت وكيت، فقد شهد على نفسه بالتفريط، وترك معاهدته، وهو ذنب عظيم كما في حديث أنس من عند (ت) مرفوعاً: ((عرضت علي أعمال أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها))، وهو نص، فتعلق الذم ترك ما أُمر به من استذكار القرآن وتعاهده، والنسيان ترك ذلك تعلق الذم عليه.
          ولا يقال: حفظ جميع القرآن ليس واجباً على الأعيان، فكيف يذم من تغافل عن حفظه؛ لأنا نقول من جمعه فقد علت رتبته وشرف في نفسه وقومه(1)، وكيف لا، ومن حفظه فقد أدرجت النبوة بين جنبيه كما سلف، وصار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته، فإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية ومؤاخذته ما لا يؤاخذ به غيره، وترك معاهدة القرآن تؤدي إلى الرجوع إلى الجهالة.
          ويدل على صحة ذلك قوله في آخر الحديث: ((بل نسي)) وهذه اللفظة رويناها مشددة مبنية لما لم يسم فاعله.
          قال القرطبي: وقد سمعتها من بعض من لقيته بالتخفيف وبه ضبط عن أبي بحر والتشديد لغيره، ولكل وجه صحيح، فالتشديد معناه أنه عوقب / بتكثير النسيان عليه لما تمادى في التفريط، والتخفيف معناه تركه غير ملتفت إليه ولا مُعتَن به.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: كلما كان الشخص شريفاً كان ذنبه أعظم من ذنب غيره ألا ترى أمهات المؤمنين وقول الله: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} الآية فحيث أن أشرف كان عقابهن وحساب من الذنب أعظم، وكذلك الأمكنة الشريفة الذنب فيها أعظم من غيرها قال تعالى عن مكة الشريفة {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الآية فبمجرد الإرادة يحصل له الإثم، وفي غيرها لا يحصل إلا بالفعل وكذلك الأزمنة الشريفة)).