الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب حديث الإسراء

          ░41▒ (بَابُ حَدِيثِ الإِسْرَاءِ): بكسرِ الهمزةِ والمدِّ، سقطَ لفظ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): برفع ((قول)) وجرِّه ({سُبْحَانَ الَّذِي}): أي: تنزَّه الله الذي ({أَسْرَى بِعَبْدِهِ}): متعلِّقٌ بـ{أَسْرَى} كقوله: ({لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]): يعني: إلى بيتِ المقدس، وسقطَ لأبي ذرٍّ قوله: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلخ، و{سُبْحَانَ} في الأصلِ مصدر سبَّح، كغُفْران مصدر غَفَر.
          وقال أبو البقَاء: {سُبْحَانَ}: علَمٌ للتَّسبيحِ من المعَاني، كعُثْمان علَمٌ للذَّاتِ من الأشخَاصِ، فهو ممنوعٌ من الصَّرفِ.
          قال ابنُ الحاجبِ: الدَّليلُ على أنَّ {سُبْحَانَ} علَمٌ للتَّسبيحِ قول الشَّاعر:
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ
          قال: ولولا أنَّه علمٌ لوجبَ صرفُه؛ لأنَّ الألف والنُّون في غيرِ الصِّفاتِ إنَّما تمنعانِ معَ العلميَّة، ولا تُستعمَلُ علَماً إلَّا شاذًّا كالبيتِ، ولكنْ أكثرُ استعمَالهِ بالإضَافةِ كالآيةِ، وقيل: ((من)) في البيتِ زائدةٌ.
          قال في ((الفتح)): وأصلُ {سُبْحَانَ} للتَّنزيهِ، وتُستعملُ في التَّعجُّبِ، فعلى الأوَّل المعنى: تنزَّه الله عن أنْ يكونَ رسُوله كذَّاباً، وعلى الثَّاني: عجبَ اللهُ عبادَه بما أنعمَ على رسولهِ.
          قال: ويحتملُ أن يكونَ بمعنى الأمرِ؛ أي: سبِّحوا الذي أسرَى بعبدِهِ، وقال الرَّاغبُ: السَّبحُ: المرُّ السَّريعُ في الماءِ أو الهوَى.
          يُقال: سَبَح سَبْحاً وسِبَاحةً، واستُعيرَ لمرِّ النُّجومِ في الفلكِ كقولهِ تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، ولجري الفرسِ كقولهِ تعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:3]، ولسرعةِ الذَّهابِ في العملِ كقولهِ تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7].
          والتَّسبيحُ أصله: التَّنزيهُ للبَاري جلَّ وعلا، والمرادُ: السَّريعُ في عبادتِهِ ╡، وجعلَ ذلك في فعلِ الخيرِ كما جعلَ الإبعادَ في فعلِ الشَّرِّ، يقال: أبعدَه، ثمَّ جعلَ عامًّا في العباداتِ قولاً كانتْ أو فعلاً أو نيَّةً.
          وأسرى وسرَى بمعنًى، مأخوذٌ من السُّرى، وهو سيرُ اللَّيلِ، وهذا عندَ الأكثرين، وقال الحربيُّ: أسرى: سارَ ليلاً، وسرَى: سارَ نهاراً، وقيل: أسرَى: سارَ من أوَّل اللَّيلِ، وسرى: سارَ مِن آخرِه، قال في ((الفتح)): وهذا أقربُ، وقال السُّهيليُّ: تسامحَ اللُّغويُّون في أنَّ أسرى وسرَى بمعنى واحد، فقد اتَّفقَتْ الرُّواة على تسميةِ الإسراءِ به ◙: إسراء، ولم يسمِّه أحدٌ منهم: سرى، فدلَّ على أنَّهم لم يحقِّقوا فيه العبارةَ، ولذلك لم يختلفُوا في تلاوةِ: {أَسْرَى} وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] فدلَّ على أنَّ السُّرى _بضمِّ السِّين_ مِن سريتُ: إذا سِرْتَ ليلاً، والسُّرى مؤنَّثةٌ، تقول: طالتْ سرَاك اللَّيلةِ، والإسراء متعدٍّ لمفعولٍ واحدٍ، لكنَّه حذفَ كثيراً حتى ظُنَّ أنَّهما بمعنى.
          والمرادُ بـ{أَسْرَى بِعَبْدِهِ} البراقُ، جعلَ البُراقَ سارياً به، فحذفَ المفعول المدلولَ عليه بالسِّياق؛ لأنَّ المقصُود ذكْرُ العبدِ دون البُراق الَّذي سري به، والمرادُ بعبدِه محمَّدٌ صلعم اتِّفاقاً، وفاعل {أَسْرَى} ضميرٌ يرجعُ إلى الذي مرادُ به الله، وإضَافة العبدِ للضَّميرِ للتَّشريفِ.
          وفائدةُ ذِكرِ {لَيْلًا} معَ أنَّ الإسراءَ لا يكونُ إلَّا فيه للتَّأكيدِ، أو رفع توهُّم المجازِ، أو الإشارة إلى تقليلِ مُدَّتهِ / لتنكيرِ {لَيْلًا} وأنَّه كانَ في قدرِ لحظةٍ مع بُعْد ما بينَ المكانينِ، أو للإشارةِ إلى أنَّه وقعَ في بعضِه، تقول العربُ: سرى فلانٌ ليلاً: إذا سارَ بعضُه، وسرى ليلةً: إذا سارَ جميعُها.
          وقيل: لا يُقال: أسرَى ليلاً إلَّا إذا وقعَ المسيرُ في أثناءِ اللَّيلِ، وإذا وقعَ في أوَّله يقال: أدلجَ، ومن هذا قولُه تعالى في قصَّة موسَى وبنِي إسرائيلَ: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان:23] يعني: مِن وسطِهِ، فتأمَّل.
          والحكمةُ في إسرائِهِ إلى بيتِ المقدسِ قبلَ العروجِ إلى السَّماواتِ؛ ليجتمِعَ له ◙ في تلكَ اللَّيلةِ رؤية القبلتَين، أو لأنَّ بيتَ المقدسِ كانَ هجرة غالبِ الأنبياءِ إليه، فجُمِعَ له بينَ أشتاتِ الفضَائل، أو لأنَّه محلُّ المحشرِ، وغالبُ ما اتَّفقَ له تلكَ اللَّيلة يُناسِبُ الآخرةَ، فكان المعراجُ من بيتِ المقدسِ أليقَ بذلك، أو للتَّفاؤلِ بحصُولِ أنواعِ التَّقديسِ له حسًّا ومعنًى، أو ليجتمعَ بالأنبياءِ جملةً كما سيأتي، أو ليحصلَ له العُروجُ مستوياً من غير تعرُّجٍ.
          فعن كعبٍ الأحبار: أنَّ بابَ السَّماء الذي يُقال له: مصعدَ الملائكةِ يُقابلُ بيتَ المقدسِ، ونظرَ في هذا الوجهِ في ((الفتح)): بأنَّه وردَ أنَّ في كلِّ سماءٍ بيتاً معمُوراً، وأنَّ الذي في سماءِ الدُّنيا حيالَ الكعبةِ، فكانَ المناسبُ العُروجُ من مكَّة ليصلَ إليه من غيرِ تعويجٍ.
          وقال العارفُ ابنُ أبي جمرةَ: الحكمةُ في ذلكَ إرادةُ إظهارِ الحقِّ لمعاندَةِ مَن يُريدُ إخمادَه؛ لأنَّه لو عرجَ به من مكَّةَ إلى السَّماءِ لم يجدْ لمعَاندةِ الأعداءِ سبيلاً إلى البيانِ والإيضَاحِ، فلمَّا ذكرَ أنَّه أُسرِي به إلى بيتِ المقدسِ سألوهُ عن أشياءَ مِن بيتِ المقدسِ يعرفُونها، وعلمُوا أنَّه لم يكنْ ◙ رآها، فلمَّا أخبرَهُم بها حصلَ التَّحقيقُ بصدقِهِ فيما ذكرَهُ من الإسراءِ إلى بيتِ المقدِسِ في ليلةٍ، وإذا ثبتَ خبرهُ وصِدقُه في ذلك لَزِمَ تصدِيقُه في كلِّ ما أخبرَ به.
          وقيل: لأنَّ بيتَ المقدس أقربُ إلى السَّماء بثمانية عشرَ ميلاً، وقيل لغير ذلك، والعلمُ عندَ الله تعالى.
          تنبيهٌ: الإسراءُ يُغاير المعراجَ؛ لأنَّ الأوَّل من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى، والثَّاني من بيتِ المقدسِ إلى السَّماواتِ إلى حيثُ شاءَ الله، وقد يُطلَق أحدُهما على الآخرِ، واختُلِفَ في أنَّهما كانا في ليلةٍ أو في أكثر.
          قال ابنُ دحيةَ: جنحَ البُخاريُّ إلى أنَّ ليلةَ الإسراء كانت غيرَ ليلةِ المعراجِ؛ لأنَّه أفردَ لكلٍّ منهما ترجمةً، وردَّه في ((الفتح)): بأنَّه لا دلالةَ في ذلك على التَّغايرِ عندَه، بل كلامُه في أوَّل الصَّلاة ظاهرٌ في اتِّحادِهما؛ لأنَّه ترجمَ بقوله: باب كيف فُرِضَتِ الصَّلاة ليلةَ الإسراءِ، والصَّلاة إنما فُرِضَتْ في المعراجِ، فدلَّ على اتِّحادهما عندَه، وإنَّما أفردَ كلَّ واحدٍ منهما بترجمةٍ؛ لاشتمَالهِ على قصَّة منفردَةٍ وإن وقعا معاً في ليلةٍ واحدةٍ.
          وقد اختلفَ السَّلف في ذلك بحسبِ اختلافِ الأخبارِ الواردَةِ فيه، فمنهم مَن ذهبَ إلى أنَّ الإسراءَ والمعراجَ / وقعا في ليلةٍ واحدةٍ يقظةً بجسدِ النَّبيِّ صلعم وروحِهِ بعدَ المبعثِ، وإليه ذهبَ الجمهورُ من المحدِّثين والفقهاءِ والمتكلِّمين، وتواردَتْ عليه ظواهرُ الأخبارِ الصَّحيحةِ، ورواه من الصَّحابةِ نحو الأربعين عن النَّبيِّ صلعم.
          وليسَ في العقلِ ما يحيل تعدُّده حتَّى يحتاجَ إلى تأويلٍ، نعم جاءَ في بعضِ الأخبارِ ما قد يُخالِفُ ذلك، فلذا جنحَ بعضُهم إلى أنَّه وقعَ مرَّتين، مرَّةً أولى في المنامِ تمهيداً وتوطِئةً، ومرَّةً ثانيةً في اليقظةِ، كما وقعَ نظيرُ ذلك في ابتداءِ مجيءِ جبريل بالوحِي، وإلى هذا ذهبَ المهلَّبُ وحكاهُ عن طائفةٍ، وأبو نصرِ بن القشيريِّ، ومِن قبلهُم أبو سعدٍ في ((شرفِ المصطفَى)) قال: كان للنَّبيِّ صلعم معاريج منها في اليقظةِ ومنها في النَّوم، وحكاهُ السُّهيليُّ عن ابنِ العربيِّ واختارَه، وجوَّز بعضُ القائلين بذلكَ أن تكون قصَّة المنامِ وقعَتْ قبلُ؛ لقولِ شريكٍ في روايتهِ عن أنسٍ: ((وذلك قبلَ أن يُوحَى إليه)) وحينئذٍ فلا يكونُ قوله المذكورُ وهماً.
          وقال بعضُ المتأخِّرين: كانت قصَّة الإسراءِ والمعراجِ في ليلةٍ واحدةٍ تمسُّكاً بروايةِ شريكٍ عن أنسٍ، وبروايةِ مالكِ بنِ صَعْصَعةَ، ولكن هذا لا يستلزمُ التَّعدُّد؛ لجوازِ أنَّه محمُولٌ على أنَّ بعضَ الرُّواة ذكرَ ما لم يذكرهُ الآخر.
          وذهبَ بعضٌ آخر إلى أنَّ الإسراءَ كان في اليقظَةِ، والمعراجُ في المنامِ، وأنَّ الاختلافَ في كونهِ يقظةً أو مناماً خاصٌّ بالمعراجِ، ولذلك لمَّا أخبرَ قريشاً كذَّبوه في الإسراءِ ولم يستعرضُوا للمعراجِ، وأيضاً فإنَّ اللهَ ذكرَ الإسراءَ ولم يذكرِ المعراجَ، ولو وقعَ يقظةً لكان ذكْرُه أحرى؛ لأنَّه أبلغُ، فكمَاله أعجبُ وأغربُ من الإسراءِ بكثيرٍ، فدلَّ على أنَّه كان مناماً، ولو كانَ الإسراءُ مناماً لَما استنكرُوهُ.
          وقيل: كانَ الإسراء مرَّتين في اليقظةِ، ففي الأولى رجعَ من بيتِ المقدسِ وأخبرَ قريشاً بما وقعَ، وفي الثَّانية أُسرِي به إلى بيتِ المقدسِ ثم عُرِج به من ليلتهِ إلى السَّماء في أسرعِ من طُرفة عينٍ، واعتقدُوا استحالتَه مع قيامِ الحُجَّة عليهم بالمعجزاتِ، فعاندُوا واستمرُّوا على تكذيبهِ فيه، بخلافِ إخبارهِ بمجيئِهِ بيتَ المقدسِ؛ لمعرفتهِم به معَ إمكانِ استعلائهِم عن ذلك، بخلافِ المعراجِ، ويؤيِّد وقوعَ المعراجِ عقِبَ الإسراء في ليلةٍ واحدةٍ روايةُ أنسٍ عند مسلمٍ ففيها: ((أتيتُ بالبُراقِ فركبْتُهُ حتَّى أتيتُ بيتَ المقدِسِ)) فذكرَ القصَّة إلى أن قال: ((ثمَّ عرجَ بنا))، وروايةُ أبي سعيدٍ الخدريِّ عندَ ابن إسحاقَ: ((فلمَّا فرغتُ ممَّا كانَ في بيتِ المقدِسِ أُتِيتُ بالمعراجِ)) الحديث.
          واحتجَّ مَن زعمَ أنَّ الإسراءَ وقعَ وحدَه بما أخرجَه البزَّارُ والطَّبرانيُّ وصحَّحه البيهقيُّ في ((الدَّلائل)): عن شدَّاد بن أوسٍ قال: قُلنا: يا رسولَ الله، كيف أُسرِي بك؟ قال: ((صلَّيتُ صلاةَ العتَمَةِ بمكَّةَ، فأتانِي جبريلُ بدابَّةٍ)) فذكرَ الحديثَ في مجيئهِ بيتَ المقدسِ، وما وقعَ له فيه قال: ((ثمَّ انصرفَ بي، فمرَرنا بِعِيرٍ لقريشٍ بمكانِ كذا)) فذكره، قال: ((ثمَّ أتيتُ أصحَابي قبلَ الصُّبحِ / بمكَّةَ)).
          وفي حديثِ أمِّ هانئٍ عندَ ابنِ إسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديثِ أبي سعيدٍ هذا، فإن ثبتَ أنَّ المعراجَ كان مناماً على ظاهرِ روايةِ شريكٍ عن أنسٍ، فينتظمُ من ذلك أنَّ الإسراءَ وقعَ مرَّتين، مرَّةً على انفراده ومرَّةً مضمُوماً إليه المعراجُ، وكلاهما في اليقظةِ، وأنَّ المعراجَ وقعَ مرَّتين، مرَّةً في المنامِ على انفرادِهِ توطئةً وتمهيداً، ومرَّةً في اليقظَةِ مضمُوماً إلى الإسراء، وأمَّا كونُه قبلَ البعثِ فلا يثبتُ.
          قالَ: وجنَحَ أبو شامةَ إلى وقوعِ المعراجِ مراراً، واستندَ إلى ما أخرجَه البزَّار وسعيدُ بن منصُورٍ عن أنسٍ رفعه، قال: ((بينا أنا جالسٌ إذ جاءَ جبريلُ فوكزَ بين كتفِي، فقُمنَا إلى شَجرةٍ فيها مثلُ وكري الطَّائرِ فقعدْتُ في أحدِهِما، وقعدَ جبريلُ في الآخَرِ، فارتفعَتْ حتَّى سدَّتْ الخافقين)) الحديث.
          وفيه: ففتحَ لي من السَّماء، ورأيتُ النُّورَ الأعظمَ، وإذا دونَه حجابُ رفرفِ الدُّر واليَاقوتِ، ورجاله لا بأسَ بهم، إلَّا أنَّ الدَّارقطنيَّ ذكرَ له علَّةً تقتضِي إرسالَه، وعلى كلِّ حالٍ فهي قصَّةٌ أخرى، الظَّاهرُ أنَّها وقعتْ بالمدينةِ، ولا بُعْد في وقوعِ أمثَالها، وإنَّما المستبعَد وقوعُ التَّعدُّد في قصَّةِ المعراجِ التي وقعَ فيها سُؤاله عن كلِّ نبيٍّ، وسؤال أهل كلِّ باب هل بعثَ إليه وفرضَ الصَّلوات الخمسِ وغير ذلك، فإنَّ تعدُّد ما ذكرَ في اليقظةِ لا يتَّجِه، فيتعيَّن ردُّ بعضِ الرواياتِ المختلفَةِ إلى بعضٍ والتَّرجيحُ، ولا بُعْد في وقوعِ جميع ذلك في المنامِ توطئةً، ثمَّ وقوعُه في اليقظةِ على وفقهِ كما قدَّمته، انتهى فتأمَّله.