الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إسلام سلمان الفارسي

          ░53▒ (بَابٌ إِسْلاَمُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ☺): سقطَ لفظُ: <باب> وحدهُ لأبي ذرٍّ، تقدَّم شيءٌ من ترجمتِهِ في باب الشِّراء من المشركين، من كتاب البيوعِ، ولنذكُرْ هنا شيئاً من ذلكَ فنقولُ: سَلْمانُ بفتحِ السِّين المهملة وسكونِ اللَّام، ممنوعٌ من الصَّرف للعلميَّةِ وزيادةُ الألف والنُّون، و((الفارِسيُّ)) بالفاءِ وكسرِ الرَّاء نسبةً إلى فارسٍ.
          قال النَّوويُّ في ((التَّهذيب)): هو: أبو عبدِ الله، سلمانُ الخيرِ، مولى رسُولِ الله صلعم، وسُئِلَ عن نسبه فقال: أنا سلمانُ ابن الإسلامِ، أصلُه: من فارسٍ من جَيٍّ بفتحِ الجيم وتشديدِ الياء، قريةٌ من قُرى أصبهَانِ، وقيل: من رَامَهُرْمُز.
          روى ابنُ أبي خيثمَةَ في ((تاريخه)) عن ابن عبَّاسٍ قال: حدَّثني سلمانُ قال: كنتُ من أهلِ أصفهانَ من قريةٍ يُقال لها: جَيٌّ، وكان أبي دهقانُهَا، قال: وسببُ إسلامه مشهورٌ، وأنَّه هربَ من أبيه وكان مجوسيًّا، فلحق براهبٍ ثمَّ بجماعةِ رهبانٍ، واحدٌ بعدَ واحدٍ يصحبُهُم إلى وفاتِهِم، إلى أن دلَّه الأخيرُ على الذَّهاب إلى الحجازِ، وأخبرَهُ بظهورِ النَّبيِّ صلعم ، فقصدَهُ مع عربٍ، فغدَروا به وباعوهُ في وادِي القرى ليهوديٍّ، ثمَّ اشتراهُ منه يهوديٌّ من بني قريظَةَ، فقدِمَ المدينة فأقام بها مدَّةً حتَّى قدم رسولُ الله صلعم، فأتاه بصدقةٍ فلم يأكُلْ منها، ثمَّ بعدَ مدَّةٍ أتاه بهديَّةٍ فأكلَ منها، ثمَّ رأى خاتَمَ النُّبوَّة، وكان الرَّاهبُ الأخيرُ وصفَ له هذه العلاماتِ الثَّلاثَ للنَّبيِّ صلعم / ، قال سلمان: فرأيتُ الخاتَمَ فقبَّلته وبكيتُ، فأجلسَنِي رسولُ الله صلعم بينَ يديه، فحدَّثني بشأني كلِّه، وفاتَنِي معه بدرٌ وأُحُدٌ بسبب الرِّقِّ فقال لي: ((كاتِبْ يا سلمَانُ عن نفسِكَ))، فلم أزل بصاحبِي حتَّى كاتبتُهُ على أن أغرسَ له ثلاثَمائة نخلةٍ، وعلى أربعينَ أوقيَّة ذهبٍ، فقال النَّبيُّ صلعم: ((أعِينُوا أخاكُم بالنَّخلِ)) فأعانُوني حتَّى اجتمعَتْ لي، فقال: ((فاعزلها ولا تضَعْ منها شيئاً حتَّى أضعهُ بيدي)) ففعلتُ فأعانَنِي أصحابُهُ حتَّى فرغتُ فأتيتُهُ، فكنت آتيه بالنَّخلة فيضعُهَا ويسوِّي عليها التُّرابَ، فوالَّذي بعثهُ بالحقِّ ما ماتت منها واحِدةٌ، وبقيَ الذَّهبُ، فجاء رجلٌ بمثل البيضَةِ من ذهبٍ أصابه من بعض المعادِنِ فقال: ((ادعُ سلمَانَ المسكينَ الفارسِيَّ المكاتَبَ)) فقال: ((أدِّ هذه)).
          قال: وروينا عنهُ أنَّه قال: تداوَلَني بضعة عشرَ ربًّا من ربٍّ إلى ربٍّ، وأوَّل مشاهده مع رسولِ الله صلعم الخندقُ، ولم يتخلَّفْ عن مشهدٍ بعدَها، وآخى رسُولُ الله صلعم بينَ أبي الدَّرداء وبين سلمانَ، ثبتَ ذلك في ((صحيح البخاريِّ))، وكانَ من فضلاءِ الصَّحابةِ وزُهَّادهم وعلمَائهِم وذوي القربِ من رسُولِ الله صلعم، وهو الذي أشارَ بحفرِ الخندقِ حين جاءَتِ الأحزابُ، وسكن العراقَ، وكان يعملُ الخوصَ بيده فيأكُلُ منه، وكان عطاؤُهُ _أي: في كلِّ سنةٍ_ من بيت المالِ خمسة آلاف درهمٍ، فإذا خرج فرَّقهُ، وكان أبو الدَّرداء سكن الشَّام، فكتب إلى سلمانَ: أمَّا بعدُ، فإنَّ الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلتُ الأرض المقدَّسةَ، فكتبَ إليه سلمانُ: سلامٌ عليك، أمَّا بعدُ، فإنَّك كتبت إليَّ أنَّ الله رزقكَ مالاً وولداً، فاعلَمْ أنَّ الخير ليس بكثرَةِ المالِ والولدِ، ولكنَّ الخير أن يكثر علمُكَ، وأن ينفعَكَ علمُكَ، وكتبتَ إليَّ أنَّك بالأرضِ المقدَّسة، فإنَّ الأرضَ لا تقدِّس أحداً.
          قال: واتَّفق العلماءُ على أنَّ سلمان عاش مائتين وخمسين سنةً، وقيل: ثلاثمائةٍ وخمسين، وقيل: إنَّه أدركَ وصيَّ عيسى ابن مريمَ ♂، وتُوفِّي سلمانُ بالمدائنِ أوَّل سنة ستٍّ وثلاثين، وقيل: سنة خمسٍ وثلاثين، ويُقال: في خلافة عمرَ ☺، وهو غلطٌ، وكان لسَلمانَ ثلاثُ بناتٍ، بنتٌ بأصبهانَ زعم جماعةٌ أنَّهم من ولدها، وبنتان بمِصرَ، روى التِّرمذيُّ بإسنادِهِ وقال: حديثٌ حسنٌ عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((إنَّ الجنَّة تشتاقُ إلى ثلاثةٍ: عليٍّ وعمَّارٍ وسلمانَ))، انتهى / .
          ونقل شيخُ الإسلامِ قولاً بأنَّه أدركَ عيسى ◙، قال: وهو غلطٌ؛ لِمَا سيأتي أنَّ بينَ النَّبيِّ وعيسى ♂ ستَّمائة سنةٍ، وسلمان إنَّما عاش مائتين وخمسين، وقيل: ثلاثمائة وخمسينَ، انتهى فتأمَّل.
          فإنَّه يكون عاش على هذا ستَّمائةٍ، وفي الكرمانيِّ: قال رسولُ الله صلعم: ((سلمانُ منَّا أهلَ البيتِ)) حين تنازَعَ الأنصارُ والمهاجرُونَ فيه إذ قسَمَ رسُولُ الله صلعم حَفْر الخندق عليهم، فقال الأنصارُ: سلمان منَّا، وقال المهاجرونَ: سلمان منَّا، وولَّاه عمر العراقَ، وفضائلُهُ ☺ كثيرةٌ.