الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب وفود الأنصار إلى النبي بمكة وبيعة العقبة

          ░43▒ (بَابٌ: وُفُودُ): بضمِّ الواوِ والفاءِ، جمع وَفْدٍ، بفتحِ الواوِ وسكونِ الفاءِ، وهو القادم على القوم، ويُجمع أيضاً على أوفادٍ، والأظهرُ أنَّه مصدر وَفَد من بابِ وَعَدَ؛ أي: قدوم.
          (الأَنْصَارِ): هم: الأوسُ والخزرجُ (إِلَى النَّبِيِّ صلعم): متعلِّقٌ بـ((وفود)) (بِمَكَّةَ): حالٌ مِن ((النَّبيِّ)) (وَبَيْعَةُ): بفتحِ الموحَّدة، عطفٌ على ((وفود)) (الْعَقَبَةِ): بفتحاتٍ، مضافٌ إليه، وهي التي تُنسَب إليها جمرةُ العقبةِ، وهي بمنًى من جهةِ مكَّة، وسقطَ لفظُ: <باب> فقط لأبي ذرٍّ، فـ((وفود)) مرفوعٌ خبرٌ لمحذوفٍ.
          قال في ((الفتح)): ذكر ابنُ إسحاقَ وغيرُه أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يعرضُ نفسَهُ على القبائلِ، فيدعُوهم إلى اللهِ تعالى، وقد خرجَ أوَّلاً بعدَ موتِ عمِّه أبي طالبٍ إلى ثقيفٍ بالطَّائف يدعُوهم إلى الإسلامِ ونصرِه، فلمَّا امتنعُوا من ذلك رجعَ إلى مكَّة، واستمرَّ يعرضُ نفسَه في كلِّ موسمٍ على القبائلِ عشرَ سنين، ولقيَ عندَ عقبة منًى أوَّل مرَّةٍ ستَّة نفرٍ من الخزرج، وهم أبو أُمامة أسعد بن زُرَارة وعوفُ بن الحارث وأمُّه عفراء ورافع بن مالكٍ العجلانيُّ وقطبة بن عامر بن حديدة وعُقبة بن عامرٍ وجابر بن عبد الله بن رباب.
          وقيل في بعضِهم غير ذلك، فدعاهُم النَّبيُّ ◙ إلى الإسلامِ فأسلمُوا، وقالوا: إنَّا تركنَا قومنَا وبينهم حروبٌ، فنعودُ فندعُوهم إلى / ما دعَوتَنا إليه، فلعلَّ اللهَ أن يجمعَهُم بك، فإذا اجتمَعُوا كلُّهم عليكَ واتَّبعوكَ فلا أحدٌ أعزُّ علينا منكَ، وانصرَفُوا إلى المدينةِ ودَعُوا قومَهم إلى الإسلامِ فأسلمُوا، ولم تبقَ دارٌ من دُور الأنصَار إلَّا وفيها ذكْرُ رسُولِ اللهِ، فلمَّا كان العام المقبل قدمَ منهم مكَّة اثنا عشرَ رجلاً، منهم خمسةٌ مِن السِّتَّة المذكورين آنفاً، وهُم ما عدَا ابن ربابٍ، وبقيَّة الاثني عشرَ معاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابنُ عفراء أخو عوفٍ المذكور، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزُّرَقي، وعُبادة بن الصَّامت بن قيس بن حرامٍ، وأبو عبد الرَّحمن يزيد بن ثعلبة البَلَويُّ حليف بني عصية من بِلى، والعبَّاس بن عُبادَة بن نضْلَة، وهؤلاء من الخزرجِ.
          ومن الأوسِ رجلان: أبو الهيثمِ بن التَّيِّهَان من بني عبد الأشهل، وعُوَيمُ بن ساعدَةَ من بني عَمرو بن عوفٍ وحليفٌ لهم، فبايعوهُ عندَ العقبةِ على بيعةِ النِّساء، وبعثَ معهم صلعم ابنَ أمِّ مكتومٍ ومصعب بن عميرٍ يعلِّمُ مَن أسلم منهم القرآنِ وشرائعَ الإسلامِ، ويدعُو مَن لم يُسلمْ إلى الإسلام، فأسلمَ على يدِ مصعَبٍ خلقٌ كثيرٌ من الأنصَار، ولم يبقَ في بني عبد الأشهل أحدٌ من الرِّجال والنِّساء إلَّا أسلم، حاشا الأصرم عَمرو بن ثابت بن وقشٍ، فإنَّه تأخَّر إسلامُه إلى يوم أُحدٍ فأسلم واستشهدَ ولم يسجدْ لله سجدةً واحدةً، وأخبرَ ╕ أنَّه من أهل الجنَّة، ثمَّ خرجَ جماعةٌ كثيرةٌ ممَّن أسلمَ من الأنصَار يريدون لقاءَهُ صلعم في جملة قومٍ كفَّارٍ منهم، فوافَوا مكَّة فواعدُوه العقبةَ من أوسطِ أيَّام التَّشريقِ، فبايعُوه عندَ العقبةِ على أن يمنعُوه ممَّا يمنعُون منه أنفسَهم ونساءهُم وأبناءهُم، وأن يرحلَ إليهم هو وأصحَابه، وحضَرَ العبَّاسُ تلكَ اللَّيلةِ موثقاً لرسول الله صلعم ومؤكِّداً على أهلِ يثربَ، وكانَ يومئذٍ على دِينِ قومِهِ، وكانَ للبرَاءِ بنِ مَعرورٍ في تلكَ اللَّيلة المقامُ المحمُود في التَّوثُّق، وكانَ المبايعونَ تلك اللَّيلةَ سبعينَ رجلاً وامرأتين.
          وقال في ((الفتح)) بعدَ كلامٍ: ثمَّ خرجنَا إلى الحجِّ ووعدْنَاه العقبةَ، ومعنا عبدُ الله بن عَمرٍو والد جابرٍ، ولم يكنْ أسلمَ، فعرَّفناه أمرَ الإسلامِ فأسلمَ حينئذٍ وصارَ من النُّقباء، قال: فاجتمعْنَا عندَ العقبةِ ثلاثةً وسبعين رجلاً ومعنَا امرأتان، انتهى فتأمَّله.