الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تقاسم النبي على المشركين

          ░39▒ (بَابٌ: تَقَاسُمُ الْمُشْرِكِينَ): سقطَ لفظُ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ، و((تقاسُم)) بضمِّ السِّين المهملةِ، مصدر تقاسَمَ بفتحِها، ماضياً؛ أي: تحالُفهم (عَلَى النَّبِيِّ صلعم): أي: على أن يجتمعُوا فيقتُلوا النبيَّ صلعم أو يُثبِتوهُ أو يُخرِجوهُ، فحمَاه الله تعالى منهم ونصرَه عليهم، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال:30] الآية، ولا يُنافي ما في هذه التَّرجمة قوله: ((حيث تقاسمُوا على الكفرِ)) فتأمَّل، وكان ذلكَ كما في ((الفتح)) أوَّل يومٍ من المحرَّم، سنة سبعٍ من البعثةِ، وقال ابنُ إسحاق وموسى بن عُقبةَ وغيرهما من أصحابِ ((المغازي)): لمَّا رأت قريشٌ وكنانةُ أنَّ الصَّحابةَ ♥ قد نزلوا أرضاً أصَابوا بها أماناً، وأنَّ عُمر أسلمَ، وأنَّ الإسلامَ فشَا في القبائلِ أجمعُوا على أنْ يقتُلوا رسولَ الله صلعم، فبلغَ ذلك أبا طالبٍ، فجمعَ بني هاشمٍ وبني المطَّلب فأدخُلوا رسول الله شِعبَهم، ومنعوهُ ممَّن أرادَ قتلَه، فأجابُوه إلى ذلك، حتَّى كفَّارهُم فعلوا ذلك حميَّةً على عادةِ الجاهليَّة، فلمَّا رأتْ قريشٌ وكنانةُ ذلك اجتمَعُوا على أن يكتبُوا بينهم وبينَ بني هاشمٍ وبني المطَّلبِ كتاباً، على أنْ لا يعامِلوهُم ولا يُناكحُوهم حتَّى يُسلِّموا إليهم رسولَ اللهِ ففعَلوا ذلك، وعلَّقوا الصَّحيفَةَ في جوفِ الكعبةَ، وكان كاتبها منصورُ بن عكرمةَ بنِ عامر بنِ هاشم بن عبدِ مناف بنِ عبدِ الدَّار بن قصيٍّ، فشُلَّت أصابعُه، ويُقال: إنَّ الَّذي كتبها النَّضر بنُ الحارثِ، وقيل: طلحةُ بنُ أبي طلحةَ العبدريُّ، وقيل: بغيضُ بن عامرِ بنِ هشامٍ، قال ابنُ إسحاق: فانحازتْ بنو هاشمٍ وبنو المطَّلبِ إلى أبي طالبٍ، فكانوا كلُّهم معه إلَّا أبا لهبٍ، فكانَ مع قريشٍ، فأقامُوا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، وجزمَ بالثَّلاث موسى بن عُقبة / حتَّى جهدوا واشتدَّ عليهم البلاءُ، ولم يكنْ يأتيهِم شيء من القوتِ إلَّا خِفيةً، حتَّى كانوا يؤذونَ من اطَّلعوا على أنَّه أرسلَ إلى بعضِ أقاربهِ شيئاً مِن الصِّلةِ إلى أن قامَ في نقضِ الصَّحيفَةِ جماعةٌ، من أشدِّهم اعتناءً في نقضِها هشام بن عَمرو بن الحارثِ العامريُّ، ثمَّ مشَى إلى زهيرِ بنِ أبي أميَّة، فكلَّمَه في نقضِها فوافقَه، ومشيَا إلى المطعمِ بن عديٍّ وإلى زمعةَ بنِ الأسود، فاجتمَعُوا على ذلك، فلمَّا جلسُوا في الحجرِ وتكلَّمُوا به وأنكرُوهُ وتواطؤوا عليه، قال أبو جهلٍ لعنهُ الله: هذا أمرٌ قُضي بليلٍ _وفي لفظٍ: بُيِّتَ بليلٍ_ ثمَّ اتَّفقوا على إخراجِ الصَّحيفَةِ من الكعبةِ، فأخرَجُوها ومزَّقوهَا وأبطَلوا حكمَها، وذكرَ ابنُ هشامٍ أنَّهم وجدُوا الأرَضَةَ أكلَتْ جميعَ ما فيها إلَّا اسم الله تعالى.
          وقال ابنُ إسحاق وموسى بنُ عقبةَ وعُروة: لم تدَعِ الأرَضَة اسماً لله تعالى إلَّا أكلتْه، وبقيَ ما فيها من الظُّلمِ والقطيعةِ، فليُتأمَّل.
          وأطلعَ الله نبيَّه على ذلك قبلَ إخراجَها، فأخبرَ عمَّه أبا طالبٍ بذلك فقال: أربُّك أخبرَك بذلك؟ قال: ((نعم)) فقال أبو طالبٍ: لا والثَّواقب ما كذَبْتَني، ثمَّ خرجَ فقال: يا معشرَ قريشٍ، إنَّ ابن أخِي أخبرَني أنَّ اللهَ ╡ قد سلَّطَ على صحيفتِكُم الأرَضةَ، فإن كان كما يقولُ فلا والله لا نسلمه حتَّى تمزقَ من عندِ آخرها، وإن كان الذي يقولُ باطلاً دفعْنا إليكم صَاحبَنا قتلتُم أو استحييتُم، فقالوا: قد رضينَا بالذي تقولُ، ففتحُوا الصَّحيفةَ فوجدُوها كما أخبر الصَّادق ◙، فقالوا: هذا سحرُ ابن أخيك، فما زادهُم ذلك إلَّا بغياً وعُدواناً، فلا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله، فحينئذٍ مزَّقوا الصَّحيفَةَ وخرجُوا من الشِّعبِ، وكان خروجُهم منه سنةَ عشرٍ من المبعثِ قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سِنين.
          قالَ في ((الفتح)): ولمَّا لم يثبتْ عند البخاريِّ شيءٌ من هذه القصَّة اكتفَى بإيرادَ حديثِ أبي هريرةَ؛ لأنَّ فيه دلالةً على أصلِ القصَّة.