مجمع البحرين وجواهر الحبرين

كيف نزول الوحي وأول ما نزل

          ░1▒ باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل
          (قال ابن عباس: المهيمن: الأمين)، إلى آخره، وقيل: إنه الشاهد، وقيل: المعان، وأصله مفتعل فأبدلت الهمزة هاء لقرب مخرجهما، وهذا الكتاب ذكره ابن بطال في ((شرحه)) في أواخره بعد الرقاق وقبل التمني ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث:
          1- حديث أبي سلمة قال: أخبرتني عائشة وابن عباس قالا: الحديث وسلف قبل التفسير.
          2- حديث أبي عثمان: أنبئت أن جبريل ◙ أتى النبي صلعم الحديث، قوله: (قال أبي) هو سليم بن طرخان، والقائل هو المعتمر، وأبو عثمان هو النهدي. وقد أسلفنا في باب وفاته ◙ وغيره أن إسرافيل وكل به ثلاث سنين يأتيه بالكلمة ونحوها، ووقع في شرح ابن التين ميكائيل بدله، والمشهور أن جبريل ابتدأه بالوحي.
          قوله لأم سلمة: ((من هذا؟)) قال الداودي: إنما يكون ذلك بعد أن ذهب جبريل، وظاهر الحديث خلافه.
          وفيه: فضل أم سلمة وفضل دحية لاختصاص جبريل بالتمثيل بصورته وفيه الحكم بالقافة(1).
          قوله: (بخبر جبريل) هو بباء موحدة مكسورة ثم خاء معجمة مفتوحة ثم موحدة مفتوحة، وصوبه النووي، وعند (م): (يخبر) بمثناه في أوله ثم خاء معجمة ثم باء، وهو في بعض نسخ (خ).
          3- حديث أبي هريرة عن النبي صلعم قال: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي)).. الحديث ويأتي في الاعتصام بالسنة، وأخرجه (م) (س) أيضاً.
          يريد أن الأنبياء أعطوا الآيات: أعطي صالح الناقة، وموسى العصا، وعيسى إحياء الموتى، ولم يؤت هو عن سؤال فيكون تحرياً، وإنما أراهم الآيات الكثيرة من تلقاء نفسه، وأوتي القرآن وهو المعجز، فبينه قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] / وقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59].
          و(آمن) بالمد وفتح الميم، قال صاحب ((المطالع)): وقيده بعضهم (إيمن) بهمزة مكسورة بعدها ياء وميم مضمومة، حكاه ابن دحية، وكله راجع إلى معنى الإيمان، وعن القابسي: (أمن) من الإيمان بالقصر مع كسر الميم، وليس موضعه، وإنما معناه أن الله أيد كل نبي بعثه من الآيات، يعني: المعجزات بما يصدق دعواه كما سلف.
          وقيل: إن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء فآمن به البشر، وأما معجزتي العظمى الظاهرة فهي القرآن الذي لم يعط أحد مثله؛ فلهذا أنا أكثرهم تابعاً.
          وقيل: معناه بأن الذي أوتيه لا يتطرق إليه تخيل بسحر وشبهة، بخلاف معجزة غيري، فإنه قد يخيل الساحر بشيء ما يقارب صورة، كما خيلت السحرة في صورة عصا موسى.
          وقيل: معناه: أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ولم يشاهدها إلا من حضر، ومعجزة نبينا القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع خرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة مثله مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار مع اعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون مع غير ذلك من وجوه الإعجاز(2).
          وقال ابن الجوزي: الإشارة بالآيات الحسيات كناقة صالح وعصا موسى وإحياء الموتى، فهذه معجزات ترى بالحِس، ومعجزة نبينا الكبرى هي القرآن، فهي تشاهد بعين العقل، وقد كان في جمهور الأمم بلادة حتى قال قائلهم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
          والبليد لا يصلح إلا بآيات الحس، والذين بعث إليهم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام كانوا أرباب ذكاء وفطنة، فكفاهم القرآن معجزة، غير أن القضاء قضى على قوم من أذكيائهم بالشقاء مع وجود الفهم، كما قال عمرو بن العاصي: تلك عقول كادها بارئها فأنفوا لكبرهم لذلك الاتباع، وعادوا على أسلافهم من تخطئتهم في عبادة الأصنام، وحسدوا الشارع لما ميز عنهم {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] على أنه لم يكن للأنبياء معجزة إلا ولنبينا عليه و‰ من جنسها، فإن الرعب الذي أيد به كان يوقع في قلوب أعدائه ما لم توقعه عصى موسى في قلوب أعدائه.
          قلت: وكذا تسخير الريح لسليمان فإن عَدوهُ إذا كان على مسيرة شهر يخاف غدوه عليه أو رَواحه، ورعب نبينا كان العدو يخافه من مسيرة شهر مع علمه أنه لا يغدو عليه في يومه ولا يروح، وقد روي: ((شهراً أمامي وشهراً خلفي)) فهذه زيادة.
          ونبع الماء من بين أصابعه، أعظم من تفجيره من حجر؛ إذ الأحجار من عادتها تفجرها بالماء، ولم تجر عادة بجريان الماء من بين لحم وعظم.
          وخطاب الذراع له أعظم من تكليم الموتى لعيسى انتهى كلام ابن الملقن ⌂.
          أقول:
          تكليم الموتى لم يكن في حال موتهم بل أحيوا بإذن الله ثم تكلموا والذراع تكلم جزء من ميت مشوي، فهذا أبلغ بمراتب.
          فإن الحياة لم تعهد في عضو واحد من أعضاء الحيوان كما عهدت من جميع الحيوان.
          وأبلغ من ذلك تسليم الشجر والحجر عليه ◙ والحياة في هذه الأشياء غير معهودة، وقد قال البغوي في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}الآية [البقرة:253]، يعني: محمداً صلعم وما أوتي نبي آية إلا وأُوتي نبينا صلعم مثلها وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر، فإن معجزات الأنبياء كانت في الأرضيات وهذه معجزة في السماويات.
          ومنها حنين الجذع إليه وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم والشهادة برسالته / وغير ذلك من المعجزات لا تحصى وقد عدها بعض العلماء فبلغت ألفاً وأظهرها القرآن العزيز الذي عجز أهل السماوات والأرض على الإتيان بمثله.
          ومنها أنه بعث إلى الناس كافة وغيره بعث إلى أمته، والشفاعة العظمى.
          وفي (خ): ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)) الحديث.
          وأما قلب العصا حية لموسى ◙ فأبلغ منه ما وقع للنبي صلعم من انقلاب الجزل من الحطب سيفاً صارماً، وذلك في يوم بدر لما انقطع سيف عكاشة بن محصن فأعطاه صلعم جزلاً من الحطب فعاد سيفاً صارماً فلم يزل يقاتل به.
          ومثله وقع يوم أحد لآخر من الأنصار لا يحضرني اسمه، وهذا أبلغ من انقلاب العصى حية بل عادت إلى حالتها الأولى.
          وحبس الشمس ليوشع بن نون وانشقاق القمر أعظم منه، وقد روى الطحاوي في مشكل الحديث حدثنا بسند جيد عن أسماء بنت عميس فيه أن الشمس ردت على النبي صلعم بعدما غربت وذلك زمن خيبر، وذكر ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بكر: أن النبي صلعم دعا الله حتى وقفت الشمس.
          وأما إلانة الحديد لداود ◙ فأبلغ منه ما تقدم من انقلاب الحطب في يده صلعم سيفا صارماً، وتسبيح الحبال مع داود نظيره تسبيح الحصى في كفه.
          وأما تسخير الريح لسليمان فقد كان الصبا يهب بنصرته صلعم وكان الرعب يتقدم مسيرة شهر كما سلف، وأما انقياد الجن لسليمان وطاعتهم له فقد كان النبي صلعم متمكناً منهم أيضاً وأتوا إليه وأسلموا، يؤيده ما روي في ((الصحيحين)) عن النبي صلعم أن عفريتاً تفلت علي الليلة ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه الحديث.
          وأيضاً هو كان نبيا مرسلاً إليهم لأنه قال بعثت إلى الأسود والأحمر وهما الجن والإنس، وسليمان لم يكن مرسلاً إلى الجن وإنما كان ملكاً يحكم عليهم كما يحكم على الإنس والوحش والطير، فهذه زيادة على ملك سليمان.
          وأما نزول المائدة على عيسى ◙ فنظيره تكثير الطعام ببركته صلعم، وهي قصة متواتر[ة] وقعت غير مرة بحضور الجم الغفير.
          وقوله ◙ في حديث الوصال: ((إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)) على قول من يقول أن الإطعام والسقي حقيقة وهو من طعام الجنة.
          وإبراء عيسى ◙ الأكمه والأبرص نظيره ما اتفق من رد غير قتادة بن النعمان الطفوي فإنه رمي يوم أحد فسالت عينه على خده فأخذها في كفه وأتى بها النبي صلعم، فأخذها صلعم في كفه ووضعها بيده الكريمة مكانها فعادت صحيحة بعد ذلك وكانت أحسن عينيه.
          وروى ابن وهب أن معوذ بن عفراء قطع عكرمة بن أبي جهل يده يوم بدر فجاء يحملها فبصق صلعم عليه وألصقها فلصقت.
          وإن كان الطير ظلل سليمان فسيدنا صلعم ظلله الحمام يوم فتح مكة وقد ظلله الغمام وهو أعظم من الحمام وهي زيادة على معجزة سليمان.
          وإن كان سليمان فهم كلام الطير فقد فهم نبينا صلعم كلام البعير والذئب والغزالة والضب والطير والشجر والحجر، وإن كان الشياطين أعوان سليمان يخدمونه وينصرونه في غزواته فنبينا صلعم كانت ملائكة الرحمن أعوانه يقاتلون بين يديه وينصرونه ويحرسونه، وإن كان عيسى أخبر بالغيب فقد شاركه نبينا صلعم في ذلك.
          وإن كان آدم ◙ علم اللغات وبه فسر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء} [البقرة:31] فنبينا صلعم قد تكلم بالفارسية والحبشية وغيرهما.
          قال الحافظ أبو نعيم: لما دخل رسول الله صلعم الغار مال برأسه إلى الجبل لينحي شخصه عنهم فلين الله الجبل حتى أوصل فيه رأسه واستروح إلى حجر من جبل أصم فلان له حتى أثر فيه بذراعه وساعده وذلك مشهور.
          أقول: فهذا أعظم من إلانة الحديد.
          وإن كان سليمان أعطي ملك الدنيا فقد جيء نبينا صلعم بمفاتيح خزائن الأرض فأباها زهداً، وإن كانت الريح سخرت لسليمان غدوها شهر فنبينا صلعم سار إلى بيت المقدس / مسيرة شهر في بعض ليلة وعرج مسيرة خمسين ألف سنة.
          قال ابن الجوزي: وإن كان إبراهيم صلعم كسر الأصنام فقد رمى نبينا صلعم هبل من أعلى الكعبة، ثم أشار يوم الفتح إلى ثلاثمائة صنم فوقعت، وإن كان هود نصر على قومه بالدبور فقد نصر نبينا صلعم بالصبا فمزقت أعداءه يوم الخندق.
          وإن كانت ناقة صدقت صالحاً فقد سجدت الإبل لنبينا صلعم وشكت إليه وكلمته، وإن كان يوسف ◙ مليح الصورة فقد كان نبينا صلعم كالقمر وجؤار الجذع أعجب من حالات عصى موسى، وقد دعا نبينا صلعم شجرة فشققت الأرض وجاءت إليه ثم أمرها فعادت إلى مكانها.
          وقد اتفق لأمة نبينا صلعم مثل معجزات الأنبياء ‰ منها قصة نوح ونجاته من الغرق، اتفق للعلاء ابن الحضرمي مثلها كان النبي صلعم أرسله إلى البحرين فلما انتهى إلى البحر هو وأصحابه قال سموا الله واقتحموا فسمينا واقتحمنا فعبرنا فما بل الماء أسافل أخفاف إبلنا.
          ومنها قصة إبراهيم ◙ مع نمرود اتفق مثلها لأبي مسلم الخولاني، واسمه عبد الله بن ثور وكان خضرمياً أدرك النبي صلعم ولم يره فلما تنبأ العنسي طلبه للبيعة فأبى فأمر بنار عظيمة فأوقدت وألقى فيها أبو مسلم الخولاني فلم يضره وخرج منها سليماً، فقيل: للأسود إن لم ينف هذا عنك أفسد عليك أمرك فأمره بالوصل، فقدم المدينة وقد قبض النبي صلعم واستخلف أبو بكر فأناخ راحلته ودخل المسجد وصلى ركعتين فبصر به عمر ☺ فقام إليه، فقال: من الرجل؟ قال: من اليمن قال: ما فعل الذي أحرقه الكذاب بالنار قال: ذاك عبد الله بن ثور فنشده عمر بالله أنت هو قال: اللهم نعم فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به فيما صنع بإبراهيم الخليل ◙.
          وقد وقع في هذه الأمة من إحياء الموتى كما اتفق لعيسى ◙، روي عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن فلما كان في بعض الطريق نعق حماره فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين فقال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهداً في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور لا تجعل لأحد علي اليوم منة، أطلب اليوم أن تبعث لي حماري قال فقام الحمار ينفض أذنيه.
          ومثله قصة المرأة التي هاجرت مع النبي صلعم وتوفي ابنها فدعت الله سبحانه وتعالى فأحياه الله لها رواها ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت، انتهى ما وجدته من معجزاته ◙ وكرامات صالحي أمته ♥.
          قال ابن الملقن ⌂:
          (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا) فيه علم من أعلام النبوة، فإنه أخبر بهذا في زمن قلة المسلمين، فانتهى الأمر إلى ما ترى من الكثرة.
          4- حديث أنس بن مالك أن الله تابع الوحي على رسوله الحديث، قلت: سببه تكميل البلاغ.
          5- حديث جندب، سلف في تفسير سورة الضحى، وفي قيام الليل من الصلاة.
          وحاصل الأحاديث التي ذكرها ما ترجم له وهو إثبات نزول الوحي وبعضها في كيفيته، وأن جبريل نزل عليه به، ومصداق ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]، وهو جبريل، لكن نزل جملة ثم نجم في عشرين سنة كما قاله ابن عباس وغيره.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: قد قال له ابن قطن يضرني تشبه الدجال بي فقال: لا فيقال لذلك في تشبه جبريل بدحية لم يكن له فيه فضيلة ولا فائدة قلت: يحتمل أن يقال)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول ومعجزة نبينا الكبرى فيها الأحكام والأقدام والنواهي وجميع شرعه فقد جمعت المعجزة الكبرى سنين فأعجزت المعارضين من الإتيان بمثله مع تضمنها أحكام دينه، وهذين السنين لم تحصل في معجزة من الأنبياء جاء في كتاب كل نبي كان فيه أحكام دينه ولم يكن لفظه معجزاً ولم تبد كتبهم من معجزاتهم)).