مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: من لم يتغن بالقرآن

          ░19▒ باب من لم يتغن بالقرآن
          قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:51].
          فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: قال رسول الله صلعم: ((لم يأذن الله لشيء)) الحديث ثم ساقه عنه أيضاً بلفظ: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن)) قال سفيان: تفسيره: يستغني به. قلت: احتج بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}الآية [طه:131]. قال: وأمر ◙ أن يستغنى بالقرآن عن المال.
          ومعنى: (ما أذن): ما استمع، وذكره في الاعتصام بلفظ: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) زاد غيره: ((يجهر به)). ذكره في باب قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك:13]، وهو من أفراده.
          قال الشافعي: ومعناه: تحسين الصوت بالقرآن. وكذا قاله غيره، ويُؤيده قول ابن أبي مليكة في ((سنن (د))) إذا لم يكن حسن الصوت يحسنه ما استطاع. وقال غيره: يستغنى به فقيل يستغنى به عن أخبار الأمم الماضية والمتقدمة. وقيل: معناه: التشاغل به والتغني.
          قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنى إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في أفنيتها وعلى أكثر أحوالها، فلما أنزل القرآن أحب ◙ أن يكون هجيراهم مكان التغني، حكاه الخطابي وابن الجوزي.
          وقيل: المراد: ضد الفقر. وقال ابن حبان في ((صحيحه)): معنى ((ليس منا)): ليس مثلنا في استعمال هذا الفعل؛ إلا ما نفعله، فمن فعل ذلك فليس منا. وقال الإمام: أوضح الوجوه في تأويله: من لم يغنه القرآن ولم ينفعه في إيمانه ولم يصدق بما فيه من وعد ووعيد، فليس منا. وقال غيره: من لم يَرتح لقراءته وسماعه.
          ومن فسره بضد الفقر كره القراءة بالألحان والترجيع. روي ذلك عن أنس وسعيد بن المسيب والحسن، وابن سيرين وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم فيما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب ((الثواب)) وقال: كانوا يكرهونها بتطريب، وكانوا إذا قرأوا القرآن قرأوه حدراً ترتيلاً بحزن. وهو قول مالك، روى ابن القاسم عنه عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال: لا يعجبني، وأعظم القول فيه، وقال: إنما عنى يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم، وقد / روي عن ابن عيينة وجه آخر، ذكره إسحاق بن راهويه، قال: كان ابن عيينة يقول: معنى: ما أذن الله لنبي... إلى آخره. يريد: يستغني به عما سواه من الكتاب والأحاديث، وهذا لعله يكون هو الذي أراد (خ) من إيراده.
          وممن قال المراد به تحسين الصوت به والترجيع بقراءته والتغني بما شاء من الأصوات واللحون: الشافعي وغيره وهو معنى ما ذكره (خ) بقوله: (وقال صاحب له: يريد يجهر به) قال الخطابي: والعرب تقول: سمعت فلاناً يغني بهذا الحديث؛ أي: يجهر به ويصرح لا يكني.
          وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابن جريج ووقفني على أشعب الطماع فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك؟ قال: ما زفت امرأة بالمدينة إلا كسحت بيتي رجاء أن يهدى إلي يقول: أخبر ابن أخي بذلك مجاهراً.
          وعن عبيد بن عمير أنه كان لداود ◙ معزفة يتغنى عليها وتَبكي ويبكي، وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم.
          وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة، فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد الاستغناء لقال: من لم يستغن بالقرآن، ولكن قال: يتغن بالقرآن. علمنا أنه أراد به التغني.
          وممن أجاز الألحان في القراء فيما ذكره الطبري: عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن.
          قال الطبري: ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع.
          وعن سعد سمعت النبي صلعم يقول: ((إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)) وسيأتي في حديث (خ) في باب ترجمة قول النبي صلعم: ((الماهر بالقرآن)) الحديث: ((وزينوا القرآن بأصواتكم)) كذا ذكره بغير إسناد، ولا راو.
          وقد أسنده أحمد و(د) و(ن) و(ق) في سننهم، وصححه ابن حبان من حديث البراء بن عازب.
          وطرقه الحاكم في ((مستدركه)) من حديث البراء من عشرين طريقاً عنه، ذكره أجمع بأسانيد وأوضحه.
          قال ابن حبان: هذا اللفظ من الأضداد. يريد بقوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم))، زينوا أصواتكم بالقرآن. وقال الخطابي: معناه: زينوا أصواتكم بالقرآن. كذا فسره غير واحد من أئمة الحديث، وزعموا أنه من باب المقلوب، كما قالوا: عرضت الناقة على الحوض.
          ثم قال: ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة فقدم الأصوات على القرآن، قال: وهو الصحيح، قلت: وقد أخرجه الحاكم عن منصور من ستة طرق: سفيان، وزائدة، وعمرو بن أبي ميسرة، وجرير، وابن طهمان، وعمار؛ كلهم عن منصور، عن طلحة بتقديم القرآن على الأصوات، وكذلك التي قدمناها عن الحاكم كلها بتقديم القرآن، إلا في رواية واحدة من حديث عبد الرزاق، عن منصور، عن الأعمش، عن طلحة قدم فيها الأصوات على القرآن.
          وهي في الطبراني ((الكبير)) من طريقين آخرين:
          أحدهما من حديث عبد الله بن خراش قال (خ): منكر الحديث بسنده عن ابن عباس رفعه: ((زينوا أصواتكم بالقرآن)).
          ثانيهما: من حديث سعيد بن أبي سعد البقال، عن الضحاك، عن ابن عباس يرفعه: ((أحسنوا الأصوات بالقرآن)) فتعين أن تقديم رواية القرآن هي الصحيحة ومعناها على ظاهرها. وما عداها محمول عليها، ويكون قوله: ((بالقرآن)) في موضع الحال؛ أي: زينوا أصواتكم في حال القراءة، وقد جاء ذلك مصرحاً به في ((مسند الدارمي)) و((مستدرك الحاكم)) بسنده عن البراء رفعه: ((زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)) وهذا لا يحتمل التأويل ولا القلب / ، وليس المراد بالقرآن هنا الكلام القديم، وإنما المراد بما يسمعه من الحروف والأصوات.