الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة

          ░45▒ (باب هِجْرَةُ النَّبِيِّ صلعم وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ): إضافة ((هجرةُ)) إلى ((النبيِّ)) من إضافةِ المصدرِ لفَاعلِه، وسقطَ لفظَ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ.
          قال في ((الفتح)): أمَّا هجرتُه ◙ إلى المدينةِ فجاءَ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ اللهَ أذنِ لنبيِّه ◙ في الهجرةِ إلى المدينةِ بقولهِ تعالى في سورة الإسراء: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]، أخرجه التِّرمذيُّ وصحَّحه هو والحاكمُ، وجزم ابن إسحاق بأنَّه ◙ خرج من مكَّة أوَّل يومٍ من ربيعٍ الأوَّل.
          قالَ في ((الفتح)): فعلى هذا يكون بعدَ بيعة العقبة بشهرَين وبضعة عشرَ يوماً، وقدمَ المدينةَ لاثنتَي عشرة ليلةً خلت من ربيعٍ الأول، وكان خروجُه يوم الخميس، وأمَّا هجرةُ أصحَابه فتوجَّه معه منهم أبو بكرٍ الصِّدِّيق وعامرُ بن فُهَيرة، وتوجَّه قبل ذلك بينَ العقبتَين جماعةٌ منهم ابن أمِّ مَكتوم، ويُقال: أوَّل مَن هاجر إلى المدينة أبو سلَمةَ بن عبدِ الأسدِ المخزوميُّ زوج أمِّ سلَمة؛ لأنَّه أُوذي لمَّا رجع من الحبشةِ.
          وأسندَ ابنُ إسحاق عن أمِّ سلمة: أنَّ أبا سلمةَ أخذَها معه، فردَّها قومُها فحبسُوها سنةً، ثمَّ انطلقَتْ فتوجَّهَتْ في قصَّةٍ طويلةٍ، وفيها: فقدِمَ أبو سلمةَ المدينةَ بُكرةً، بعدَه عامرُ بن / ربيعةَ حليفُ بني عَدِيٍّ عشيَّةً، وكانَ هو أوَّل مَن هاجرَ بعدَ بيعةَ العقبةِ على ما قاله ابنُ إسحاقَ، لكنْ سيأتي في البابِ بعدَ هذا قولُ البَراء: أوَّل مَن قدمَ علينا من المهَاجرين مُصعَب بنُ عُمَير، ثمَّ توجَّه باقي الصَّحابةِ شيئاً فشيئاً، ثمَّ لما توجَّه النبيُّ صلعم واستقرَّ بها خرجَ مَن بقيَ من المسلمين، وكان المشركونَ يمنعونَ مَن قدروا على منعِهِ منهم، فكانَ أكثرُهم يخرجُ سرًّا إلى أنْ لم يبقَ منهم بمكَّة إلَّا مَن غُلِبَ على أمرِهِ من المستضعفِين.
          (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ): ممَّا وصلهُ المصنِّفُ في غزوةِ حنينٍ (وَأَبُو هُرَيْرَةَ): ممَّا تقدَّم موصُولاً في مناقبِ الأنصَارِ.
          (☻ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ): قاله ◙ جواباً لقولهم: أمَّا الرَّجل فقد أحبَّ الإقامةَ بموطنِهِ بمكَّة؛ أي: لولا الهجْرةُ لكنتُ أنصَاريًّا صرفاً، فلم يمنعْنِي من المقَامِ بمكَّة مانعٌ إلَّا أنِّي اتَّصفْتُ بصفَةِ الهجْرةِ، والمهاجرُ لا يُقيم بالبلد الَّتي هاجر منها مُستوطناً، فلتطمئنَّ قلوبُكُم بعدمِ التحوُّلِ عنكُم.
          (وَقَالَ أَبُو مُوسَى): أي: عبدُ اللهِ بنُ قيسٍ الأشعريُّ؛ أي: ممَّا يأتي في غزوةِ أُحُد (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي): بفتحِ الهمزةِ.
          (أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا): أي: فيها (نَخْلٌ): بسكونِ الخاءِ المعجمَةِ (فَذَهَبَ): بفتحَاتٍ؛ أي: فصَارَ (وَهَلِي): بفتحِ الواوِ والهاءِ، وتُسكَّن الهاءِ؛ أي: ظنِّي، يقال: وَهَل _بفتحِ الهاءِ_ يَهِل _بكسرها وحذف الواوِ_ وهْلًا _بسكونِها_ إذا ظنَّ شيئاً فتبيَّن الأمرُ بخلافِهِ.
          (إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ): بفتحِ التَّحتيَّة وتخفيفِ الميمَين بينهمَا ألفٌ، مدينةٌ من اليمنِ على مرحَلتَين، وهي بلدُ مُسيلَمةَ الكذَّاب.
          (أَوْ هَجَرُ): بفتحِ الهاءِ والجيمِ، ولأبي ذرٍّ: <الهجر> بأل الَّتي للَّمحِ، بلدٌ معروفٌ من البحرَين، كانَتْ تُعمَل بها القِلالُ؛ وهي مساكنُ عبدِ القيسِ، وقيل: هي قريةٌ بقرب المدينة.
          قال في ((الفتح)): وهو خطأٌ، فإنَّ الذي يُناسِب أن يهاجرَ إليه لا بدَّ وأن تكونَ بلداً كبيرةً كثيرةَ الأهلِ، والتي بقربِ المدينةِ لا يعرفُها أحدٌ، وإنَّما زعمَها بعضُ الناسِ في قولِهِ: قلال هَجَر، ونقلَ عن ياقوتِ أنَّ هَجَر أيضاً بلدٌ باليَمنِ، قال: فهذا أولى، للتردُّدِ بينهَا وبينَ اليمَامةِ، واعترضَ العينيُّ على ((الفتح)) فقالَ: أرادَ الردَّ على الكرمَانيِّ، وليسَ ما قالَه بخطأٍ، فهذا ياقوت ذكرَهُ في المشتركِ، فكيفَ يقول: لا يعرفها أحدٌ؟! وقولُه: لا بدَّ وأن يكون... إلخ غيرُ مسلَّمٍ، فمَن الذي شرطَ هذا الشَّرطَ؟ مع أنَّه ◙ لا ينزلُ في موضعٍ إلَّا ويكثرُ أهلُه، انتهى كما في ((الفتح)) ملخَّصاً فتأمَّله.
          وقوله: (فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ): بسكونِ المثلَّثة وكسرِ الرَّاء، بدلٌ أو عطفُ بيانٍ لـ((المدينة)) الواقعة خبر ((هي)) الراجع للأرضِ المذكورةِ.
          قالَ في ((التنقيح)): خاطبهُم بما يعرفونَ، وإلَّا فقد نهاهُم بعدُ عن تسميتَها بذلكَ.
          وقالَ / في ((الفتح)): كانَ هذا قبلَ أن يسمِّيَها ◙ طَيبةَ، قال: ووقعَ عندَ البيهقيِّ من حديثِ صُهَيب رفعَه: ((أُريتُ دارَ هجرتِكُم سبخةً بينَ ظهراني حرَّتَين، فإمَّا أن تكونَ هَجَر أو يَثْرِبَ)) ولم يذكرِ اليمامةَ.
          وللتِّرمذيِّ من حديثِ جريرٍ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((إنَّ اللهَ تعالى أوحى إليَّ: أيَّ هؤلاء الثلاثةَ نزلتَ فهي دارُ هجرتكَ: المدينةَ أو البحرَين أو قِنِّسرينَ)).
          قال: وفي ثبوتِه نظرٌ؛ لمخالفتِه لِمَا في ((الصحيح)) مِن ذِكْر اليمامةِ؛ لأنَّ قِنِّسرينَ من أرضِ الشَّام من جهة حلبَ، بخلاف اليمَامةِ فإنَّها إلى جهة اليمنِ، إلَّا إنْ حُمِل على اختلافِ المأخذِ، انتهى فتأمَّلْه.