الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ذكر الجن وقول الله تعالى: {قل أوحى إلي أنه استمع نفر من}

          ░32▒ (بَابُ ذِكْرِ الجِنِّ): تقدَّم الكلام على الجنِّ مبسوطاً في أوائل بدء الخلق في بابٍ مستقلٍّ بما يُغني عن إعادته، ولعلَّ المراد من هذا الباب: إسلام بعضهم ليناسب ذكره هنا، فتأمَّله.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بجرِّ ((قول)) ويجوز رفعه، وفي بعض الأصولِ: <╡>: بدل ((تعالى)) ({قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ} [الجن:1]): بفتح همزةِ {أَنَّه}، وهي مع معموليها في تأويل مصدرٍ مرفوعٍ على أنَّه نائب فاعل {أُوحِيَ}، ويجوز عند الكوفيِّين والأخفش أن يكون نائب الفاعل الجارُّ والمجرور، والمعنى: قل يا محمَّد لأمَّتك: أوحى الله إليَّ على لسان جبريلَ عليه السلام أنَّه استمع لِما أُنزل عليَّ نفر الجن.
          والنَّفَر _بفتحتين_: من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، قال العينيُّ: وكانوا تسعةً من جنِّ نصيبين، وقيل: كانوا من بني الشيصبان، وهم أكثرُ الجنِّ عدداً، وهم عامَّة جنود إبليس، وقيل: كانوا سبعةً من اليمن من اليهودِ، وقيل: كانوا مشركين. انتهى، وقال عكرمةُ: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصلِ، وقيل: إنَّ السَّبعة كان ثلاثةٌ منهم من أرض نجران، وأربعةٌ مِن نصيبين _قريةٌ باليمن غير الَّتي بالعراق_ وهؤلاء النَّفر رآهم النَّبيُّ صلعم على ما ذكره القسطلانيُّ لظاهر حديث الباب، قال: وظاهر القرآنِ أنَّه لم يرَهُم.
          وقال في ((الفتح)): قد أنكر ابنُ عبَّاسٍ أنَّهم اجتمعوا بالنَّبيِّ صلعم كما تقدَّم في الصَّلاة من طريق أبي بشرٍ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: ((ما قرأ النَّبيُّ صلعم على الجنِّ ولا رآهم))...الحديث، وحديث أبي هريرةَ في هذا الباب وإن كان ظاهراً في اجتماع النبيِّ صلعم بالجنِّ وحديثه معهم لكنَّه ليس فيه أنَّه قرأ عليهم، ولا أنَّهم الجنُّ الَّذين استمعوا القرآن؛ لأنَّ في حديث أبي هريرةَ أنَّه كان مع النَّبيِّ صلعم ليلتَئذٍ، وأبو هريرة إنَّما قدم على النَّبيِّ صلعم في السَّنة السَّابعة بالمدينة، وقصَّة استماع الجنِّ للقراءة كان بمكَّة قبل الهجرة، وحديث ابن عبَّاسٍ صريحٌ في ذلك، فيُجمَع بين ما نفاه وما أثبته غيرُه بتعدُّد وفود الجنِّ على النَّبيِّ صلعم، فأمَّا ما وقع في مكَّة فكان لاستماع القرآن والرُّجوع إلى قومهم منذِرين كما وقع في القرآنِ، وأمَّا في المدينة فللسُّؤال عن الأحكام، وذلك بيِّنٌ في الحديثين المذكورين.
          ويحتملُ أن يكون القدوم الثَّاني كان أيضاً بمكَّة، وهو الَّذي يدلُّ عليه حديث ابن مسعودٍ كما سنذكره، وأمَّا حديث أبي هريرةَ فليس فيه تصريحٌ بأنَّ ذلك وقعَ بالمدينة، ويحتمل / تعدُّد الوقوع بمكَّة مرَّتين وبالمدينة أيضاً، قال البيهقيُّ: حديث ابن عبَّاسٍ حكى ما وقع في أوَّل الأمر عندما علم الجنُّ بحاله صلعم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرَهم، ثمَّ أتاه داعي الجنِّ مرَّةً أخرى، فذهب معه وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد الله بن مسعودٍ. انتهى.
          قال: وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمدُ والحاكم من طريق زرِّ بن حُبيش عن ابن مسعودٍ قال: ((هبطوا على النَّبيِّ صلعم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلٍ، فلمَّا سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعةً أحدهم زوبعة))، وأخرج مسلمٌ عن علقمة أنَّه قال: ((قلتُ لعبد الله بن مسعودٍ: هل صحب منكُم أحدٌ رسولَ الله ليلةَ الجنِّ؟ قال: لا، ولكنَّا فقدناه ذات ليلةٍ، فقلنا: اغتيل استطير فبتنا شرَّ ليلةٍ، فلمَّا كان عند السَّحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له فقال: أتاني داعي الجنِّ فأتيتهم فقرأت عليهم، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانِهم)).
          قال: وهو أصحُّ ممَّا رواه الزُّهريُّ عن أبي عثمان الخزاعيِّ أنَّه أخبره أنَّه سمع ابن مسعودٍ يقول: ((إنَّ رسول الله قال لأصحابه وهو بمكَّة: مَن أحبَّ منكم أن ينظر اللَّيلة أثر الجنِّ فليفعل، قال: فلم يحضر منهم أحدٌ غيري، فلمَّا كنَّا بأعلى مكَّة خطَّ لي برجله خطًّا ثمَّ أمرني أن أجلس فيه، ثمَّ انطلق ثمَّ قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرةٌ حالت بيني وبينه حتَّى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغَ منهم مع الفجر، ثمَّ انطلق...)) الحديث، قال البيهقيُّ: يحتمل أنَّ قوله في ((الصَّحيح)): ((ما صحبه منَّا أحدٌ)) أي: في حال إقرائه القرآن، لكن قوله فيه: ((إنَّهم فقدوه)) يدلُّ على أنَّهم لم يعلموا بخروجه، إلَّا أن يُحمَل على أنَّ الذين فقدوه غير الذين خرجوا معه، والله أعلم. انتهى.
          ثم قال: والَّذي يظهر من سياق الحديث الَّذي فيه المبالغةُ في رمي الشُّهب لحراسةِ السَّماءِ من استراق الجنِّ السَّمع دالٌّ على أنَّ ذلك كان قبل المبعث النبويِّ وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السَّبب، ولذلك لم يقيِّدِ المصنِّف التَّرجمة بقدومٍ ولا وفادةٍ، قال: ثمَّ لمَّا انتشرت الدَّعوة وأسلم مَن أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدَّد مجيئهم حتَّى في المدينةِ. انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: واعلم أنَّ الأحاديث الَّتي وردت فيما يتعلَّق بالجنِّ تدلُّ على أنَّ وفادتهم على النَّبيِّ عليه السلام كانت ستَّ مرَّاتٍ:
          الأولى: قيل فيها: اغتيلَ واستطير والتمس.
          والثَّانية: كانت بالحجون.
          والثَّالثة: كانت بأعلى مكَّة وانصاغ في الجبال.
          الرَّابعة: كانت ببقيع الغرقدِ، وفي هؤلاء الليالي حضر ابن مسعودٍ وخطَّ عليه.
          الخامسة: كانت خارج المدينةِ وحضرها الزُّبير بن العوَّام.
          السَّادسة: كانت في بعض أسفاره وحضرها بلالُ بن الحارث.
          وقال ابن إسحاق: لمَّا أيس رسول الله صلعم من خبر ثقيفٍ انصرفَ عن / الطَّائف راجعاً إلى مكَّة، حتَّى كان بنخلة قام من جوف اللَّيل يصلِّي، فمرَّ به النَّفر من الجنِّ الذين ذكرهم الله، وهم فيما ذكر لي سبعةُ نفرٍ مِن أهل جنِّ نصيبين، فاستمعوا له، فلمَّا فرغَ مِن صلاته ولَّوا إلى قومهم منذِرين قد آمنوا وأجابُوا إلى ما سمعوا، فقصَّ اللهُ خبرهم عليه فقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله: {أَلِيمٍ} [الأحقاف:29-31] ثمَّ قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ}...إلى آخر القصَّة من خبرهم في هذه السورة.