الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب بنيان الكعبة

          ░25▒ (بَابُ بُنْيَانِ الكَعْبَةِ): سقط لفظ: <باب> لأبي ذرٍّ؛ أي: البيت الحرام، و((بُنيان)): بضم الموحدة من إضافة المصدر إلى مفعوله بعد حذف الفاعل، وهو أحدُ مصادر بني، ولامه ياءٌ، قال في ((القاموس)): البناء: نقيضُ الهدم، بَنَاهُ يَبْنِيهِ بَنياً وبناءً وبنياناً وبنيةً وبنايةً، والبناء: المبنيُّ، والجمع: أبنيةٌ، وجمع الجمع: أبنياتٌ، والبنية _بالكسر والضم_ ما تبنيهِ، والجمع: بنىً _بالضم والكسر_ انتهى.
          ومراد البخاريِّ: بيان بناء الكعبة على يد قريش في حياة النبيِّ صلعم قبل بعثتهِ، وكان عمره عليه الصلاة والسلام حينئذٍ خمساً وعشرين سنةً، كما ذكره ابنُ إسحاق وغيره، وقال الكرمانيُّ: قبل النُّبوَّة بخمس سنين أو خمس عشرة سنةً.
          وروى الفاكهيُّ بسنده إلى عبيد بن عُميرٍ قال: ((كانت الكعبةُ فوقَ القامةِ، فأرادَتْ قريشٌ رفعَهَا وتسقيفَها)) وسيأتي بيانه في الباب الذي يليه، وروى يعقوب بن سفيان بإسنادٍ صحيحٍ عن الزهريِّ: ((أنَّ امرأةً جمَّرت الكعبةَ، فطارت شرارةٌ في ثياب الكعبة فأحرقتْهَا، فأخذت قريشٌ في عمارتها))، وروى إسحاق بن راهويه بسنده عن عليٍّ ☺ في قصَّة بناء إبراهيم البيت قال: ((فمرَّ عليه الدَّهرُ فانهدمَ، فبنَتْه العمالقةُ، قال: فمرَّ عليه الدهرُ فانهدمَ، فبنَته جرهمُ، فمرَّ عليه الدَّهرُ فانهدم، فبنَته قريشٌ ورسولُ الله صلعم يومئذٍ شابٌّ، فلمَّا أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نُحكِّم بيننا أوَّلَ مَن يخرج من هذه السِّكة، وكان النبيُّ صلعم أوَّلَ مَن خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوبٍ، ثم يرفعه مِن كلِّ قبيلةٍ رجلٌ))، ويقرب منه ما في ((أبي داود الطيالسيِّ)) وزاد: ((ثمَّ أخذَه _أي: النبيُّ عليه السلام_ فوضعه بيده في موضعِهِ)).
          وعند موسى بن عقبة: أنَّ الذي أشارَ عليهم أن يحكِّموا أوَّلَ مَن يدخل من باب بني شيبة هو الوليد بن المغيرة المخزوميُّ، وأنَّه قال لهم: لا تجعلوا فيها مالاً أُخِذ غصْباً، ولا قُطِعَت فيه رحمٌ، ولا انتُهِكَت فيه ذمَّةٌ، وقيل: هو غيره.
          واختلفوا في أوَّلِ مَن بنى الكعبةَ؛ فقيل: الملائكة عليهم السلام ليطوفوا بها خوفاً من الله تعالى حين قالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30]...الآيةَ، وقيل: أوَّل مَن بناهَا آدم عليه السَّلام؛ ليطوف بها حين أُهبِطَ من الجنة، وقيل: أوَّل مَن بناهَا شيثُ عليه السلام، وكان في عهدِ آدم البيت المعمور، وقيل: رفع وقت الطُّوفان.
          وقيل: كان ارتفاعُ الكعبة تسعةَ أذرعٍ في عهد إبراهيمَ مِن غير سقفٍ، ولمَّا بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسعةَ أذرعٍ، فصار ارتفاعها ثمانية عشر ذراعاً، ورفعوا بابها عن الأرض، لا يُصعَد إليها إلَّا بدرجٍ أو سلَّمٍ، وذلك حين سرقَ دويكُ مولى بني فليح مالَ الكعبة، وأوَّل مَن عمل لها غلقاً تُبَّعٌ، ثم لمَّا بناها ابن الزبير زاد فيها تسعةَ أذرعٍ أخرى، فصارت / سبعاً وعشرين ذراعاً، وهي على هذا المقدار الآن.
          وسبقَ الحديث في كتاب الحجِّ، في باب فضل مكة وبنيانها، مع ذكر أنَّ عدد مرَّات بناء الكعبة عشرة.